تسير المباحثات بين سوريا و”إسرائيل” بوتيرة متسارعة نحو “اتفاق أمني” لا يزال غير واضح المعالم، على وقع انتهاكات إسرائيلية متواصلة داخل الأراضي السورية بذرائع متعددة، رافقتها أحلام وطروحات لمشاريع أكبر تتجاوز المخاوف الأمنية، بعد حوالي 10 أشهر من سقوط النظام السوري السابق.
وفي أحدث تأكيد رسمي على اقتراب التوصل إلى الاتفاق، قال الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، في 17 من سبتمبر/أيلول الحالي، إن المفاوضات الجارية مع “إسرائيل” للتوصل إلى اتفاق أمني قد تؤدي إلى نتائج في الأيام المقبلة، معتبرًا أن الاتفاقية الأمنية “ضرورة”، وأنها تتطلب احترام المجال الجوي السوري ووحدة أراضيه، وأن تخضع لمراقبة الأمم المتحدة.
ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 من ديسمبر/ كانون الأول 2024، تواصلت التصريحات الرسمية السورية بالتأكيد على الالتزام باتفاق فضّ الاشتباك الموقع عام 1974 مع “إسرائيل”، أو التوجه نحو إبرام اتفاق مماثل. في المقابل، تعددت الطروحات الإسرائيلية، بين المطالبة بتنازلات سورية تشمل التخلي عن الجولان المحتل، وتوسيع المنطقة العازلة، ونزع السلاح من الجنوب السوري، إلى جانب الترويج لمشاريع توسعية مثل “ممر داوود” و”إسرائيل الكبرى”.
ويتزامن الحديث عن “اتفاق أمني مرتقب” بوساطة واشنطن مع وجود وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني في الأراضي الأمريكية ولقائه وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، مع استعداد الرئيس الشرع للمشاركة في الدورة الـ80 من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، كأول رئيس سوري يشارك في هذا الحدث منذ عام 1967.
في هذا التقرير نسلط الضوء على مسار المباحثات بين سوريا و”إسرائيل”، وطبيعة الاتفاق الأمني المرتقب، والدور الأمريكي في مسار مفاوضات فرضته “إسرائيل”، العدو التاريخي لسوريا، مستغلة حالة الضعف التي تعانيها دمشق ومحاولاتها استعادة الاستقرار في ظل أوضاع اقتصادية وأمنية هشّة.
الرئيس الشرع يقول أن التطبيع بعيد، لكن الاتفاق الأمني مع دولة الاحتلال قد يفتح باب المفاوضات لاحقاً.. فهل تشكل هذه المفاوضات نقطة بداية لعلاقات سورية – إسرائيلية؟ pic.twitter.com/JxIf6EjbB5
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 18, 2025
مباحثات تحت الضغط
بدأت “إسرائيل” تنفيذ استهدافات متصاعدة في الأراضي السورية طالت القدرات العسكرية ومخازن الأسلحة، وتوغلت في الجنوب السوري وعملت على تجريف الأراضي ومنع المزارعين من الوصول إليها، كما أنشأت قواعد عسكرية واعتبرت الإدارة السورية الجديدة “غير موثوقة”، وذلك منذ 8 من ديسمبر/كانون الأول 2024.
وتحت مبررات متعددة، كثّفت “إسرائيل” من غاراتها الجوية على الأراضي السورية، مستهدفة مواقع ونقاطًا حسّاسة، من أبرزها مبنى هيئة الأركان العامة ومحيط القصر الرئاسي في دمشق، وذلك عقب دخول قوات الجيش السوري إلى محافظة السويداء في يوليو/تموز الماضي، إضافة إلى تنفيذ عمليات عسكرية واستخباراتية كُشفت لاحقًا، من بينها إنزال جوي في منطقة الكسوة بريف دمشق.
واحدة من العمليات التي وُصفت بأنها الأقرب إلى دمشق والأكبر والأعمق في سوريا منذ أكثر من خمسة عقود، كانت غداة سقوط نظام بشار الأسد، حين توغلت القوات الإسرائيلية مسافة 38 كيلومترًا داخل العمق السوري، وسيطرت على مخازن أسلحة وقواعد عسكرية واستولت على نحو 3.5 أطنان من الأسلحة والذخائر.
في المقابل، واصلت الإدارة السورية الجديدة التأكيد على الالتزام باتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، ونفت تشكيل سوريا أي تهديد خارجي، مشيرة إلى أن البلاد منهكة من الحرب. وعقب كل اعتداء، أصدرت بيانات تدين الانتهاكات الإسرائيلية بوصفها خرقًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، ودعت المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف واضح يضمن احترام السيادة السورية ويضع حدًا للتصعيد المتكرر.
وفي ظل هذه الظروف العدائية والاستهدافات الإسرائيلية المتواصلة، بدأت محادثات غير مباشرة بين سوريا و”إسرائيل” عبر وسطاء دوليين، بهدف وقف الاعتداءات وتخفيف التصعيد. وكانت دولة الإمارات من بين أبرز الوسطاء، إذ أنشأت قناة اتصال بين الجانبين، قبل أن تتطور المحادثات لاحقًا إلى لقاءات مباشرة، غير مسبوقة في مسار العلاقات بين دمشق و”إسرائيل”.
وفي 19 من أغسطس/ آب الماضي، أعلن الجانب السوري رسميًا عن لقاء جمع وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، بوفد رسمي إسرائيلي، يرأسه وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، في العاصمة الفرنسية باريس، بوساطة أمريكية، وكان اللقاء الثاني خلال أقل من شهر في المدينة نفسها.
ين الإدانات لانتهاكات “إسرائيل” والدعوات لرفع العقوبات، يُجمع المجتمع الدولي في مجلس الأمن على ضرورة دعم #سوريا في مسار التعافي وإعادة البناء. pic.twitter.com/DPOVqOEOts
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 18, 2025
مفاوضات لإبرام اتفاق أمني
تسود بين سوريا و”إسرائيل” حالة عداء تاريخي منذ إعلان قيامها عام 1948، وارتبط الجانبان باتفاقية فضّ الاشتباك الموقعة عام 1974 برعاية الأمم المتحدة، والتي تنص على إنشاء منطقة عازلة بين سوريا وهضبة الجولان المحتلة، تخضع لمراقبة قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (الأندوف)، التي تقوم بدوريات منتظمة وترفع تقاريرها إلى مجلس الأمن. ومع سقوط نظام بشار الأسد، أعلنت إسرائيل انتهاء العمل بالاتفاقية.
وفي 12 من سبتمبر/أيلول الحالي، قال الرئيس السوري، أحمد الشرع، إن سوريا في طور نقاش ومفاوضات مع “إسرائيل” حول اتفاق أمني يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، إما بالعودة إلى اتفاق عام 1974، أو التوصل إلى اتفاق أمني يشبهه.
واعتبر الشرع أن بعض السياسات الإسرائيلية تدل على أنها “قد حزنت على سقوط النظام السابق”، مضيفًا أن “إسرائيل كانت تريد من سوريا أن تكون ميدانًا للصراع المستمر وتصفية الحسابات”، مشيرًا إلى أن لدى “إسرائيل” مخططًا قديمًا لتقسيم سوريا.
وقال إن “إسرائيل” تفاجأت بسقوط النظام السابق، واصفًا ذلك بأنه “ربما فشل استخباراتي”، رغم أن التصريح العلني الصادر عنه (الشرع) قبل سنوات تضمّن علانية رغبة الوصول إلى دمشق والتجهيز للمعركة.
ويضيف الشرع أن “إسرائيل” اعتادت أن تعالج فشلها الاستخباراتي والأمني بأن تستخدم عضلاتها في “الحذر الزائف من المخاوف الأمنية”، و”هذه ليست سياسة صحيحة، فالمبالغة بالمخاوف أحيانًا تؤدي إلى الحرب” حسب قوله.
ويتباين حديث الرئيس الشرع عن اتفاق أمني مع تصريح سابق للخارجية السورية التي نفت صحة توقيع اتفاق أمني مرتقب بين سوريا و”إسرائيل”. إذ كثُر الحديث عن هذا الملف بعد لقاء باريس، حيث نقلت عدة صحف ومواقع، بينها قناة “i24” الإسرائيلية، عن مسؤولين إسرائيليين تأكيد وجود أساس للتعاون الأمني.
“التطبيع غير مطروح على الطاولة”
يترافق أي حديث تفاوضي بين سوريا و”إسرائيل” بطرح ملف التطبيع عبر اتفاقيات “أبراهام”، لا سيما بعد لقاء الرئيس الشرع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، إذ حثّ ترامب الشرع على الانضمام، مشيرًا إلى أن الأخير أبدى موافقة مبدئية. وقال ترامب إن سوريا “ستنضم في نهاية المطاف” إلى الاتفاقيات، معتبرًا أن هذه الخطوة مرتبطة باستقرار الأوضاع الداخلية في سوريا.
وفي ما يتعلق بملف التطبيع، اشترطت “إسرائيل” الاحتفاظ بهضبة الجولان المحتلة منذ عام 1967 لتطبيع العلاقات مع سوريا. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، إن بلاده تعتزم البقاء في الأراضي السورية والاحتفاظ بمرتفعات الجولان كشرط أساسي ضمن ما يُعرف بـ”خطة التطبيع مع سوريا”، معتبرًا في يونيو/حزيران الماضي، أن اعتراف سوريا بسيادة “إسرائيل” على الجولان يشكل شرطًا لأي اتفاق مستقبلي.
في المقابل، أكد الرئيس الشرع في 17 من سبتمبر/أيلول الحالي أن المفاوضات الجارية مع “إسرائيل” للتوصل إلى اتفاقية أمنية قد تُسفر عن نتائج “خلال الأيام المقبلة”، مضيفًا أن الاتفاقية الأمنية تمثل “ضرورة”، وتتطلب احترام المجال الجوي السوري ووحدة أراضيه، على أن تخضع لمراقبة الأمم المتحدة.
وأوضح الشرع أن نجاح الاتفاق الأمني قد يفتح الباب أمام اتفاقيات أخرى، دون الخوض في تفاصيل إضافية، مؤكدًا في الوقت نفسه أن اتفاقية سلام أو تطبيع على غرار اتفاقيات “أبراهام” غير مطروحة حاليًا على الطاولة.
وعن مصير مرتفعات الجولان المحتلة، قال الشرع إنه من السابق لأوانه مناقشة هذا الملف، واصفًا إياه بأنه “صفقة كبيرة”. كما كشف أن سوريا و”إسرائيل” كانتا على بُعد “أربعة إلى خمسة أيام فقط” من التوصل إلى أساس اتفاق أمني في يوليو/تموز الماضي، لكن التوترات الأمنية والعسكرية في محافظة السويداء عرقلت تلك المناقشات.
ووصف الشرع الضربات قرب القصر الرئاسي بأنها “ليست رسالة، بل إعلان حرب”، مؤكدًا أن سوريا ما زالت تمتنع عن الرد العسكري للحفاظ على فرص المفاوضات.
مقترح “إسرائيلي”
تعددت الروايات والطروحات حول ما تريده “إسرائيل” من سوريا، وكان أحدثها ما ذكره موقع “axios” الأمريكي في 16 من سبتمبر/أيلول الحالي، نقلًا عن “مصدرين مطلعين”، بأن “إسرائيل” قدّمت قبل عدة أسابيع مقترحًا مفصلًا لاتفاق أمني جديد مع سوريا، يتضمن خريطة لمناطق منزوعة السلاح تمتد من دمشق وصولًا إلى الحدود مع “إسرائيل”.
ويعتمد المقترح الإسرائيلي على اتفاقية السلام التي أبرمتها “إسرائيل” مع مصر عام 1979 “كامب ديفيد”، ويتضمن تقسيم المنطقة الواقعة جنوب غرب دمشق إلى ثلاث مناطق، مع قدرة السوريين على الاحتفاظ بمستويات مختلفة من القوات وأنواع مختلفة من الأسلحة بحسب المنطقة، ونص على:
- توسيع المنطقة العازلة على الجانب السوري بمقدار كيلومترين.
- عدم السماح بوجود القوات العسكرية والأسلحة الثقيلة في الشريط المجاور للمنطقة العازلة والأقرب إلى الحدود مع إسرائيل من الجانب السوري.
- السماح لسوريا بالحفاظ على وجود الشرطة وقوات الأمن الداخلي.
- تصنيف المنطقة بأكملها من جنوب غرب دمشق إلى الحدود الإسرائيلية كمنطقة حظر طيران للطائرات السورية.
في المقابل، تنسحب إسرائيل تدريجيًا من جميع الأراضي التي احتلتها في سوريا خلال الأشهر القليلة الماضية، باستثناء موقع متقدم على قمة جبل الشيخ الاستراتيجي. في حين لم ترد سوريا حتى الآن على الاقتراح الإسرائيلي، حيث كانت دمشق تعمل على إعداد اقتراح مضاد في الأسابيع الأخيرة، وفق الموقع.
وفي هذا السياق، نقلت وكالة “فرانس برس” في 16 من سبتمبر/أيلول عن مسؤول عسكري سوري أن القوات السورية بدأت منذ نحو شهرين عملية سحب أسلحتها الثقيلة من مناطق جنوب سوريا، وذلك عقب الاشتباكات التي شهدتها محافظة السويداء، في حين قال مصدر دبلوماسي في دمشق إن الانسحاب شمل مسافة تقارب 10 كيلومترات جنوب العاصمة دمشق.
مصادر لرويترز: “إسرائيل” قدمت مقترحًا للمبعوث الأمريكي بإمكانية الانسحاب من جنوب #سوريا مقابل تنازل #أحمد_الشرع عن #الجولان. pic.twitter.com/8FHAz0GM6R
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 16, 2025
لقاء في لندن.. ما شكل الاتفاق؟
في 17 من سبتمبر/أيلول الحالي، عُقد لقاء في لندن بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، والوزير الإسرائيلي، رون ديرمر، بحضور المبعوث الأمريكي توماس برّاك، لمناقشة الاقتراح الإسرائيلي بشأن اتفاقية أمنية جديدة بين البلدين، في لقاء استمر مدة خمس ساعات لبحث الرد السوري، وفق موقع “axios”.
نقلت قناة الجزيرة عن مصدر حكومي سوري قوله إن لقاءا بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني والوزير الإسرائيلي رون ديرمر في لندن بحث وقف التصعيد وفق اتفاق عام 1974
وأفاد المصدر أن المقترح السوري خلال المباحثات يشترط انسحاب “إسرائيل” من المناطق التي احتلتها بعد 8 ديسمبر
وذكرت… pic.twitter.com/YCZVYiLPEj
— نون سوريا (@NoonPostSY) September 17, 2025
وجرى خلال الاجتماع بحث وقف التصعيد العسكري الإسرائيلي على أساس اتفاق عام 1974، حيث تضمن المقترح السوري شرط انسحاب “إسرائيل” من المناطق التي سيطرت عليها بعد 8 ديسمبر/كانون الأول 2024.
وفي اليوم التالي، نقلت وكالة “فرانس برس” عن مصدر في وزارة الخارجية السورية قوله إن المحادثات مع “إسرائيل” تشهد تقدمًا، مشيرًا إلى أن اتفاقات متتالية قد تُوقّع قبل نهاية العام الجاري، “بالدرجة الأولى اتفاقات أمنية وعسكرية”. وأوضح المصدر أن الجانبين يسعيان إلى التوصل لاتفاق يوقف الأعمال العسكرية داخل سوريا، تمهيدًا لاتفاقات لاحقة “تعود بالنفع على السوريين”.
ولم يُعلن حتى الآن الشكل النهائي للاتفاق الأمني المزمع بين سوريا و”إسرائيل”، إذ لا تزال التفاصيل المتداولة محصورة في صيغ أولية تتضمن مطالب متبادلة يتمسك بها كل طرف، وسط حديث عن عقد لقاء سوري “إسرائيلي” جديد اليوم 19 من سبتمبر/ أيلول، في العاصمة الأذربيجانية باكو.
ويرى المحلل السياسي والمدير التنفيذي في مركز “جسور للدراسات”، وائل علوان، أن هناك قضايا شائكة لا يمكن حلّها، خصوصًا في ظل حكومة بنيامين نتنياهو، التي تُظهر ممارسات متعجرفة تجاه دول المنطقة، بما فيها دول مستقرة وبادرت إلى السلام مثل قطر.
ومن هذا المنطلق، لا يُتوقع أن تبدي حكومة نتنياهو تجاوبًا جديًا، إذ إنها من جهة تخضع لضغوط أمريكية وإقليمية، ومن جهة أخرى توظف الفوضى في المنطقة لصالح أجندتها، وفق علوان.
ويقول المحلل السياسي لـ”نون بوست” إن الاتفاق الذي تسعى واشنطن إلى تحقيقه بين سوريا و”إسرائيل” يتمحور حول تفاهمات أمنية واتفاقات لوقف إطلاق النار، مستبعدًا الوصول إلى اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974 بصيغته الأصلية، نظرًا لرفض نتنياهو لذلك، ولضعف أوراق الضغط لدى الحكومة السورية.
ورغم وجود دعم دولي وإقليمي تستفيد منه دمشق للحد من استخدام القوة الإسرائيلية المفرطة على أراضي سوريا، إلا أن هذا الضغط لا يبدو كافيًا لكبح التصرفات الإسرائيلية، التي تمسّ استقرار المنطقة برمّتها، وخاصة في سوريا التي لا تزال دولة هشة في طور التعافي، وفق المحلل السياسي.
ويرجّح علوان أن تقبل الحكومة السورية باتفاق يُمليه الواقع، مقابل وقف الانتهاكات المتكررة والاستثمار الإسرائيلي للفوضى، مشيرًا إلى أن الوصول إلى تفاهمات أمنية يصبّ في مصلحة دمشق، التي تسعى إلى ضبط الوضع الداخلي وإنجاح المرحلة الانتقالية وصولًا إلى السلم الأهلي.
أما الباحث السوري عبد الرحمن الحاج، فيرى أن “إسرائيل”، منذ عملية “طوفان الأقصى”، تّدعي إعادة رسم استراتيجيتها للأمن القومي عبر توسيع ما تسميه “المجال الحيوي”، مستندة إلى ذريعة مواجهة التهديدات المحيطة. لكنها، في الواقع، تستغل حالة الانتقال السياسي في سوريا المنهكة من حرب طويلة وثورة فقدت فيها مئات الآلاف من أبناء شعبها، ما اعتبرها بنيامين نتنياهو “فرصة استثنائية”، فأمر بسلسلة غارات وتوغلات استهدفت مواقع عسكرية واستراتيجية داخل الأراضي السورية.
ويقول الباحث لموقع “نون بوست” إن “إسرائيل” تتصرف انطلاقًا من ضعف الدولة السورية، وتسعى لاستغلال هذا الظرف لفرض شروطها التي ظهرت عبر مقترحات، والتي تؤدي إلى فقدان السيادة السورية وتسمح بالسيطرة الجوية الإسرائيلية.
ويشير الحاج إلى أن “إسرائيل” تحاول مقايضة الانسحاب من المناطق التي احتلتها مؤخرًا بالتخلي السوري عن الجولان مهما كانت الصفقة، غير أن هذا الطرح قوبل بإصرار سوري واضح على الفصل بين اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، وبين ملف الجولان، وضرورة المشي خطوة بخطوة، والتمسك بوحدة الأراضي السورية، لافتًا إلى أن محاولات “إسرائيل” لربط مستقبل الجولان بأي اتفاق أمني قد فشلت حتى الآن.
ويرى أن الرئيس السوري أحمد الشرع يرغب بالوصول إلى اتفاق يوقف الانتهاكات الإسرائيلية للأراضي السورية، بينما يهدف الإسرائيليون إلى توقيع اتفاق يمكّنهم من استثمار الوقائع الميدانية التي فرضوها بشكل سياسي.
ويضيف الباحث أن الشرع رجل مفاوضات، ومن المحتمل أن يتوصل إلى صيغة تحافظ على الأراضي السوري وتسد الذرائع الإسرائيلية المتعلقة بأمن حدودها الشمالية.
ما دور واشنطن؟
تلعب واشنطن دورًا فاعلًا في الدفع نحو اتفاق بين سوريا و”إسرائيل”، لا سيما من خلال المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس برّاك، الذي ينخرط في هذه المساعي إلى جانب جهود أخرى، من بينها تهدئة التوترات العسكرية في محافظة السويداء. وقد ساهمت هذه التحركات في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانبين، بدعم أمريكي، في 19 من يوليو/تموز الماضي.
وكان برّاك من أوائل من أعلنوا عن انطلاق المحادثات، إذ صرّح خلال مؤتمر صحفي عقده في بيروت في 7 من يوليو/تموز الماضي بأن الحكومة السورية الجديدة بدأت حوارًا مع “إسرائيل”.
وترتبط الولايات المتحدة، في الذاكرة السورية، بمحطات سلبية فيما يخص الملف الإسرائيلي، لا سيما خلال الولاية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، الذي وقّع في 25 من مارس/آذار 2019 قرار الاعتراف بسيادة “إسرائيل” على مرتفعات الجولان المحتلة.
من الغارات إلى خرائط التقسيم.. #سوريا على أعتاب أخطر إعادة رسم للجغرافيا، حيث تتقاطع مصالح واشنطن وتل أبيب، فهل يصبح التقسيم أمرًا واقعًا؟ pic.twitter.com/IMIsfMX6rH
— نون سوريا (@NoonPostSY) August 8, 2025
ونقلت “رويترز” مؤخرًا بأن سوريا تعمل تحت ضغط من الولايات المتحدة على تسريع المحادثات مع إسرائيل بشأن التوصل إلى اتفاق أمني، وأن واشنطن تسعى لتحقيق تقدم كافٍ بحلول اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نهاية سبتمبر/أيلول الحالي للسماح للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالإعلان عن تحقيق اختراق، معتبرة أن أي اتفاق حتى وإن كان متواضعًا سيكون بمثابة إنجاز.
في المقابل، نفى الرئيس الشرع أن تمارس الولايات المتحدة أي ضغوط على سوريا، وقال إنها تلعب دور الوسيط.
وفي تصريح سابق من مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية لـ”نون بوست“، قال إن الولايات المتحدة تواصل تشجيع التوصل إلى اتفاق دائم بين “إسرائيل” وسوريا، دون توضيح طبيعة الاتفاق المقصود، مضيفًا أن دونالد ترامب حدد رؤيته الواضحة لشرق أوسط مزدهر وسوريا مستقرة تعيش في سلام مع نفسها ومع جيرانها. ويُعد السلام بين الجيران، بما في ذلك “إسرائيل” وسوريا، عنصرًا أساسيًا في هذه الرؤية.
ويرى الباحث عبد الرحمن الحاج أن الولايات المتحدة تسعى إلى تسريع الوصول إلى اتفاق ليظهر ترامب كرجل سلام بعد إخفاقاته في أوكرانيا وفلسطين، لذلك تمارس واشنطن ضغطًا على الطرفين (سوريا و”إسرائيل”) لتحقيق اتفاق هدنة يُعرف بالاتفاق الأمني، والذي يحمل أبعادًا سياسية واضحة.
ويقول الباحث لـ”نون بوست” إن ترامب رجل مفاجآت، وقراره بالاعتراف بسيادة “إسرائيل” على الجولان يمكن تغييره حين يريد، إذ إن الأمر مرهون بالتوصل إلى اتفاق سلام شامل وليس باتفاق أمني مؤقت قد ينهار في أي لحظة.
من جانبه، يرى المحلل السياسي وائل علوان أن الولايات المتحدة تدفع باتجاه إبرام اتفاق أمني بين سوريا و”إسرائيل”، بعد اقتناعها، بضغط من الرياض، بصعوبة التوصّل إلى اتفاق سلام أو انضمام دمشق إلى اتفاقيات “أبراهام”، حيث يكاد يكون التطبيع في الظروف الراهنة مستبعدًا أو شبه مستحيل.
ويُخشى، بحسب علوان، أن لا تلتزم “إسرائيل” بما قد يتم التوصل إليه، خاصة إذا رأت أن مصلحتها تكمُن في نقض الاتفاقات، إذ لم تُعرف بالتزامها بالعهود حين تتعارض مع حساباتها الأمنية أو السياسية.
ويضيف أن حكومة نتنياهو لا تتصرّف بالضرورة وفق مصلحة “إسرائيل” الاستراتيجية أو ما تريده واشنطن، بل تنتهج سياسة خارجة عن إطار التحالف الأمريكي الإقليمي، وتتحرك وفق مصالح متطرفة قد تضرّ بإسرائيل نفسها، وليس بسوريا وحدها.
وبناء على ذلك، يؤكد علوان أن التفاهمات الأمنية، إن تحققت، ستكون أولًا في مصلحة سوريا، كما أنها تخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، خصوصًا دول الخليج وتركيا. ومع ذلك، فإن حكومة نتنياهو، التي تتصرف خارج هذا الإطار، قد لا تجد مصلحتها في هذه التفاهمات، وقد تبادر إلى خرقها في استعراض جديد لفائض القوة.