اللغة ليست بريئة، ولا محايدة. تختزن في حروفها تاريخ الناس ومصائرهم. في غزة، لم تُدمّر الحرب الحجر فقط، بل دمّرت قاموسًا كاملًا كان يُستعمل في تفاصيل الحياة اليومية، فاختفت مفردات البيت، والحديقة، والشارع الهادئ، وحلّت مكانها لغة قاسية ومؤقتة، لغة النازحين والركام. ومع ذلك، تبقى اللغة حيّة، مثل أصحابها، فهي تتألم، لكنها أيضًا تبتكر وتقاوم، فمن تحت الركام يخرج معجم جديد، يُسجّل ذاكرة الألم، لكنه يُلمّح في الوقت ذاته إلى قدرة الإنسان على إعادة تسمية العالم، ولو من نقطة الصفر.
تحوّل في المفردات
أبو محمود مهنا (53 عامًا)، نازح من حي الرمال، يقول: المفردات التي كانت تُحيل إلى الدفء مثل “المفتاح” و”الشرفة” و”المطبخ”، صارت خارج الاستخدام اليومي، مكانها احتلّته كلمات قاسية مثل “الركام” و”الممر الآمن” و”قافلة النزوح” و”الخيمة”، وهكذا تتسرّب الحرب إلى الذاكرة اللغوية كما تتسرّب إلى الحجر والوجدان”.
ويضيف: “الحرب لم تُدمّر البيوت فحسب، بل مسّت هويتنا الاجتماعية وجعلت الجميع متساويًا في الفقد والخطر”. هذا الانتقال من تحديد الهوية بالمكان إلى حالة جماعية من النزوح، يُظهر كيف أن اللغة صارت مرآة لتغيير بنية المجتمع نفسه. بهذا الانزياح البسيط في التعبير، يختصر الغزيون انتقالهم القسري من عالم الاستقرار إلى عالم مؤقت هشّ، يكاد ينهار مع أول ريح.
اللافت أيضًا أن الأطفال صاروا أوضح مَن يكشف هذه التحولات. تقول سلمى أحمد (28 عامًا)، من خان يونس، أم لثلاثة أطفال: “أطفالنا لا يلعبون كما كنا نفعل، صاروا يجمعون الحجارة لبناء ملاجئ صغيرة يسمونها ‘قواعد النجاة’. تعلّموا لغة الحرب قبل لغة الحياة، وحتى كلماتهم اليومية صارت مرتبطة بالخوف والنجاة، لا بالمرح واللعب. أحيانًا أسمعهم وهم يتحدثون عن أنواع القذائف وكأنها جزء من قاموس الطفولة، وكأن الحرب فرضت عليهم مفرداتها قبل أن يعرفوا القصص والحكايات”.
التغييرات لا تقف عند حدود المفردات، بل تتّسع لتشمل البنية الاجتماعية نفسها. يقول عبد الرحمن شاهين (42 عامًا): “في السابق، كان الناس يحدّدون مواقعهم الاجتماعية بكلمات مثل ‘عائلة’، ‘حي’. اليوم، يذوب الجميع تحت مسمّى واحد: ‘نازح’. هذا التعميم اللغوي يُلغي الفوارق الطبقية التي كانت قائمة قبل الحرب، لكنه في الوقت ذاته يفضح هشاشة كل بناء اجتماعي أمام آلة الدمار”.
ويضيف: “حتى صيغ المخاطبة تغيّرت، بدل أن يقول شخص ‘أنا من رفح’ أو ‘أنا من غزة المدينة’، صار كثيرون يقولون ببساطة: ‘إحنا مشرّدين، زي الكل'”.
الإعلام واللغة: تأثير متبادل
لا يمكن فصل هذا التحوّل عن دور الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، إذ إن كثير من المفردات التي ترددت عالميًا دخلت بسرعة إلى كلام الناس.
ترى الصحفية إسراء العرعير أن الإعلام يعكس الواقع، لكنه أيضًا يُشكّله. تقول: “عندما نكتب تقارير عن القصف، نستخدم كلمات مثل ‘النازحون’ و’الخطر’، وهذه الكلمات تتردّد على ألسنة الناس، وتُصبح جزءًا من معجمهم اليومي. حتى الشباب والأطفال الذين لا يشاهدون الأخبار يتعلّمون مصطلحات مثل ‘وقف إطلاق النار’ أو ‘الممرات الإنسانية’ ويستخدمونها في أحاديثهم اليومية”.
ووفقًا لتحليل نُشر في “Forum for Linguistic Studies” لنصوص إعلامية دولية حول تغطية حرب غزة، شكّلت كلمات مثل “المنازل”، “الهجوم”، و”وقف إطلاق النار” أكثر من 70٪ من المفردات المستخدمة، وهو ما يُفسّر سرعة دخولها إلى الخطاب اليومي للناس.
لتوضيح هذا التحول، تحدّثنا إلى الدكتور عماد عليان المصري، أستاذ العلوم اللغوية المساعد في جامعة الأقصى، الذي يرى أن “المفردات التي صارت جزءًا من الخطاب اليومي – مثل الخيمة والركام والنازح – ليست مجرد تعابير عابرة، إنها تسجيل لحدث لغوي واجتماعي كامل”.
وأكد أن اللغة أصبحت ذاكرة حيّة، تعكس الواقع النفسي والاجتماعي، وتكشف كيف أعادت الحرب تشكيل بنية المجتمع، فكل كلمة تحمل تجربة حقيقية، وتوثّق الألم والصمود في آن واحد.
في الحروب، لا يتغيّر وجه المدن وحده، بل يتغيّر معها لسان الناس، فالكلمات التي تبدو للوهلة الأولى مجرد أداة للتواصل، تتحوّل تحت الضغط إلى مرآة دقيقة تعكس التحوّلات الكبرى في الوعي والواقع. وفي غزة، حيث لم تترك الحرب بيتًا ولا شارعًا إلا ومرّت عليه، برزت ظاهرة لافتة؛ تغيّر اللغة اليومية للناس، حتى كأنها فقدت براءتها القديمة، وصارت محمّلة بركام التجربة.