ينحدر الملحن وعالم الموسيقى السوري الشيخ علي الدرويش من عائلة مصرية الأصل، فجده “علي إبراهيم” وُلد في محافظة المنوفية بمصر، وكان مجندًا في الجيش المصري تحت قيادة إبراهيم باشا خلال عهد محمد علي باشا، الذي ضمّ سوريا إلى مصر عام 1831، بحسب ما يذكره صميم شريف في كتابه “الموسيقى في سوريا”.
وبعد انفصال سوريا عن مصر وعودتها إلى الحكم العثماني، لم يعد الجندي علي إبراهيم إلى بلده، بل استقر في مدينة حلب، حيث تزوج وأسس عائلة، وتوفي ودُفن هناك. بعد قرابة قرن من الزمان، توجه حفيده الشيخ علي الدرويش إلى مصر عام 1927، ولكن هذه المرة كأستاذ في الموسيقى، بدعوة من نادي الموسيقى الشرقي (الذي أصبح لاحقًا معهد الموسيقى العربية)، حيث درّس إلى جانب أعلام مثل الموسيقار محمد القصبجي، والدكتور محمود الحفني، ومصطفى بك رضا مؤسس النادي.
وفي مقابل هذه القصة، هناك تجارب معاكسة، مثل الفنانة فايزة أحمد، التي وُلدت ونشأت في سوريا، لكنها “تمصّرت” واكتسبت الجنسية المصرية، بعدما حققت نجوميتها الفنية في مصر، حيث تزوجت وأنجبت، ثم توفيت ودُفنت في القاهرة.
هكذا تتجلى العلاقة الفنية العميقة بين سوريا ومصر، علاقة تبادلية تُثري المشهد الثقافي العربي؛ مصري يصبح سوريًا، وسوري يصير مصريًا، وكلٌ يترك أثره في المكان الذي احتضنه. وفي نهاية المطاف، يصب هذا التلاقح في بحر واحد: هو نهر الفن العربي.
ورغم هذا التبادل، يظل الحديث عن التأثير المصري في الموسيقى العربية حاضرًا بقوة؛ فمدرسة الموسيقى المصرية هي التي هيمنت على الوجدان العربي منذ القرن التاسع عشر، وكانت بمثابة الينبوع الأول وحجر الزاوية في تشكيل الموسيقى العربية الحديثة، كما يصفها المايسترو الفلسطيني اللبناني المصري سليم سحاب.
في مصر نشأ وتألق “السبعة الكبار” في الأغنية العربية المعاصرة، أولئك الذين شقّوا الروافد الأساسية التي تَشكَّل منها نهر الموسيقى العربية في القرن العشرين، كما يقول الناقد الفلسطيني اللبناني فيكتور سحاب في كتابه “السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة”.
غير أن المدرسة الموسيقية المصرية، رغم ريادتها، لم تكن مغلقة على ذاتها، بل كانت بوتقة انصهرت فيها طاقات فنية عربية متعددة، وعلى رأسها المواهب السورية والمشرقية عمومًا. فقد ذاب فنانون كثر من بلاد الشام في المدرسة المصرية، تأثروا بها وأثّروا فيها، فاستفادوا من تقاليدها، وأسهموا في إثرائها وتطويرها. بل إن واحدة من “السبعة الكبار” الذين تحدث عنهم سحاب هي الفنانة أسمهان (آمال الأطرش)، السورية المولد والنشأة.
في السطور التالية، نستعرض كيف ساهم الفنانون السوريون تحديدًا في تطور الموسيقى المصرية، سواء من خلال التعليم والتدريس، أو عبر الممارسة الفنية والإبداعية المباشرة، وذلك في مرحلة النهضة الفنية الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
منهم عبد الوهاب وسيد درويش.. سوريون علّموا مصريين
يحكي الموسيقار المصري الشهير كامل الخلعي (توفي عام 1931) في كتابه “الموسيقى الشرقية” أن جزءًا كبيرًا من النهضة الموسيقية المصرية في القرن التاسع عشر كان على يد شاكر أفندي الحلبي، الذي نزح من حلب إلى مصر عام 1840، وعلّم المصريين فن القدود والموشحات الحلبية.
وقد ظل ما علّمه الحلبي سائدًا في مصر لعقود، حتى أن عبده الحامولي، مطرب مصر الأول في القرن التاسع عشر، بدأ مسيرته بأداء الغناء بنفس الطريقة الحلبية في تصوير المقامات، وبنفس اللهجة الحلبية. غير أنه، ومع نضوجه الفني، بدأ يُدخل تطويرات على ألحانها وأسلوب أدائها، فصار غناؤه مزيجًا من الطابع الحلبي والتركي والشعبي المصري، ومن هنا بدأ يتشكّل الأسلوب الغنائي المصري الحديث.
وكانت المحطة الثانية المهمة للموسيقيين السوريين في مصر هي قدوم أبو خليل القباني من دمشق إلى الإسكندرية عام 1884، وهو أحد أبرز رواد المسرح الغنائي العربي على الإطلاق. وقد شكّل حضوره إلى مصر دفعة قوية لهذا الفن، حيث يصف كامل الخلعي استقبال أهل الإسكندرية له بالقول: “كان الناس ينتظرون وقت وصوله انتظار المحب رجوع رسوله، وأقاموا يترقبون تحقيق ذلك الأمل، حتى حضر الفاضل الأجل، فقوبل من وجهاء القوم على الرحب والسعة، والكرامة والدعة”.
ويصف الخلعي شهرة القباني في مصر بأنها كانت طاغية، إذ صار مسرحه الغنائي قبلةً للأمراء والشعراء والأدباء، وكانت رواياته محل اهتمام واسع، حتى أن اسمه صار “حديث الساعة في كل البلاد المصرية، بل والعربية”.
ويُرجع الخلعي هذه الشهرة إلى ما تمتعت به مسرحيات القباني من جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقّة المعاني ودقتها، حيث كانت نصوصه مشذّبة بالتهذيب، ومطرّزة بالأفكار الغريبة والمبتكرة، وقد شهد بجودتها أعلام البلاغة وفطاحل الموسيقى، وكان له أسلوب متفرّد في الغناء، تفرد القمر في السماء، على حد وصف الخلعي.
بدأ أبو خليل القباني عروضه في مقهى “الدانوب”، ثم انتقل سريعًا إلى مسرح “زيزينيا” (أوبرا الإسكندرية حاليًا)، الذي كان يُعدّ حينها أكبر وأهم مسارح الإسكندرية، وكان مخصصًا في بدايته لعرض المسرحيات الأوروبية فقط، لجمهور الأجانب المقيمين بالمدينة. لكن، وبفضل شهرة القباني وسمعته الطيبة، تم استقدامه لتقديم مسرح عربي، فكان من أوائل الفنانين الذين قدّموا عروضًا باللغة العربية في الإسكندرية، إلى جانب فرق لبنانية أخرى.
لاحقًا، انتقل القباني إلى القاهرة وقدم عروضه في دار الأوبرا الخديوية، وهي أهم مسرح مصري آنذاك. وبفضل شهرته الواسعة، سافر إلى مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة عام 1892 ليقدّم عروضًا مسرحية هناك.
تقديرًا له، منحه الخديوي توفيق حاكم مصر قطعة أرض بمنطقة العتبة الخضراء في القاهرة، ليبني عليها مسرحًا خاصًا به. غير أن القدر لم يمهله طويلًا، إذ بينما كان يقدم إحدى مسرحياته في محافظة المنيا جنوبي البلاد، جاءه خبر احتراق مسرحه، ويُقال إن الحريق كان بفعل فاعل، ما دفعه إلى العودة إلى دمشق.
وحتى زمن أبو خليل القباني (ثمانينيات القرن التاسع عشر)، كان المسرح الغنائي في مصر ذا طابع شامي بامتياز، وكانت الفرق السورية واللبنانية هي المهيمنة على المشهد، وفق ما أورده الناقد الأدبي الدكتور شوقي ضيف في كتابه “الأدب العربي المعاصر في مصر”، وغيره من الباحثين.
ومن رحم هذه الفرق الشامية – مثل فرقة القباني، وفرقة القرداحي، وفرقة إسكندر فرح – وُلدت فرق مصرية، أبرزها فرقة الشيخ سلامة حجازي، وقبلها بقليل فرقة سليمان الحداد، وإن لم تبلغ الأخيرة مستوى فرقة سلامة حجازي من حيث البروز والتأثير. وقد كان سلامة حجازي قد عمل في السابق مع الفرق الشامية، قبل أن يؤسس فرقته الخاصة عام 1905، بحسب دراسة الدكتور سيد إسماعيل علي “تاريخ مسرح زيزينيا”.
أما الاسم السوري الثالث البارز الذي تعلّم على يديه مصريون، فهو الموسيقار جميل عويس، المولود عام 1890 في إحدى قرى جسر الشغور قرب حلب. تلقى عويس تعليمه الموسيقي على أيدي شيوخ حلب، وأتقن إلى جانب الموسيقى اللغتين الفرنسية والتركية، ما مكّنه من الاطلاع على الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، والتخصص في علوم الهارموني والتدوين الموسيقي، بحسب ما ذكره الباحث صميم شريف.
نزح عويس إلى مصر قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهناك التقى بالموسيقار سيد درويش، أحد أهم رموز الموسيقى المصرية الحديثة. استعان درويش بعويس لتدوين أعماله الموسيقية على النوتة، وبدأ عويس في تعليمه أسس التدوين.
وبعد وفاة سيد درويش عام 1923، سار تلميذه الأبرز محمد عبد الوهاب على نهجه، متمسكًا برغبة تطوير الموسيقى الشرقية والاستفادة من الأساليب الغربية في التوزيع والتدوين. ولهذا، استعان عبد الوهاب بجميل عويس لتعلم النوتة والهارموني وأساليب التوزيع الموسيقي، وظلت العلاقة بينهما قائمة حتى عام 1937.
ويوضح صميم شريف أن عبد الوهاب، بالتعاون مع عويس، نجح في إدخال آلات غربية لم تكن معروفة في التخت الشرقي من قبل، مثل الفيولونسيل (التشيلّو)، والكونترباص، والكاستانيت.
فنانون سوريون لمعوا في مصر
شهد الجزء الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين هجرة كبيرة من الموسيقيين والمطربين السوريين إلى مصر لممارسة فنونهم بها، واستقبلهم الفنانون المصريون بترحاب. ولعل نجاح أبو خليل القباني في مصر كان دافعًا كبيرًا لهم للقاء نجوم الغناء والموسيقى في مصر، وتجربة حظهم معهم.
ومن المطربين الذين هاجروا كان جميل الأدلبي (1878–1917) الذي رافق المطرب المصري الشهير وقتها عبد الحي حلمي وتعلم الأول منه كثيرًا، ومنهم حسن شاشيط (1861–1916) الذي غنّى أمام الخديوي توفيق حاكم مصر. ومن المطربات هاجرت ناجية الشامية، ونادرة الشامية، وعلياء المنذر والدة أسمهان وفريد الأطرش.
ومن أشهر المطربات السوريات المهاجرات كانت ماري جبران، التي اكتشفها المصري الشهير الشيخ سلامة حجازي في إحدى جولاته الفنية في الشام، وقدمت إلى مصر في أواخر حقبة العشرينيات من القرن العشرين، وقابلت الموسيقار محمد القصبجي والموسيقار داوود حسني، بجانب الشيخ زكريا أحمد الذي لحّن لها وحرص على تدريبها وتعليمها أصول الغناء.
وعملت ماري جبران مطربة في كازينو بديعة مصابني، أشهر كازينو فني في مصر وقتها، وكانت ذات صوت وشكل جميل، ما أكسبها حضورًا قويًا في القاهرة.
ولعل أسمهان (آمال الأطرش) وأخيها الموسيقار فريد الأطرش، كانا أبرز وأهم فنانين سوريين وفدا إلى القاهرة – حتى ولو كان ذلك في طفولتهما – وأكثرهم حضورًا وتأثيرًا في الذاكرة المصرية والعربية.
فلم تُقارن مطربة عربية بأم كلثوم إلا أسمهان، وكذلك كان فريد الأطرش قمة في التلحين، تقف شامخة منافسة لأكبر ملحني مصر مثل محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي، بل إن فريد حين قارنوه بعبد الحليم حافظ، رد عبد الحليم وقال: “إن فريد إذا قورن، يُقارن بعبد الوهاب، فأنا مجرد مطرب وليس لي تأثير في الموسيقى، أما فريد فهو مطرب وملحن يؤثر في صناعة الموسيقى”.
بخلاف المطربين، نجد الموسيقيين السوريين الذين أثّروا في صناعة المنتج الموسيقي المصري نفسه كثيرين، ومنهم عمر الجراح (1853–1921) عازف العود والقانون الشهير، وحسن الساعاتي (1858–1933) عازف القانون الشهير، ومنهم كميل شامبير (1892–1934) الذي حاول صناعة آلة بيانو تعزف أنغامًا شرقية.
كذلك كان سامي الشوا، الذي لم يكن مجرد عازف على الكمان، بل عالمًا في آلته، ووضع كتابًا لتعليمها بعنوان “ميتودا”، وكذلك وضع كتابًا لتعليم الموسيقى عمومًا بعنوان “القواعد الفنية في الموسيقى الشرقية والغربية”، ولقّب بأمير الكمان في عصره، ولنبوغه في مصر صحبه أمير الشعراء أحمد شوقي معه إلى الآستانة عام 1910، وعزف في القصر السلطاني أمام ولي العهد الأمير يوسف عز الدين.
لماذا هاجروا إلى مصر؟
هناك مجموعة أسباب لهجرة الفنانين السوريين لمصر، تتعلق بالوضع الطارد داخل سوريا والأجواء الجاذبة في مصر، وهي أوضاع يندمج فيها السياسي بالاجتماعي بالديني بالفني.
هذه الحالة تناولتها مصادر متعددة، منها دراسة ماهر سعيد درويش “هجرة الشوام إلى مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين”، ودراسة الدكتور عبدالله محمد عزباوي “الشوام في مصر في القرن الثامن عشر”، ودراسة صميم شريف “الموسيقى في سوريا”، وغيرها، وكتاب “الموسيقى الشرقي” لكامل الخلعي.
عموما، كانت الصلة بين بلاد الشام ومصر قوية في كل العصور تقريبا، ولكنها ازدادت وثوقا بدءًا من العصر الفاطمي مع القرن العاشر الميلادي والرابع الهجري، حين سيطرت الدولة الفاطمية على بلاد الشام ومن قبلها مصر، فصارت مصر والشام تجمعهم وحدة سياسية عضوية، واستمر ذلك طوال العهود الأيوبية والمملوكية والعثمانية.
وحين استقل الوالي العثماني محمد علي باشا بمصر عن الدولة العثمانية في بدايات القرن التاسع عشر، توسع جيشه وضم بلاد الشام بالكامل بل وأجزاء من تركيا الحالية إلى مصر.
ثم استعادت الدولة العثمانية بلاد الشام، وظل حكم مصر والسودان تحت ولاية محمد علي وأولاده من بعده، ولكن استمرت مصر تتبع الخلافة العثمانية ولو شكليا وروحيا، وفي نفس الوقت لم تغلق الحدود بين مصر والشام.
كان الكثير من الطلاب الشوام يفدون إلى مصر للدراسة في الجامع الأزهر، وكان لهم رواق خاص بداخله، وكانوا يعودون إلى سوريا للعمل بها، وبعضهم كان يستقر بمصر ويكمل حياته بها.
في سوريا كانت الأوضاع السياسية في القرن التاسع عشر مضطربة، في حين كانت مصر أكثر استقرارا وازدهارًا، في ظل الاضطرابات الأمنية والاقتصادية الناتجة عن النفوذ السياسي لفرنسا داخل سوريا.
من نتائج هذا النفوذ رعاية فرنسا للكاثوليك المسيحيين، الأمر الذي أدى لفتن بين المسيحيين الأرثوذوكس الشرقيين من ناحية والكاثوليك من ناحية أخرى، ناهيك عن فتن بين المسلمين والمسيحيين.
هذا الجو أنتج بعض المتشددين دينيا الذين راسلوا الخليفة العثماني يحرضوه ضد أهل الغناء والموسيقى، ونتج عن ذلك جو عام طارد للفنانين، ولم تصمد أمامه سوى الموسيقى الدينية في حلب.
وعلى العكس كان حكام مصر مهتمون بالفنون منذ محمد علي (حكم بين عامي 1805 – 1848) الذي أنشأ 5 مدارس لتعليم المصريين الموسيقى على الطريقة الغربية، وازدهرت الفنون جدا في عهد الخديوي إسماعيل (حكم بين 1863 – 1879) الذي أنشأ دار الأوبرا الخديوية وكان لديه ولعا كبيرا بالفنون.
بجانب ذلك كان للأجانب وجودا كبيرا في مصر، منذ عهد إسماعيل وبعد الاحتلال الإنجليزي، حتى أن مدينة الإسكندرية وحدها كان ربع سكانها من الأجانب الأوروبيين، الأمر الذي أدى إلى توافد فرق مسرحية وغنائية أجنبية عليها.
كل ذلك أعطى دفعة كبيرة لصناعة الفنون في مصر، حتى لقبت بـ”هوليود الشرق”، أي مركز صناعة الفنون في الشرق، فصارت جاذبة للفنانين من كل العالم العربي، وخاصة الشوام من سوريا ولبنان الذين وفدوا إلى مصر بغزارة، كما استعرضنا.
ولكن المثير أن كثير منهم تمصروا، وبعضهم غنى باللهجة المصرية أكثر ما غنى باللهجة السورية، مثل فريد الأطرش وأسمهان وفايزة أحمد، الذين عاشوا في مصر وحصلوا على جنسيتها ودفنوا بها.
كل ما سبق يتعلق بالغناء والموسيقى فقط، ولو توسعنا وتحدثنا عن السينما والدراما للمسنا أكثر مدى متانة وقوة العلاقة بين الفن المصري والسوري، الذي شكل فنا عربيا سيطر على أفئدة الشعوب من الخليج إلى المحيط.