في ظلّ اشتداد الحرب على غزة بمستوى غير مسبوق، تتجه الأنظار إلى نيويورك حيث يُعقد غدًا مؤتمر دولي جديد تحت عنوان “حلّ الدولتين”. المؤتمر، الذي يروّج له المنظمون باعتباره منعطفًا دبلوماسيًا في مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، يجيء في لحظة مشبعة بالتناقضات: من جهة، تزايد اعترافات دولية بالدولة الفلسطينية، ومن جهة أخرى، توسع العمليات العسكرية البرية في غزة، وتضع علامات استفهام على جدوى أي جهود سياسية لا تترافق مع وقف فوري للإبادة.
تشارك في المؤتمر عشرات الدول، بعضها ذات ثقل سياسي واقتصادي، ويُنتظر أن يخرج بوثيقة تحمل اسم “إعلان نيويورك” كإطار جامع لإحياء خيار الدولتين. لكن ما يثير الجدل أن هذا التحرك الدبلوماسي يأتي بعد عقود من المؤتمرات والمبادرات التي يمكن وصفها بالفشل عن إحداث تغيير ملموس على الأرض. وبالتالي، فإن السؤال لا يتعلق فقط بما سيُكتب في الإعلان، بل بما إذا كان المؤتمر سيحوّله إلى التزامات قابلة للتنفيذ، أم سيظلّ مجرد بيان رمزي يضاف إلى أرشيف التخاذل الدولي.
لكن ما يثير القلق أن مثل هذه المؤتمرات قد تتحول إلى وسيلة لتخفيف الضغط على “إسرائيل”، عبر التلويح بأفق سياسي بديلاً عن المحاسبة على جرائم الحرب. وألا ينتج عنها أي إجراءات عملية لإيقاف آلة القتل الدائرة في غزة والضفة الغربية.
من سيشارك في المؤتمر؟
يُعقد مؤتمر “حلّ الدولتين” غدًا الثلاثاء في نيويورك برعاية الأمم المتحدة، بمشاركة أكثر من سبعين دولة، من بينها دول أوروبية بارزة كإسبانيا وفرنسا وأيرلندا، إلى جانب حضور عربي لافت يتقدمه وزراء خارجية مصر والأردن وقطر والسعودية. كما سيحضر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث تترأس بلاده المؤتمر إلى جانب السعودية، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وعدد من قادة الدول، في حين من المتوقع أن يشارك ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عبر رابط فيديو مباشر.
تبنّت كذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يسمح للرئيس الفلسطيني محمود عباس بالمشاركة عبر الفيديو (مسجل أو مباشر) في المؤتمر والاجتماعات رفيعة المستوى بشكل استثنائي لهذا العام لأن الولايات المتحدة لم تمنح تأشيرات للوفد الفلسطيني والرئيس الفلسطيني، على الرغم من أن ذلك يخالف اتفاقية الأمم المتحدة مع الولايات المتحدة كدولة مضيفة لمقر الأمم المتحدة الرئيسي.
يصف المنظمون المؤتمر بأنه محاولة “إعادة إطلاق” المسار السياسي المتوقف منذ سنوات، في ظل غياب أي مفاوضات مباشرة جادة بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ 2014. فيما يرتكز جدول الأعمال على بحث سبل إحياء مبدأ “حلّ الدولتين” كأساس للتسوية، مع التشديد على ضرورة وضع جدول زمني ملزم، وتوفير آليات متابعة دولية تحول دون تكرار إخفاقات جولات التفاوض السابقة.
كما يأتي المؤتمر مع تزايد الاعترافات الرسمية بالدولة الفلسطينية من جانب عدد من الحكومات والبرلمانات الغربية، وتصاعد الضغط الشعبي والحقوقي لإنهاء العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة. إذ سبقت بريطانيا وكندا وأستراليا انعقاد المؤتمر بإعلان اعترافها بالدولة الفلسطينية أمس الأحد، في خطوة تهدف إلى إسناد الجهود الدبلوماسية الجارية.
ومن المتوقع أن تُقدم دول أخرى، بينها فرنسا وبلجيكا ومالطا ونيوزيلندا، على الإعلان عن اعترافها نهاية اليوم الاثنين، مع التشديد على أن تحديد حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 في نص الاعتراف يُعدّ عنصرًا جوهريًا، وإلا فإن الخطوة لا تتجاوز تغييرًا شكليًا في تسمية السلطة الفلسطينية القائمة. ويُعقد المؤتمر عشية انطلاق اجتماعات الجمعية العامة رفيعة المستوى في نيويورك، ما يضفي عليه زخمًا إضافيًا على الساحة الدولية.
مع انتهاء المؤتمر، ستُسدل الستارة على هذه المرحلة من الدبلوماسية رفيعة المستوى والتي بدأت نهاية العام الماضي بموجب قرار للجمعية العامة حول حلّ القضية الفلسطينية بالسبل السلمية وعقد مؤتمر يصدر عنه منتج أو وثيقة للعمل من أجل تطبيق هذا الحل الذي يقول المجتمع الدولي أنه يريده.
ما هو إعلان نيويورك؟
تترقب الأنظار الوثيقة الختامية للمؤتمر، التي باتت تُعرف إعلاميًا باسم “إعلان نيويورك”. وتشير التسريبات الدبلوماسية إلى أنها ستؤكد بوضوح على التمسك بحلّ الدولتين على أساس حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، مع جعل القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. الوثيقة ستتضمن أيضًا دعوة لوضع جدول زمني محدد لاستئناف المفاوضات، مع إنشاء آلية متابعة دولية تشرف على التنفيذ وتقدّم تقارير دورية لمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما ستسعى مسوّدة الإعلان إلى تجاوز الطابع الرمزي الذي وسم محاولات سابقة، عبر تضمين التزامات عملية مثل وقف الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وتوفير ضمانات دولية لأي اتفاقات مستقبلية. غير أن دبلوماسيين مشاركين يقرّون بأن غياب الولايات المتحدة عن تبني الوثيقة رسميًا قد يحدّ من فعاليتها، ويجعلها أقرب إلى موقف سياسي جماعي أكثر منه خطة ملزمة.
ومع ذلك، يُنظر إلى “إعلان نيويورك” بوصفه أول إطار متفق عليه دوليًا منذ سنوات يعيد وضع الدولة الفلسطينية في صلب النقاش الأممي، ويمنح دفعة سياسية للجهود الرامية إلى إنهاء الاحتلال وإحياء المسار التفاوضي.
صكّ غفران أم فرصة للمواجهة؟
يثير المؤتمر بمجمله تساؤلات جوهرية حول طبيعته ومخرجاته، فهل سيمثل بالفعل خطوة نحو تحقيق العدالة، أم أنه يوفّر غطاءً دبلوماسيًا لإسرائيل يخفف من وطأة المساءلة عن الانتهاكات والجرائم المرتكبة في غزة منذ قرابة العامين؟ فإعادة إحياء الخطاب التقليدي حول “حلّ الدولتين” في ظل استمرار العدوان تبدو أشبه بمحاولة لتقديم صكّ غفران لإسرائيل، يمنحها فرصة للظهور كطرف في مسار سياسي بديل، بدل أن تواجه المحاسبة القانونية الدولية.
كذلك ناشطون في مجال حقوق الإنسان يرون أن خطوة الاعتراف بدولة فلسطينية ليست أكثر من محاولة للتخفيف من الضغط الداخلي المتصاعد، إذ تواجه الحكومات الأوروبية انتقادات شعبية متزايدة بسبب دعمها غير المشروط لإسرائيل أو صمتها أمام الانتهاكات. بالتالي، فإن الاعتراف المتتالي بالدولة الفلسطينية الآن بدل الضغط على “إسرائيل” لإيقاف الإبادة في غزة، يُقرأ كخطوة رمزية تهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي وإعادة التوازن لصورة هذه الحكومات أمام مجتمعاتها.
في المقابل، يرى البعض أنه يمكن للفلسطينيين الاستفادة من هذا الزخم إذا استُثمر بشكل منظم على المستويين السياسي والقانوني. فالاعترافات الدولية تتيح لهم تعزيز حضورهم في المحافل الأممية، وتدعم مطالبهم في المؤسسات القضائية الدولية، كما تفتح المجال أمام تعزيز التعاون الاقتصادي والدبلوماسي مع دول جديدة. غير أن قيمة هذه المكاسب تبقى رهينة بتحويل الاعتراف إلى إجراءات فعلية تُلزم “إسرائيل” بوقف انتهاكاتها وتغيير سلوكها، وإلا فإنها ستظل أيضًا مجرد مكاسب شكلية في سياق صراع طويل الأمد.
ما حدود الرد الإسرائيلي؟
لم تُخفِ تل أبيب امتعاضها من موجة الاعترافات بالدولة الفلسطينية، لكن سقف ردها بدا محدودًا في جوهره. في هذا الشأن، يقول مارك فايفل، المسؤول السابق في الاتصالات بالبيت الأبيض، أن هذه الاعترافات تبقى شكلية ولا تُحدث أثرًا حقيقيًا على مسار السلام أو مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، معتبرًا أن مقاربة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته ماركو روبيو لإدارة الصراع أثبتت فشلها، وأن حلّ الدولتين لا يزال بعيد المنال.
كما نقلت القناة الإسرائيلية الـ15 عن مصدر سياسي أن روبيو منح إسرائيل ضوءًا أخضر لفرض السيادة في الضفة الغربية، ما يبدو أشبه بمحاولة من نتنياهو لمعاقبة السلطة الفلسطينية. وهو ما اعتبرته القناة الـ12 الأوروبية مصدر قلق، محذّرة من أن المضي في تعزيز الاحتلال سيُحمّل حكومة نتنياهو عواقب دولية متزايدة.
ويرى الكاتب المتخصص في الشؤون الإسرائيلية إيهاب جبارين أن ردود “إسرائيل” تتسم بـ”الجنون”، إذ كانت تتعامل سابقًا مع الاعترافات كورقة مناورات، فيما تجد نفسها الآن في مأزق استراتيجي. فطوفان الاعترافات، وفق تقديره، أعاد تعريف “إسرائيل” من دولة “محاصرة” إلى دولة “احتلال دائم”، بما يضرب في عمق المشروع الصهيوني نفسه.
فيما تستمر محاولات نتنياهو بتقديم الرد الإسرائيلي على أنه موقف مشترك مع الولايات المتحدة، لإظهار أن “إسرائيل” ما زالت تحظى بدعم أميركي واسع في مواجهة المجتمع الدولي.
إذن، يبدو مؤتمر “حلّ الدولتين” بما يحمله من اعترافات متتالية ووعود سياسية، قد أضاف عنصرًا جديدًا إلى المشهد، لكنه لم يبدّد الغموض حول جدوى المسار برمّته. فيما يغدو السؤال مفتوحًا: هل يُمهّد المؤتمر لانطلاقة سياسية حقيقية، أم يظل مجرد حلقة جديدة في دائرة البيانات الرمزية التي تُطيل عمر الصراع بدل أن تُنهيه؟