مضى موسم الكرز واللوز، القمح والشعير، وموسم الزيتون على الأبواب، وسكان قرية جباثا الخشب في ريف القنيطرة الشمالي لم يتمكنوا من حصاد أراضيهم. هذه المأساة ليست إلا وجهًا آخرَ لعمليات الاحتلال العسكرية في القنيطرة؛ فلم تكن التوغّلات وإنشاء القواعد ذات بعد أمني فقط، بل ألقت بظلالها الثقيلة على موارد السكان ومعيشتهم.
منذ اليوم الأول لسقوط نظام الأسد استغل الاحتلال الفراغ الأمني الحاصل جنوب غرب سوريا لينشئ شبكة قواعد عسكرية تمتد من قمة جبل الشيخ إلى جنوب حوض اليرموك. وبالتوازي مع تحركاته العسكرية في المنطقة، فرض الاحتلال واقعًا اقتصاديًّا جديدًا على سكان القنيطرة بطرق شتى، فالقواعد التي استحدثها، والمساحة الأمنية حولها، وطريق “سوفا 53″، جميعها بُنيت على أراضٍ تعود ملكيتها لأهالي القرى التي تعتمد بشكلٍ أساسي على الزراعة ورعي المواشي لتأمين قوتها اليومي.
احتلال يفرض قيودًا عسكرية ويخلق معاناةً اقتصادية
“أراضٍ مُعدّة للبناء، أراضٍ تُزرع كل عام بمزروعات موسمية، بساتين أشجار مثمرة ومراعٍ”، بهذا التقسيم وصف المزارع حسن سعد الدين الأراضيَ التي استولت عليها قوات الاحتلال ومنعت أصحابها من الوصول إليها في قرية جباثا الخشب.
يقول حسن أيضًا: “كحال الكثير من أهالي القرية، خسرتُ 16 دونمًا، قسم منها أشجار زيتون، والآخر مرعى للماشية. ثمار هذا العام تركت على الأرض، لم يُسمح لنا بجَنيها. كنّا في حالة صعبة، واليوم أصبحت حالتنا تحت الصفر”.
تقدَّر مساحة الأراضي التي حولها الاحتلال إلى مناطق عسكرية مغلقة في قرية جباثا الخشب بسبعة آلاف دونم، بحسب مختار القرية. وقد تم تجريف واقتلاع أشجارِ خمسينَ دونمًا منها، وفي الحميدية بلغت المساحة المصادَرة نحو أربعة آلاف دونم، وفقًا لرئيس بلديتها.

في ريف المحافظة الجنوبي يعاني الأهالي أيضًا بسبب سيطرة الاحتلال على تل أحمر غربي وإنشاء موقع فيه، ولتسهيل توغلاتهم في التل المقابل له – تل أحمر شرقي – أغلق الاحتلال الطريقَ الذي يصل بين قرى الريف الأوسط والجنوبي.
فايز الفواز، مزارع من قرية الأصبح جنوبي المحافظة وأحد المتضررين، يقول: “مساحة أرضي التي أصبحت محرّمةً علينا 170 دونمًا، تتوزع بين التل الشرقي ومحيطِه. أملك بستان زيتون هناك وأعتمد عليه بشكلٍ أساسي في تأمين مؤونة عائلتي، وأراضٍ كانت مَراعٍ للماشية التي أصبحت أبيع منها لأوفّر أعلافًا للباقي”.
ويضيف ابن قريته شادي العزام: “قبل التوغل الإسرائيلي كان الوضع سيئًا، ومعه تفاقم الوضع أكثر. أملك 100 دونمٍ لا أستطيع الوصول إليها، مثل الكثير من سكان القرية، فنضطر لشراء أعلافٍ بمبالغ هائلة. سمح لأصحاب بعض الأراضي بالوصول إليها وزراعتها بشرط التواصل مع جنود الاحتلال، لكن جميعَ أهالي القرية يرفضون التواصل معهم تحت أي ظرف كان”.
لم تقتصر الانتهاكات على مصادرة الأراضي، بل يحتجز جنود الاحتلال بين الفينة والأخرى قطعانَ الماشية التي تقترب من خطّ وقف إطلاق النار، وسُجّل عدّة مرات إطلاق نيران بشكلٍ مباشر على القطعان، مما أدى إلى نفوق العشرات منها.
بين الإهمال وعروض “المساعدات الإنسانية”
تعد محافظة القنيطرة أصغرَ المحافظات السورية، لكنها ذات أهمية استراتيجية كبيرة بموقعها ومواردها، مما جعلها محطَّ أطماعِ الاحتلال الذي احتل القسم الأكبر منها وهجر أهلَها عام 1967.
يرى إبراهيم النميري، وهو موظف متقاعد، أن المعاناة لم تتوقف منذ ذلك التاريخ: “منذ توقيع اتفاقية الهدنة عام 1974، فرض النظام رقابةً أمنيةً شديدةً على القسم الواقع تحت سيطرته، فلم يُسمح لغير أبناء المحافظة بالدخول إليها بدون تصريحٍ من فرع سعسع الأمني. هذا التشديد غيبها عن الاستثمارات، وفي الوقت نفسه لم تعمل الدولة على إنشاء مشاريع تنمية فيها”.
الواقع الخدمي يكشف عن حجم الإهمال: صحيًا لا يوجد في المحافظة، التي مساحتها 460 كيلومترًا مربعًا، سوى مشفى واحد في مركزها (مدينة البعث)، والوصول إليه ليس بالأمر السهل، بسبب المسافة التي يمكن أن تصل لأكثر من 45 كيلومترًا بينه وبين قرى جنوب القنيطرة، وبسبب ندرة المواصلات إلا في أوقات الصباح الباكر.
أما المياه، فعلى الرغم من وجود 7 سدود في المحافظة ووفرة المياه الجوفية، إلا أن الجفاف ضرب المنطقة هذا العام، وعانت القرى من شُح لأسباب غير انخفاض منسوب الأمطار، وهي شبكة متهالكة، وتقنين الكهرباء الذي لا يساعد في عملية الضخ، والتخريب المتعمَّد من قبل الاحتلال الذي دمر محطة المياه الرئيسية في ريف القنيطرة الجنوبي، والتي تغذي عدة قرى وبلدات.
يعلّق شادي العزام: “دَورُ قريتي بالمياه يتعارض مع تقنين الكهرباء، لذا لا نستطيع تأمين احتياجاتنا سوى عن طريق شراء صهاريج المياه”.
في ظل الظروف الاقتصادية التي صنعتها الآلة العسكرية، وأمام الواقع المتردي، حاول الاحتلال أن يستميل السكان عبر بوابة “المساعدات الإنسانية”، حيث وزع سِلالًا غذائيةً وطبية، وأطلق وعودًا بتحسين البنية التحتية، وقدم عروض عمل داخل الأراضي المحتلة مستهدفًا شريحة الشبان العاطلين عن العمل.
غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل، وقوبلت بالرفض في القرى ذات الغالبية السُّنية، التي عمد شبانها إلى حرق محتويات السِّلال، في رسالة واضحة لرفض أي تطبيع مع الاحتلال رفضًا قاطعًا.
سياسة “فرّق تَسُد”
لم تكن وحدها الآلة العسكرية أو سياسة خنق الموارد الاقتصادية هي المتبَعةَ من قبل المحتل، بل عمل أيضًا على إحداث شرخٍ في النسيج المجتمعي، إذ قدم الاحتلال نفسه باعتباره “حاميًا للأقليّات”، وهذا ما أعلنه صراحةً المسؤولون الإسرائيليون في أكثر من مناسبة، وتجسد هذا الطرح على الأرض في صورة إجراءات موجَّهة بشكل خاص للطائفة الدرزية.

فتحت “إسرائيل” خطوط إمدادٍ غذائي ولوجستي نحو القرى الدرزية في سفوح جبل الشيخ. وأعلن المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال بتاريخ 28 مايو/ أيار عن تشغيل منشأة طبية ميدانية في قرية حضر بريف القنيطرة الشمالي، تهدف إلى توفير استجابة طبية ودعم سكان المنطقة من الدروز.
بينما خضعت القرى ذات الغالبية السنية لعمليات نزعِ سلاحٍ ممنهجة واعتقالات متكررة، لم تُسجل في القرى الدرزية إجراءات مماثلة، ولم يعلن الاحتلال سوى عن اعتقال واحد لشخصٍ يُدعى زيدان الطويل بدعوى ارتباطه بفيلق القدس، إضافةً إلى مداهمتين محدودتين لشبكات تهريب أسلحة، أما نزع السلاح الكامل أو حملات المداهمة الواسعة فلم تطبق، على عكس القرى السنية التي تعاني تضييقًا يوميًّا.
ما بين مصادرة الأراضي، وتجريف الغابات، وخنقِ الأرزاق، وخلقِ الحاجة، وشق صفوف المجتمع، تتضح معالم سياسة الاحتلال المركبة التي تقوم على الضغط العسكري والاقتصادي والاجتماعي، لكن تبقى الهوية الوطنية لأهالي القنيطرة الشيء الأكثر صمودا في وجه الاحتلال؛ هويةٌ تتجلى في رفضهم ومقاومتِهم لكل أشكال التطبيع أو المساومة.