إنّ قراءة مشهد العفو الرئاسي عن الناشط السياسي علاء عبد الفتاح لا يمكن أن تتم بمعزل عن شبكة معقدة من الحسابات السياسية والدبلوماسية والأمنية في الداخل المصري التي تحكم قرارات النظام، وأيضًا رؤية الرئيس المصري العامة، وربما الشخصية، للسجناء السياسيين. فبينما يرى البعض في هذه الخطوة بادرة حسن نية أو بداية انفراجة في ملف حقوق الإنسان وسط المشهد الأمني والإقليمي المعقد، يرى آخرون أنها مجرد إجراءات عادية، كما العادة في استراتيجية النظام في “الإفراج بالقطعة” بحق سجناء سياسيين محددين، وأنها لا تغيّر من جوهر السياسة الأمنية المصرية.
في هذا المقال، نحاول الإجابة عن سؤال: لماذا استجابت السلطة للعفو عن علاء؟ في هذا التوقيت؟ كما نحاول تفكيك المسارات المعقدة للعقلية الأمنية في التعامل مع ملف المعتقلين في مصر.
النظام المصري واختيار التوقيت
لم يكن إصدارُ العفو عن علاء عبد الفتاح عاطفيًّا أو إنسانيًّا بحتًا، بل كان نتاجًا لتراكماتٍ من الضغط بمستوياته المختلفة، سواء أكان ضغطًا حقوقيًّا داخليًّا أو خارجيًّا أو حتى دبلوماسيًّا، من حيث مطالبةُ الحكومة البريطانيّة بالإفراج عنه. فكون علاء يحمل الجنسيّة البريطانيّة، فقد تحوّل ملفّه إلى قضيّة دبلوماسيّة رفيعة المستوى، مقارنةً بآلافٍ آخرين يقبعون في السجون المصريّة منذ سنوات.
إنّ هذا التمييز بين قضيّة علاء وغير علاء من وجوهٍ وشخصيّاتٍ شبيهة، وبين قضيّة المعتقلين بشكلٍ عام، هو جوهرُ العقليّة الأمنيّة الحاكمة. فبينما يُنظر إلى علاء كرمزٍ للنشاط السياسيّ غير “الإسلاميّ”، يرى النظامُ في آلاف المعتقلين المنتمين إلى التيّار الإسلاميّ تهديدًا وجوديًّا يمكن إدارته دون التهاون معه. هذا الفصلُ الممنهج يسمح للنظام بالتعامل مع كلّ ملفٍّ على حدة، وكلّ إنسانٍ وحدَه، دون أن يضطرّ إلى معالجة المشكلة من جذورها.
لكن، وفيما يخصّ قرارَ العفو، فإنّه لا يدلّ على تغيير العقليّة الأمنيّة للنظام المصريّ مع ملفّ المعتقلين، بل هو في مضمونه يوجّه رسالةً إلى كلّ المدافعين عن علاء عبد الفتاح، وفي مقدّمتهم أسرته، وهي: أنّ النظام لا يخضع للضغوط، سواء أكانت الحملاتُ الحقوقيّة المحليّة أو الدوليّة أو حتى الضغط من الحكومة البريطانيّة، أو الضغط الإنسانيّ بسبب إضراب والدته ليلى سويف. فالنظام ترك ليلى وكانت على وشك الموت، قبل أن تتراجع عن إضرابها استجابةً للنداءات الإنسانيّة من بناتها وأحبابها.
فيما بعد، وخلال الأسابيع الأخيرة، لم يعد لقضيّة علاء صدى إعلاميّ أو حقوقيّ كما كان في وقت اضطراب ليلى. لذا، ربّما اختار النظام أن يتسامح مع قضيّة علاء، وأن يستجيب لكلّ المناشدات التي جاءت له منذ سنوات، وفي مقدّمتها من شخصيّاتٍ تعمل في المجلس القوميّ لحقوق الإنسان التابع للدولة، وأن يخرج للإعلام بصورةٍ مفادُها: أنّ الرئيس المصريّ أمر بتوجيه طلبٍ لدراسة ملفّ علاء عبد الفتاح، ومن ثم، وبعدها بأيّام، صدر قرارُ العفو عنه.
هذه العقليّة، وهي عقليّةُ المؤسسة الأمنيّة وعلى رأسها عبد الفتاح السيسي، لا يُستدل منها سوى شيءٍ واحد، وهو أنّ النظام المصري ورئيسه، في الوقت الحالي، لا يخضعان لأي ضغوط إنسانية أو حقوقية أو دبلوماسية، بل سيُفرَج عن علاء، وعن أي سجينٍ آخر، بأمر الرئيس وفقط، لأنّه وحده من يمتلك، بموجب القانون، قرار العفو.
المسارات الأمنية في ملف المعتقلين
إنّ ملفَّ المعتقلين في مصر ليس كتلةً واحدةً في العقليّة الأمنيّة، بل هو مجموعةٌ من المسارات المتوازية التي يتعامل معها النظامُ بمنطقٍ أمنيّ مختلف لكلٍّ منها.
فيوجد مسارٌ غيرُ إسلاميّ، وهو مسار يضمّ فئاتٍ واسعةً من الصحفيّين والنشطاء السياسيّين والمحامين وكلّ من هو غير محسوبٍ على الإسلاميين فكريًّا أو تنظيميًّا، ويتعامل النظامُ معهم باعتبارهم لا يشكّلون خطرًا وجوديًّا، ولكلّ ملفٍّ منهم وضعُه الأمنيّ الخاص. ويفرج النظام عن جزءٍ منهم كلّ فترة، حسب حاجته للتسويق الحقوقي أو حتى بلا أي سبب، غير أن الضباط الذين يتولون الملف رأوا أن استمرار سَجنهم لم يعد ضروريًّا. لكن هذا لا يمنع الأمنَ من استمرار مراقبتهم وتهديدهم واعتقالهم من جديد.
أمّا في ما يخصّ الإسلاميين وقياداتهم، لا سيّما قيادات جماعة الإخوان، ومن صنّفهم الأمنُ على أنّهم من الإسلاميين الجهاديّين (المسلّحين)، سواء أكانوا مستقلّين أو منتمين إلى الجماعات الإسلاميّة المسلّحة مثل ولاية سيناء التابعة لتنظيم الدولة الإسلاميّة، فلا يتهاون النظامُ معهم ولا يسمح بخروجهم من السجن أبدًا، بل يتمّ تدويرهم سواء بعد إخلاء سبيلهم من النيابة أو المحكمة أو حتى بعد انقضاء مدّة حكمهم.
أمّا الإسلاميون من القواعد التابعة للإخوان المسلمين أو المحسوبون عليهم والمتعاطفون معهم، فيُسمح بخروجهم من السجون، ثم يُعاد اعتقالهم مرّةً أُخرى، بلا أيّ صدى لصوت مأساتهم، سوى عند سماع أخبار وفاتهم داخل السجون المصريّة بسبب الإهمال الطبّي أو غير ذلك من أسباب تتعلّق بالتعذيب أو الصحّة النفسيّة. وهذا ما اعتادت عليه الأجهزة الأمنيّة في التعامل معهم؛ إذ لا قيمة لهم في نظر الأمن. لكن استمرار وجودهم داخل المجتمع المصريّ بلا رقابة أو إعادة اعتقال قد يُشكّل خطرًا على النظام، الذي يحاول منع إعادة تشكّل أيّ حواضن تنظيميّة لجماعة الإخوان المسلمين.
أمّا المعتقلون مؤخرًا على خلفيّة قضايا التضامن مع فلسطين، فهؤلاء يُعَدّون فئةً جديدةً من المعتقلين في مصر. وبمرور الوقت، يُفرج عن بعضهم من السجون، إذ ترى العقليّة الأمنيّة أنّ خروجهم دفعةً واحدة قد يُحدث أو يُشجّع على تشكيل مجموعات تضامنيّة مع فلسطين تعمل خارج سيطرة النظام، وهذا ما لا يريده. فالنظام يتعامل مع قضيّة فلسطين من زاوية الحراك المجتمعيّ، حيث يريد أن يكون هو الجهة الوحيدة التي تتحكّم في أيّ حراكاتٍ تضامنيّة، سواء احتجاجاتٍ أو تجمّعاتٍ عند معبر رفح أو تجميع مساعدات أو غير ذلك. لذا فإنّ اعتقالهم يُعزّز ممارسةَ السلطويّة في إخضاع المجتمع المصريّ إزاء حراكه في جميع القضايا، سواء الداخليّة أو الخارجيّة.
المعارضة الفاشلة: التشرذم كأداة للسيطرة
إلى الآن، وبعد أكثر من 12 عامًا من فتح السجون المصريّة لعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيّين، بالإضافة إلى تمثّلات متباينة من قمع المجتمع المصريّ، فإنّ كلَّ هذا لم يكن كافيًا لَمَّ شمل المعارضة المصريّة في الداخل والخارج بجميع أفكارها وتنظيماتها من أجل مقاومة قمع السّلطويّة. بل بقيت منقسمةً كما هي، ولا سيّما الانقسام القديم بين ما هو مدنيّ (علمانيّ) وإسلاميّ، ولم يُفلحوا جميعًا في تشكيل جبهةٍ سياسيّةٍ تستطيع التحدّث مع النظام والضغط عليه بكلّ السبل من أجل إحداث انفراجةٍ في ملفّ المعتقلين.
كما أنّ من ضمن أسباب الفشل كانت القطيعةُ العميقةُ والثقةُ المفقودة بين التيّارات غير الإسلاميّة والإسلاميّة؛ فالخلافات التي نشأت منذ ثورة يناير 2011، وتفاقمت بعد عام 2013، خلقت حاجزًا نفسيًّا وسياسيًّا لم تتجاوزه جميع الأطراف. وأيضًا قام النظامُ بتغذية هذا الانقسام بذكاء، عن طريق تصوير الإخوان على أنّهم العدوّ الوحيد له، ما دفع بعض التيّارات المعارضة الأخرى إلى الابتعاد عنهم خوفًا من التصنيف أو التخوين أو القمع. كما أصبح التضامن مع معتقلي الإخوان (الإسلاميين) بمثابة شبه “صكّ اتّهام” جاهز لكلّ من يطالب به، ولا سيّما الشخصيّات الحقوقيّة التي تتواصل مع الجهات الأمنيّة، ما جعل هذه القضيّة إشكاليّةً تخصّ الإخوان وحدهم، وليست قضيّة وطن بأكمله.
كذلك، لم تُضِف السطور الأخيرة من مشهد المعارضة المصريّة جديدًا إلى سجلّ إخفاقاتها. فقد كان السباق الرئاسيّ الأخير أشبه بفرصةٍ ضائعةٍ جديدةٍ للوحدة، حيث انزلق الجميع نحو التشرذم المعتاد. ففي وقتٍ كان فيه المرشّح أحمد الطنطاوي يواجه النظام شبه منفردٍ، أعزلَ من أيّ دعمٍ خارجيّ أو حشودٍ شعبيّة، قرّر جزءٌ من المعارضة إثقالَ كاهله بمعارك هامشيّة وربّما سابقةٍ لأوانها. وكان التركيز ينصبّ على تفكيك شخصيّته بدلًا من دعم قضيّته، وفي هذه المعارك الجانبيّة أُهدرت طاقةٌ كان يمكن أن تُستثمر في بناء جبهةٍ حقيقيّة.
وعندما خرج الطنطاوي من السباق، أتمّت المعارضةُ انقسامَها بدفع مرشّحٍ آخر، فريد زهران، الذي استكمل المشهدَ بتقديم شرعيّةٍ وهميّةٍ لانتخاباتٍ محسومةٍ سلفًا، مانحًا النظامَ الإطارَ الذي يحتاجه لإضفاء شرعيّةٍ على الولاية الثالثة.
وما إن خفتت الأضواء حتى أُسدل الستار على مسرحيّة الانتخابات، ليُسجَن الطنطاوي في صمتٍ مُدوٍّ، تحت غطاء اتهاماتٍ شكليّةٍ تتعلّق بـ”التزوير”، إذ نجحت البيروقراطيّة القضائيّة في تجريد الرجل من رمزيّته، وحرمانه من أن يكون “شهيدًا للدفاع عن الديمقراطيّة” في نظر المجتمع المصريّ. وبعد عامٍ كاملٍ من سجنه، لم يُحرّك موقفُه الشجاع، الذي أظهره في وقتٍ كان فيه القمعُ في ذروته، سوى القليل من التعاطف.
لم يتمكّن هذا الموقف من تشكيل اصطفافٍ حقيقيّ، بل بقي صرخةً فرديّةً في صحراء صامتة من الخذلان السياسيّ، ليثبت مرّةً أخرى أنّ المعارضة المصريّة لم تفشل في التوحّد فقط، بل أصبحت محترفةً في تفويت الفرص التاريخيّة. كذلك، استطاعت السّلطويّة فرض إرادتها على من تُخاطبهم من المعارضة، ولا سيّما الحركة المدنيّة التي استجابت للحوار الوطنيّ، وارتضت أن يكون ملفّ المعتقلين السياسيّ ملفًّا للمحاصصة، فقبلت أن يخرج سجينٌ واحد أو حتى العشرات كلّ فترة، مقابل تجميل صورة النظام المصريّ والجلوس معه على طاولة الحوار، التي لم يعد مهتمًّا بالجلوس عليها منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2013، أي منذ تغيّر المشهد الحقوقيّ والإقليميّ والدوليّ، الذي سمح لمصر بخروجٍ جزئيّ من أزمته الاقتصاديّة والحقوقيّة والسياسيّة.
نهايةً، يبقى ملفّ المعتقلين في مصر مرآةً تعكس الواقع السياسيّ المصريّ المعقّد. فالعفو عن علاء عبد الفتّاح يُمثّل حالةً شخصيّةً له ولأسرته وأحبابه، لكنّه لا يُمثّل تحوّلًا استراتيجيًّا – ولو نسبيًّا – في سياسة النظام، وليس له أيّ علاقة، لا من قريبٍ ولا من بعيد، كما يدّعي البعض، بتزايد التهديد الإسرائيليّ حيال مسألة تهجير قطاع غزّة، أو بالتوتّر المصريّ الإسرائيليّ بشأن التهجير بعد اجتياح مدينة غزّة. بل هو دلالة على أنّ السّلطويّة تفضّل استخدام سياسة “العفو الانتقائيّ والمحاصصة” لأسباب وأهداف تخصّها، مع الحفاظ على قبضتها الأمنيّة الصارمة على الداخل، خاصّةً فيما يخصّ التيّار الإسلاميّ الذي يموت ويعاني منتموه يوميًّا في السجون، والذي لا يزال يُعتبر التهديد الأكبر في عيون الأجهزة الأمنيّة. وفي ظلّ انقسام المعارضة، يستمرّ الوضع الراهن في تأكيد أنّ ملفّ المعتقلين ورقةُ مساومةٍ في يد النظام، يُديرها كيفما شاء، وليست قضيّة مجتمعيّة وسياسيّة، وأيضًا إنسانيّة، تستوجب الاستجابة.