يواجه قطاع التربية والتعليم في سورية تحديات هائلة ناتجة عن تراكمات الحرب (13 عامًا من الدمار والانقسامات الداخلية)، بالإضافة إلى قرارات انتقالية توصف بالمتسرعة والمثيرة للجدل أحياناً. كما يعاني القطاع من انهيار البنية التحتية، ونقص الكوادر، وتحديات اقتصادية كبيرة، مع محاولات لإعادة هيكلة المناهج والرواتب. فما هي عواقب هذه المشاكل؟، وما هي الحلول المقترحة للنهوض بالواقع التعليمي السوري؟
اختلاف المناهج الدراسية
كانت سوريا مقسمة إداريًا قبل القضاء على نظام الأسد إلى مناطق خاضعة لثلاث حكومات رئيسية (الأسد، الإدارة الذاتية الكردية، وحكومة الإنقاذ في إدلب)، مما أدى إلى وجود مناهج مختلفة تمامًا. فالمناطق الخاضعة سابقًا للأسد (مثل دمشق وحمص) تعتمد مناهج بعثية، بينما في إدلب كانت المناهج أكثر تأثرًا بالتوجه الإسلامي، في حين تُدرَّس المناهج بثلاث لغات هي الكردية والعربية والإنكليزية في شمال وشرق سورية (منهاج الإدارة الذاتية، ومنهاج وزارة التربية السورية، ومنهاج اليونيسف).
وبرأي د. مهاني جميل شلهوب، المدرسة في قسم المناهج وطرائق التدريس – كلية التربية بجامعة دمشق: “وجود مثل هذه الاختلافات في المناهج سيؤدّي إلى ظهور اختلاف في أفكار أبنائنا الطلبة، فكيف نستطيع أن نبني جيلاً كاملاً بفكر واحد يعمل على نهوض المجتمع السوري بكافة مكوناته ما دمنا نقدّم مناهج مختلفة بين جزء وآخر من أجزاء الدولة؟”.
وتضيف د. شلهوب: “اختلاف المناهج يؤدّي إلى رفد سوق العمل بخريجين من مستويات مختلفة، وهو ما ينعكس سلبًا على جودة العمل في قطاعات الدولة المختلفة”. بينما يعتقد د. ماهر محمود آغا، المدرّس في الكلية نفسها، أن اختلاف المناهج بين أجزاء الدولة ليس له تأثير كبير على العملية التعليمية.
في يناير/ كانون الثاني 2025، أصدرت وزارة التربية (بقيادة نذير القادري) تعميمات بتعديلات جذرية، شملت حذف كل ما يمجّد النظام السابق (صور الأسد، النشيد الوطني “حماة الديار”، دروس تاريخية عن “الاحتلال العثماني”)، واستبدال “قانون العدل” بـ”شرع الله”، و”الشهادة في سبيل الوطن” بـ”في سبيل الله” في كتب التربية الإسلامية. كما تم إلغاء مادة “التربية الوطنية” كاملة، مع توزيع درجاتها على التاريخ والجغرافيا، وتعويضها جزئيًا بـ”التربية الدينية” (إسلامية أو مسيحية)، إضافة إلى حذف نظرية التطور من كتب العلوم.

وقد أثارت هذه التغييرات احتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرها النقاد “خطوة إلى الوراء” و”تأثيرًا أيديولوجيًا إسلاميًا”، خاصة أن الحكومة انتقالية وغير مخوّلة بإجراء تعديلات جذرية. لكن الوزارة نفت حدوث تغييرات واسعة، مشيرة إلى تشكيل لجان لمراجعة شاملة. وفي المقابل، أكد التعميم رقم 5/443 (سبتمبر 2025) حذف رموز النظام، وإضافة فوجين دراسيين (صباحي ومسائي) لاستيعاب الاكتظاظ الناتج عن الدمار الذي طال 50% من المدارس في حمص وحماة، حيث يضم الصف الواحد نحو 50 طالبًا، ووصل العدد إلى حوالي 70 طالبًا مع بداية العام الدراسي في درعا.
ويرى د. ماهر في هذه التعديلات: “ضرورة حتمية واحتياج ملح لتغيير كل ما يتعلق بالنظام البائد ورموزه، ولا أعتقد أن هناك نتائج سلبية، بل إن الإيجابيات كثيرة”.
وتقول د. شلهوب: “أنا مع فكرة التعديل المستمر للمناهج، لأن التطوير والتعديل عامل مهم لمواكبة الحضارة”. وتضيف: “المرونة من أهم العوامل لنجاح العملية التعليمية، وتعني القدرة على التغيير والتطوير وفقًا لمجريات الواقع الذي نعيشه”.
أما بشأن حذف كل ما يرتبط بالنظام السابق، فترى: “أننا لسنا بحاجة لإدخال أفكار سياسية في المناهج التعليمية تتعلق بنظام الأسد، بقدر ما نحن في أمسّ الحاجة إلى إدخال أفكار تربوية أخلاقية، لأننا نسعى في العملية التعليمية لبناء إنسان، وبناء جيل واعٍ ومثقف”.
وتضيف د. شلهوب: “للقيام بعملية البناء لا بدّ من وضع حجر أساس متين، ألا وهو الأخلاق، ويجب أن يتم توظيف الأفكار الأخلاقية ضمن فقرات أو دروس خاصة، حتى لو كان ذلك في مادة التربية الإسلامية”.
اختلاف الأجور
ما تزال الأجور متفاوتة بين المناطق السورية حتى اليوم؛ ففي إدلب (التي كانت تتبع لحكومة الإنقاذ) تتراوح الأجور بين 125 و175 دولارًا شهريًا، بينما في دمشق لم تتجاوز 500 ألف ليرة سورية قبل الزيادة الأخيرة بنسبة 200%. وبعد الزيادة أصبحت الأجور بحدود مليون إلى مليون ونصف ليرة (ما يعادل 90–130 دولارًا شهريًا).
ومع أن الزيادة الأخيرة كانت كبيرة قياسًا بالزيادات السابقة، فإن الرواتب ما زالت لا تغطي تكاليف المعيشة التي تُقدَّر بنحو 300 دولار وسطياً لأسرة مكوّنة من أربعة أفراد، من دون احتساب أجور السكن التي قد تصل إلى 200 دولار شهريًا. هذا الوضع دفع آلاف المعلمين إلى الهجرة أو التوجّه نحو أعمال خاصة، الأمر الذي تسبب في نقص بالكوادر التعليمية يُقدَّر بنحو 80 ألف معلم.
وترى د. شلهوب أن “المشكلة تكمن في عدم التوازن بين الراتب والأسعار؛ إذ نلاحظ دائمًا وجود علاقة طردية بين زيادة الرواتب وارتفاع الأسعار، فكلما زاد راتب الموظف ارتفعت الأسعار في الأسواق. والحل برأيي هو زيادة كبيرة للرواتب تفوق نسبة ارتفاع الأسعار، مع التركيز على خصوصية مجال التعليم”.
أما د. عالية الرفاعي من كلية التربية – جامعة دمشق، فتشدد على أن ضعف الرواتب يضطر المعلمين إلى العمل في وظائف أخرى، مثل التدريس الخصوصي أو حتى أعمال يدوية، ما يشتت تركيزهم ويستنزف طاقتهم ويؤدي إلى تراجع أدائهم داخل المدارس، وبالتالي انخفاض جودة التعليم. وتضيف: “إن عدم استقرار المعلم المالي وشعوره بالإحباط يؤثران بشكل مباشر على جودة العملية التعليمية، إذ يصبح أقل قدرة على الإبداع وتقديم أفضل ما لديه”.
ويتبنّى د. محمود آغا الرواية الرسمية لوزارة التربية، التي تؤكد أن نهاية العام الحالي ستشهد تساوي الأجور بين جميع مناطق سورية.

طلاب السويداء
شهدت محافظة السويداء في الجنوب السوري توترات أمنية وحربًا حقيقية أودت بحياة الكثيرين، وأدت إلى إغلاق المدارس وتعطيل العملية الامتحانية لطلاب الشهادة الثانوية بفروعها كافة. وفي سبتمبر/ أيلول 2025، خرج المئات من طلاب المحافظة في احتجاجات أمام مديرية التربية مطالبين بامتحانات استثنائية، محذرين من “ضياع عام دراسي كامل”. ورغم أن الوزارة وعدت بتقديم “فرص مناسبة”، لم يصدر حتى اليوم قرار رسمي بعقد دورة امتحانية، ما يترك آلاف الطلاب في الفرعين العلمي والأدبي أمام ضغوط نفسية تُضعف ثقتهم بالمستقبل.
ويؤكد د. ماهر محمود آغا أن “هذا وضع مؤقت، والحلول قريبة التنفيذ بعد دخول الدولة، ولن يتأخر الطلاب عن العام الدراسي كثيرًا”.
بينما تقترح د. شلهوب أن يكون الحل: “بالفصل بين الأوضاع المستجدة في السويداء وبين المستقبل التعليمي لأبنائنا، الذين يعدّون جزءًا لا يتجزأ من أبناء الجمهورية العربية السورية. ومن الممكن الإسراع في وضع برنامج امتحاني خاص بهم والعمل الدؤوب على متابعة تصحيح الأوراق الامتحانية وإصدار النتائج، بحيث يتمكنون من الالتحاق بالجامعات حتى لو تأخروا بعض الوقت عن باقي طلاب المحافظات الأخرى، إذ يمكن تعويض الفاقد التعليمي لهم”.
ضرورة تثبيت العقود
تعتمد العملية التربوية في سورية إلى حد كبير على المعلمين الوكلاء، الذين يدرّسون عادة لمدة فصلين دراسيين، وتكون عقودهم غالبًا لخمسة أعوام. ومع أن معظم هؤلاء المعلمين من خريجي الجامعات، إلا أن النظام السابق اعتاد المماطلة في تثبيتهم، ما أدى إلى امتداد عقود البعض لعشر سنوات أو أكثر دون تثبيت. وقد دفع ذلك كثيرًا من خريجي الجامعات إلى العزوف عن التدريس والبحث عن فرص عمل أكثر استقرارًا.
وبحسب د. شلهوب: “يجب أن يكون هناك تقييم سنوي لأداء المعلم أو المدرس الذي يعمل بموجب عقد سنوي، وحتى للموظفين المثبتين، بحيث يتم الاحتفاظ بصاحب الكفاءة والمهنية في العمل، والاستغناء عن المقصر أو المهمل. وهذا يخلق جوًا من التنافسية بين العاملين، مما يحقق جودة أعلى في الأداء”.
أما د. محمود آغا فيرى أن التثبيت يجب أن يتم حسب الحاجة، ويؤكد أن المعلمين المتعاقدين مستمرون حتى نهاية العام. ويقول أحد مدرسي الرياضيات من درعا، وهو عائد من الاغتراب: “رجعت إلى البلد ولم أتقدم للتدريس أبدًا، فالرواتب متدنية، وبالنهاية لا مصلحة لي بالتدريس وأنا غير مثبت، وينطبق الأمر على أخي الذي يعمل مدرسًا للغة العربية”.

مدارس مدمرة
خلال سنوات حرب الأسد الطويلة على السوريين، تم تدمير نحو 50% من المدارس، حيث بات أكثر من 27 ألف منشأة تعليمية بحاجة إلى ترميم. وما زالت بعض المدارس حتى اليوم مشغولة بالنازحين، الأمر الذي أدى إلى اكتظاظ الصفوف بما يقارب 50 طالبًا في الصف الواحد أو أكثر، يجلس أربعة أو خمسة طلاب على المقعد نفسه. وإلى جانب النقص الكبير في الكوادر التعليمية والمقاعد الدراسية، تعاني المدارس أيضًا من عجز واضح في توفير الكتب المدرسية، إذ اضطرت في الأعوام السابقة إلى توزيع كتب معاد تدويرها وممزقة على الطلاب، وغالبًا بنسخ مختلفة. ومع ذلك، وُعد هذا العام بتوفير العدد الكافي من الكتب، وإن بكلف أعلى.
ويؤكد المعنيون أن إنجازات مهمة قد تحققت في القطاع التربوي، أبرزها زيادة الرواتب، مع وجود نية لإقرار زيادة جديدة قريبًا. كما وضع المجلس الأعلى للتربية خطة طموحة لعام 2025 تهدف إلى توحيد المناهج بطريقة علمية وشاملة. وإذا ما تحقق ذلك، فقد تشهد سورية نظامًا تعليميًا أكثر عدالة، لكن تحقيق هذه الأهداف يتطلب استقرارًا سياسيًا ودعمًا دوليًا وموارد اقتصادية كبيرة للنهوض بواحد من أهم القطاعات الحيوية في الدولة.