رغم الخطاب السياسي الجزائري المعلن والداعم بلا لبس للقضية الفلسطينية، كشفت تقارير دولية حديثة عن مفارقة صادمة تتعلق بملف التجارة الخارجية للجزائر. فبينما يواصل المسؤولون الجزائريون التنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة والتأكيد على مركزية فلسطين في السياسة الخارجية، أظهرت بيانات أممية وإحصاءات اقتصادية أنّ الجزائر باتت منذ عام 2017 تورّد لـ”إسرائيل” موادًا طاقية وبترولية وكيماوية، في معاملات تجارية تتخذ طابعًا غير مباشر، وغالبًا ما تُخفى خلف وسطاء أو شركات وسيطة.
التقرير الأحدث الصادر عن مركز التعقيد الاقتصادي العالمي أشار بوضوح إلى انتعاش صادرات الجزائر إلى “إسرائيل” في السنوات الأخيرة، في وقت أكدت فيه صحيفة “الجزائر تايمز” الإلكترونية، في تقرير بتاريخ 16 فبراير/شباط 2025، أن الجزائر صعدت إلى المرتبة الرابعة عربيًا في قائمة الشركاء التجاريين لـ”إسرائيل”. وهو ما يفتح باب التساؤلات حول طبيعة هذه المبادلات، حجمها الحقيقي، والآليات التي يتم عبرها تجاوز الخطاب الرسمي والقيود القانونية التي تمنع أي تعامل علني بين البلدين.
تبادل معلن
تكشف بيانات أممية حديثة عن معطيات غير مألوفة في المشهد الاقتصادي الجزائري. فبحسب تحديث قاعدة بيانات التجارة الدولية “COMTRADE” الصادرة عن الأمم المتحدة في 10 سبتمبر/أيلول 2025، بلغت قيمة الواردات الإسرائيلية من الجزائر خلال عام 2024 نحو 32.29 مليون دولار، وهو رقم يعكس مسارًا متصاعدًا بدأ منذ عام 2020 بقيمة 9.77 ملايين دولار، ثم ارتفع إلى 14.9 مليون دولار عام 2021، ليصل إلى ذروته بعد أربع سنوات.
وتوضح تفاصيل هذه المبادلات أنّ الصادرات الجزائرية إلى “إسرائيل” شملت مواد كيميائية غير عضوية، ومركبات المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة والبلاتين، فضلًا عن النظائر المشعة المستخدمة في التطبيقات الطبية والعلمية والتقنية، وهي مواد ذات حساسية خاصة في السياقات الاستراتيجية.
ورغم أن هذه المبادلات لا تحظى باعتراف سياسي رسمي، إلا أن تسجيلها في قاعدة بيانات أممية يعتمد على تقارير جمركية موثوقة، ما يعني أن التبادل قد تم فعليًا وبصورة موثقة.
المفارقة الأبرز تكشفها تقارير صحفية جزائرية مستقلة. فقد نشرت مجلة ألجيري بارت بلوس في فبراير/شباط 2022 تحقيقًا يؤكد أن شركة سوناطراك، العملاق النفطي الجزائري، صدّرت ما لا يقل عن 50 ألف طن من غاز البترول المسال (GPL) إلى “إسرائيل” عبر شركة الوساطة العالمية “فيتول”.
ووفق التقرير، جرى تحميل الشحنات من ميناء وهران، قبل أن تتوقف في عرض البحر الأبيض المتوسط قرب السواحل اليونانية لتغيير مسارها لاحقًا إلى ميناء عسقلان الإسرائيلي.
فيما أثارت هذه العمليات استياءً داخل دوائر سوناطراك نفسها، حيث طالب مسؤولون في الشركة بمراجعة العقد مع “فيتول”، مذكرين بأن الجزائر ألغت في السابق عقودًا مماثلة مع وسطاء أعادوا بيع النفط والغاز الجزائري إلى تايوان حفاظًا على علاقاتها مع الصين.
تبادل خفي
تمتد المؤشرات على وجود حركة تجارية ضخمة بين الجزائر و”إسرائيل” إلى وقائع ميدانية مثيرة للشبهات. ففي أبريل/نيسان 2025، كشفت مواقع متخصصة بتتبع حركة الملاحة البحرية أن سفينة الشحن “CAPTAIN CHRISTOS”، التي كانت آخر محطاتها ميناء بجاية الجزائري يوم 11 أبريل، ظهرت بعد أسبوع واحد فقط وهي ترسو في ميناء أشدود ال”إسرائيل”ي بتاريخ 18 من الشهر ذاته.
السفينة، التي ترفع العلم الليبيري بطول يقارب 180 مترًا وعرض نحو 30 مترًا، وُضعت في دائرة الشكوك باعتبارها حلقة جديدة في مسار تبادل تجاري غير معلن.
وفي السياق ذاته، نشرت صحيفة الجزائر تايمز الإلكترونية في فبراير/شباط 2025 تقريرًا أكدت فيه أن الجزائر أصبحت في المرتبة الرابعة عربيًا ضمن قائمة الشركاء التجاريين للاحتلال، بعد الإمارات والأردن ومصر. وبلغت قيمة صادراتها حينها ما يزيد على 30 مليون دولار، تركزت في مواد طاقية وبترولية، إضافة إلى مواد كيميائية غير عضوية ومركبات المعادن الثمينة كالذهب والفضة والبلاتين.
غير أن هذا الموقع المتقدم تغيّر لاحقًا مع توقيع اتفاقيات أبراهام التي رعتها واشنطن، والتي أطلقت موجة تطبيع رسمي بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية، أبرزها الإمارات والبحرين والمغرب. إذ باتت هذه الدول على رأس قائمة المبادلات التجارية مع “إسرائيل”، مستفيدة من الشرعية السياسية للعلاقات المعلنة، بخلاف الجزائر التي ظلّت تجارتها تُدار في الخفاء بعيدًا عن الخطاب الرسمي المتمسك بموقف داعم لفلسطين.
وفي تعليق مثير، قال الإعلامي والمعارض السياسي الجزائري وليد كبير لصحيفة الاستقلال إن ما كشفته تقارير الأمم المتحدة يؤكد ما صرّح به قبل أكثر من سنتين، وتحديدًا في مارس/آذار 2023، حين أكد أن حجم التبادل التجاري بين الجزائر و”إسرائيل” بلغ آنذاك نحو 21 مليون دولار، معظمها مواد طاقية ومعادن نفيسة.
وأضاف كبير أن هذه المبادلات كانت أعلى من حجم التجارة بين المغرب و”إسرائيل” قبل توقيع الاتفاق الثلاثي مع واشنطن وتل أبيب والرباط نهاية 2021.
خلفية سياسية
تثير الأرقام الواردة في تقارير التجارة الدولية تساؤلات حادة حول الدلالات السياسية للمبادلات بين الجزائر و”إسرائيل”، خاصة وأن الخطاب الرسمي الجزائري يضع فلسطين في قلب أولوياته ويقدّم نفسه كأشدّ المعارضين للتطبيع. هذا التناقض بين الموقف المعلن والواقع الاقتصادي يكشف مفارقة صعبة التجاهل فإما أن تكون هذه العمليات نتاجًا لتحركات شركات وساطة كبرى تلتف على القيود الوطنية، أو أنها تتم بعلم بعض الدوائر الرسمية التي تفضّل الصمت تفاديًا لردود الفعل الشعبية الغاضبة.
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في مقابلة مع صحيفة لوبينيون الفرنسية بتاريخ 2 فبراير/شباط 2025، أقرّ بأن الجزائر يمكن أن تطبّع علاقاتها مع “إسرائيل” “في اليوم الذي تُعلن فيه دولة فلسطينية كاملة السيادة”، مذكّرًا بأن رؤساء سابقين مثل عبد العزيز بوتفليقة والشاذلي بن جديد لم يبدوا حساسية تجاه العلاقة مع “إسرائيل”.
كما يُشار إلى أن التصويت الأخير في الأمم المتحدة على ما عُرف بـ”إعلان نيويورك”، الذي تضمّن إدانة حركة حماس والدعوة إلى نزع سلاحها ومنعها من حكم غزة، إضافة إلى تشجيع الدول العربية على المضي في مسار التطبيع مع “إسرائيل”، قد شهد موقفًا لافتًا من الجزائر التي صوّتت لصالح القرار، في حين امتنعت دول مثل تونس والعراق وإيران عن التصويت رغم تشابه خطابها السياسي المعلن مع الموقف الجزائري.
يضع هذا المشهد الجزائر في موقف ملتبس. فمن جهة، تسعى لتكريس نفسها كصوت صلب في الدفاع عن فلسطين، ومن جهة أخرى تكشف الأرقام الأممية عن وجود تبادل تجاري متنامٍ مع “إسرائيل”، حتى وإن جرى بعيدًا عن الأضواء. وهو ما قد ينعكس سلبًا على مصداقية خطابها الدبلوماسي، ويضعف قدرتها على تقديم نفسها كفاعل مبدئي في الساحة العربية والدولية.