يشكّل الصراع الدائر بين “الدولة العميقة” في “إسرائيل” واليمين الصهيوني بنسخته المعاصرة، المتمثلة أساسًا بشخص بنيامين نتنياهو والتحالف الذي يقوده من قوى اليمين التقليدي والصهيونية الدينية، أكثرَ من مجرد تنافس على النفوذ أو تضارب في الأدوار بين البيروقراطيات ومؤسسات الحكم؛ إنه في جوهره تعبير عن صراع أضداد يسعى كل طرف فيه إلى حسم هوية الدولة ومستقبلها.
ولا ينفصل هذا الاشتباك الداخلي عن التحولات العالمية الجارية، إذ تتصاعد الشعبوية اليمينية في مواجهة البُنى المؤسسية الليبرالية في العديد من الأنظمة، خاصة في الدول الغربية. فالدولة العميقة في “إسرائيل”، على غرار نظيراتها في تلك الدول، تقدّم نفسها بوصفها الحارس الأمين للقيم المؤسسية، وسدًّا أمام محاولات السلطة التنفيذية الانفراد بتغيير قواعد اللعبة أو تفكيك مبدأ الفصل بين السلطات: القضائية والتشريعية والتنفيذية.
وقد جاءت حرب الإبادة المستمرة على الشعب الفلسطيني —أو ما أسماه نتنياهو بـ”حرب الاستقلال الثانية”— لتدشّن فصلًا حاسمًا في هذا الصراع، فهي بمثابة الهجمة المرتدة الفاصلة التي يسعى اليمين من خلالها إلى إنهاء المواجهة مع الدولة العميقة، وإعادة صياغة مؤسسات الحكم بما يخدم رؤيته، في مشروع يطمح لإحلال “إسرائيل الجديدة” مكان “إسرائيل الأولى” التي حكمت لعقود عدّة.
مفهوم الدولة العميقة وتطورها في “إسرائيل”
يُقصد بمصطلح “الدولة العميقة” تلك الشبكة غير الرسمية من المؤسسات والنخب التي تتجاوز حدود الحكومات المنتخبة، وتشمل عادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وأحيانًا البيروقراطيات القضائية والإدارية. وتعمل هذه الشبكة بشكل موازٍ أو حتى مهيمن على الدولة الرسمية، بما يتيح لها ممارسة تأثير فعلي على عملية اتخاذ القرار، بعيدًا عن الرقابة الديمقراطية وآليات التداول السياسي السلمي.
ظهر المصطلح أوّلًا في السياق التركي، قبل أن يشق طريقه إلى الأدبيات السياسية والإعلامية، للإشارة إلى حالات تُهيمن فيها قوى غير منتخبة على توجيه الدولة وتفرض أولوياتها على الحكومات المتعاقبة.
وفي الولايات المتحدة، ارتبط المفهوم بتأسيس وكالة الاستخبارات المركزية “CIA”، كما بدا متجسّدًا في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في “وول ستريت”. وقد جرى ربطه كذلك بـ”المجمَّع الصناعي–العسكري”، الذي حذّر الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور في خطاب وداعه عام 1961 من نفوذه “غير المبرّر” داخل دوائر الحكم.
في الحالة الصهيونية، تعود جذور الدولة العميقة إلى “الوكالة اليهودية” التي تأسست عقب مؤتمر بازل 1897، وذراعها المالي المتمثل بـ”الصندوق القومي اليهودي” (كيرن كيميت)، الذي قاد عمليات شراء الأراضي في فلسطين مطلع القرن العشرين.
لاحقًا، شكّلت “الكيبوتسات” التي أُنشئت رسميًّا عام 1926 نواة لبناء “الإنسان الصهيوني الجديد”، فقد كانت تستقبل المهاجرين وتؤهلهم عبر تعليم اللغة العبرية، وتلقين القيم الصهيونية، وتدريبهم على الزراعة والمهارات العسكرية.
ومن رحم هذه “الكيبوتسات”، خرجت العصابات الصهيونية مثل “الهاغاناه” و”شتيرن” و”البلماخ”، التي شكّلت لاحقًا العمود الفقري للجيش الإسرائيلي بعد العام 1948. ومع الزمن، ارتقى قادتها إلى مواقع سياسية وأمنية واقتصادية عليا، ما أسّس لشبكة النخبة التي مثّلت الدولة العميقة وحدّدت عقيدتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
بعد حرب 1948، نشأ “اتفاق الوضع القائم” بين المتدينين والعلمانيين، إذ أُعفي المتدينون من الخدمة العسكرية والواجبات المدنية مقابل عدم معارضتهم نشوء الدولة. لكن هذا التوازن بدأ يتغيّر بعد حرب 1967، مع تمركز اليهود المتدينين في القدس والمستوطنات بالضفة الغربية، ما أرسى أساسًا لتغيير اجتماعي وسياسي أعمق لاحقًا.
في العقود الأولى من تاريخ دولة الاحتلال، هيمن “حزب العمل” على الحياة السياسية بوصفه حزبًا واحدًا حاكمًا بحكم الأمر الواقع. فبين العامين 1948 و1977، سيطر الحزب على مؤسسات الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأخضع الإعلام والاتحاد العام لنقابات العمال “الهستدروت” لهيمنته، ما مكّنه من تشكيل الثقافة العامة وصياغة هوية الدولة. وخلال الفترة بين العامين 1949 و1973، حافظ حزب العمل على أغلبية واضحة في الكنيست، تراوحت الفجوة فيها مع الأحزاب الأخرى بين 12 و30 مقعدًا.
من هنا يمكن تحديد أركان “إسرائيل الأولى” أو الدولة العميقة التقليدية: الجيش، والأجهزة الأمنية، والمحكمة العليا، وبعض البيروقراطيات مثل النيابة العامة. في المقابل، أخذت ملامح “إسرائيل الثانية” في التبلور، متمثلة بقوى اليمين السياسي والديني بقيادة نتنياهو، بوصفها بديلًا جديدًا يسعى إلى تفكيك نفوذ الدولة العميقة.
لقد ساهمت التحولات داخل التيار الديني منذ السبعينيات، بدءًا من أفكار الحاخام مائير كهانا، مرورًا ببلورة هذا المسار في التسعينيات على يد الحاخام شتورك، في تأسيس “الصهيونية الدينية”. وعلى الرغم من تناقضها الجذري مع الصهيونية العلمانية، فقد تحولت إلى أحد أعمدتها الرئيسة اليوم، ممثلةً برموز مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.

تصوير: بنعامي نيومان/غاما-رافو/غيتي إيمجز
ومع صعود التيار الإنجيلي اليميني في الولايات المتحدة، تعزّز هذا الاتجاه داخل “إسرائيل”، وتمكّن من التغلغل في مؤسسات صنع القرار، وصولًا إلى مراكز حساسة. ومع تمكّن اليمين من حسم الانتخابات وتشكيل ائتلاف قوي، تعاظمت المواجهة مع الدولة العميقة التقليدية، ما فتح الطريق أمام مشروع تغيير شكل الدولة وصياغة “إسرائيل الجديدة”.
هوية “الدولة” والتناغم مع الغرب
منذ تأسيسها على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني وتهجير أهله، سُوِّقت “إسرائيل” على أنها “واحة الديمقراطية الغربية” في قلب الشرق الأوسط، وقدمتها الحكومات والأحزاب الغربية الداعمة للصهيونية بوصفها الحليف القيمي الذي يستحق الحماية والدعم.
لم تُخفِ الصهيونية يومًا ارتباطها العضوي بالاستعمار الغربي، بل وضعت نفسها منذ البداية في موقع الشريك الاستراتيجي والحضاري له، وأظهرت تفوّقها العنصري خصوصًا تجاه الشرق، واعتزّت بأنها جزء من القيم الغربية “المتحضّرة”، حتى وإن ادّعت أنها جاءت لحماية اليهود من “اللاسامية”.
أعمق ما يجمع الصهيونية بالإمبريالية الغربية هو الأساس العنصري المشترك، المستند إلى فكرة التفوّق العِرقي والديني، والتموضع الحضاري في مواجهة الشرق “المتخلّف”. ولم يكن ذلك ضمنيًّا، بل جاء صريحًا في مواقف وتصريحات عديدة. فقد قال ونستون تشرشل إنه لا يرى ظلمًا فيما تعرّض له الهنود الحمر، لأن “البيض أرقى وأوسع حكمة”، وهو الموقف نفسه الذي انعكس في رؤيته للمسألة الفلسطينية حين عدَّ اليهود عرقًا أرقى يستحق السيطرة على فلسطين.
وأما على الجانب الصهيوني، فقد صاغ ثيودور هرتزل الفكرة بقوله: “سنمثّل بالنسبة إلى أوروبا جزءًا من السدّ أمام آسيا، وسنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية”. فيما ذهب جابوتنسكي أبعد من ذلك، إذ قال: “نحن اليهود ننتمي إلى أوروبا، ونحن ذاهبون إلى أرض إسرائيل من أجل وطننا القومي، ومن أجل توسيع حدود أوروبا حتى نهر الفرات”.
لاحقًا، وظّف بنيامين نتنياهو أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول لتأكيد البعد الحضاري للمشروع الصهيوني، معتبرًا أن “الحرب ضد الإرهاب الدولي ضرورية من أجل استمرار الحضارة الغربية”.
هذه القيم والثقافة المشتركة بين الإمبريالية الغربية والصهيونية —كما يصفها إدوارد سعيد— هي الأساس الذي يُستخدم لتبرير الاستعمار والاحتلال، وإضفاء الشرعية على استغلال الشعوب ونهب ثرواتها.
ولعل إصرار الطرفين على إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 لعام 1975، الذي عدَّ الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، يمثّل انعكاسًا مباشرًا لهذه الرؤية المشتركة.
وعلى المستوى السياسي، جسّدت الولايات المتحدة هذا الانحياز عمليًّا، إذ تحولت إلى الحائط الحامي للاحتلال الإسرائيلي في المؤسسات الدولية. فوفق تقارير الأمم المتحدة، استخدمت واشنطن حق النقض “الفيتو” أكثر من خمسين مرة بين العامين 1972 و2023، لمنع صدور قرارات تدين التوسع الاستيطاني أو العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

من منظور الدولة العميقة الإسرائيلية، يمثّل الحفاظ على صورة “منظومة القيم المشتركة” ركيزة أساسية في الدعاية الصهيونية، لا لضمان التأييد النخبوي والسياسي فحسب، بل أيضًا لحشد التعاطف الشعبي الغربي الذي يشكّل شبكة أمان حقيقية أمام تقلبات المواقف الحزبية أو الحكومية.
ومن هنا ينبع قلق أقطاب “إسرائيل الأولى” —أو ما يُعرف بـ”حُرّاس البوابة”— من السياسات التي ينتهجها الائتلاف اليميني الحاكم، إذ يعدّونها تهديدًا مباشرًا لهوية الدولة وصورتها الليبرالية أمام الحلفاء الغربيين، الأمر الذي قد يؤدي إلى خسارة أحد أهم عناصر قوّتها الناعمة: القدرة على تسويق نفسها كديمقراطية تشبه الغرب وتستحق دعمه غير المشروط.
“حُرَّاس البوابة” في مواجهة الإصلاحات القضائية
انطلاقًا من قاعدة الحفاظ على ليبرالية الدولة وصورتها الديمقراطية ومنظومة “القيم المشتركة” مع الغرب، حشدت الدولة العميقة في “إسرائيل” كل أدواتها لمواجهة برنامج الإصلاحات القضائية الذي أطلقه حزب “الليكود” في 4 يناير/ كانون الثاني 2023، بعد ستة أيام فقط من تنصيب الحكومة السابعة والثلاثين، وهي حكومة يمينية صلبة جاءت بعد خمس جولات انتخابية عجزت “إسرائيل” خلالها عن تشكيل حكومة مستقرة.
وتفضي الخطة إلى تقويض المحكمة العليا، والالتفاف على قراراتها، والحدّ من صلاحيات السلطة القضائية، مقابل تعزيز مكانة وصلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية (الحكومة والكنيست)، ومن ثم منح السلطة التنفيذية دورًا أكبر في تعيين القضاة.
كشفت الاحتجاجات الواسعة ضد الإصلاحات عن مكوّنات الدولة العميقة بشكل جلي، إذ أوضحت وسائل إعلام عبرية محسوبة على اليمين أن قادة الحراك شخصيات يسارية بارزة، وأثرياء، ورؤساء وكالات إعلامية، ونشطاء من “مؤسسة إسرائيل الجديدة”. وقد انضم إليهم جنرالات متقاعدون وشخصيات سياسية ذات نفوذ واسع. ومن منظور اليمين، بدا المشهد بمثابة تحالف بين النخبة اليسارية والبيروقراطية لإجهاض إرادة الناخبين.
يذهب الكاتب اليميني أمير ليفي إلى أن اليسار في “إسرائيل” يرفع راية الديمقراطية حينما يكون في المعارضة، لكنه يعمل ضد رغبات الشعب ويتعاون مع الدولة العميقة كلما جاءت النتائج الانتخابية بخلاف مصالحه. فعندما يكون في الحكم، يبني شبكات نفوذ داخل الجهاز البيروقراطي وسلطات إنفاذ القانون، وعندما يخسر الانتخابات يحشد هذه “الحكومة الموازية” لتعطيل قرارات السلطة المنتخبة تحت ذرائع “الضوابط والتوازنات”.
وقد أطلق اليمين الإسرائيلي على هذه المنظومة لقب “حُرَّاس البوابة”، في إشارة إلى رموزها: رئيس المحكمة العليا، والمدّعي العام، ورئيس “الشاباك”، ورئيس أركان الجيش.

في سرديّتها ضد الدولة العميقة، ترى أدبيات اليمين أن “إسرائيل” نشأت على نظام مركزي هيمن عليه “حزب العمل” وزعيمه ديفيد بن غوريون، لكنه مع مرور الوقت تحوّل إلى بيروقراطية مترهلة عزّزت سلطتها الذاتية على حساب الدولة، ولا سيما عبر المحكمة العليا. وتشير الصحافية ستيلا قورين ليبر إلى أن حكومات اليمين، منذ مناحيم بيغن وحتى بنيامين نتنياهو، فشلت في كسر هذه البنية العميقة، إمّا لافتقارها إلى الخبرة، وإمّا لافتقارها إلى الشجاعة السياسية اللازمة للمواجهة.
ويؤكد الأكاديمي غادي تاوب أن هزيمة اليسار في العام 1977 ثم في العام 1981 دفعته إلى اعتماد “خطة بديلة”، تقوم على تعزيز سلطته داخل البيروقراطية والسلطة القضائية، لضمان بقاء تأثيره حتى في حال خسر الحكم. فالمحكمة العليا، بحسب تاوب، تحوّلت إلى “حكومة عظمى” لها جهازها التنفيذي الخاص، فيما أصبحت النيابة العامة بمثابة “الحرس الإمبراطوري” لها.
رسّخت هذه الرؤية لدى اليمين قناعة بأن النظام القضائي يتمتع بصلاحيات غير متناسبة مقارنة بالديمقراطيات الأخرى، وأن المؤسسة الأمنية والخدمة المدنية تعمل أحيانًا وفق أجندة مستقلة تعرقل السياسات الحكومية.
بناءً على ذلك، عدّ اليمين أن المعركة على النظام القضائي تمثّل جوهر المواجهة مع الدولة العميقة: تقليص صلاحيات القضاء لصالح السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتفكيك نفوذ المؤسسة الأمنية، واستبدال رموزها بشخصيات أكثر قربًا من المعسكر اليميني.
غير أن الحراك المعارض نجح في شلّ البلاد وعرقلة البرنامج، بدءًا من إضراب “الهستدروت“، ورفض آلاف الجنود الخدمة العسكرية، وصولًا إلى انقلاب وزير الحرب آنذاك يؤاف غالانت على الائتلاف الحكومي ودعوته العلنية إلى وقف الإصلاحات.
وعلى الصعيد الخارجي، أضافت الضغوط الأمريكية بُعدًا جديدًا للصراع، فقد عدّ الحزب الديمقراطي وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن الإصلاحات تقوّض صورة “إسرائيل” كحليف ديمقراطي في الغرب، ما يضعف الدعاية الأمريكية التقليدية في الدفاع عنها. وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن واشنطن قدّمت دعمًا غير مباشر للحراك المعارض، وساهمت في دفع الحكومة إلى تجميد مؤقت للبرنامج.
الهجمة المرتدة واستثمار الفشل
شكّلت أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وهجوم “طوفان الأقصى” الذي نفذته المقاومة الفلسطينية ضد فرقة غزة ومستوطنات “غلاف غزة”، زلزالًا في الوعي الصهيوني الجمعي، وصدمة سياسية وأمنية وعسكرية هزّت بنية النظام الإسرائيلي.
فقد فجّر الفشل المدوي للجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية والسياسية موجة من تبادل الاتهامات، وسعيًا محمومًا من بنيامين نتنياهو إلى التنصّل من المسؤولية ورمي كرة الإخفاق على المؤسسة العسكرية والأمنية، خاصة جهاز “الشاباك”.
من هذا المنطلق، يمكن قراءة الحملة الإعلامية والسياسية التي انطلقت من محيط نتنياهو، ومنه شخصيًّا بشكل غير مباشر، ومن قادة اليمين الديني بشكل فجّ، ضد الجيش والأمن، بوصفها امتدادًا لمعركة تصفية الحساب مع “الدولة العميقة” في أوج الحرب.
وقد تهشّمت صورة الجيش الإسرائيلي داخليًّا بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لا بسبب الاختراق الأولي فحسب، بل أيضًا نتيجة أدائه المخيّب للآمال في الحرب على غزة وعجزه عن تحقيق انتصار حاسم.
هنا وجد نتنياهو وائتلافه الفرصة لشنّ هجمة مرتدة تستهدف تقويض أركان الدولة العميقة وإقصاء “حُرّاس البوابة”، واستئناف برامج التغيير الشامل مستثمرًا شعار “حرب الاستقلال الثانية“، لتصبح الحرب على غزة معركة خارجية وداخلية في آن معًا: ضد الفلسطينيين وضد مؤسسات الدولة التقليدية. وقد شملت إجراءات ممنهجة لتفكيك مواقع القوة للنظام المؤسسي القائم:
-
الجيش: تعرّضت هيئة الأركان لهجوم إعلامي وسياسي منظم، استهدف رئيسها هرتسي هاليفي شخصيًّا، ودفعه إلى الاستقالة تحت ضغط المواجهة المستمرة مع بنيامين نتنياهو وحلفائه بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير. وقد فتح ذلك الباب لتعيين إيال زامير رئيسًا جديدًا للأركان، بوصفه خيارًا يمينيًّا بوجه هجومي يوصف بـ”القلب الحديدي”. وسرعان ما عاد الخلاف مع المؤسسة العسكرية إلى الواجهة من جديد.
-
الشاباك: واجه رئيسه رونين بار حملة كاسحة من التشويه والضغط السياسي، خاصة بعد رفضه الانصياع لضغوط الحكومة. وعلى الرغم من تمسّكه بموقعه، انتهت المواجهة بخروجه من المشهد، لتُطرح شخصية يمينية جديدة بترشيح نتنياهو: ديفيد زيني، صاحب الخلفية الدينية والعائلية ذات الحضور في الساحتين العسكرية والروحانية، وهو ترشيح أثار معارضة المستشارة القضائية.
-
المستشارة القضائية: شكّلت غالي بهاراف ميارا عنوان صدام دائم مع بنيامين نتنياهو وائتلافه، سواء بسبب ملفات الفساد ضده أو معارضتها محاولاته إقالة مسؤولين أمنيين كبار. وتعرّضت لهجمات سياسية وتشريعية بلغت ذروتها في أغسطس/ آب، حين صوّت الوزراء بالإجماع على اقتراح وزير العدل ياريف ليفين بإنهاء ولايتها فورًا.
سبق هذه الإجراءات إحلال واسع أجراه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في جهاز الشرطة وحرس الحدود ومصلحة السجون، لإعادة تشكيلها بما يتماشى مع توجهاته المتطرفة.
وبهذا، لم تكن الهجمة مجرد رد فعل على الفشل الأمني، بل استثمارًا استراتيجيًّا للفشل لتفكيك مراكز نفوذ الدولة العميقة، وإحلال شخصيات محسوبة على اليمين الديني والائتلاف الحاكم في مفاصل حساسة، ما يجعل الحرب معركة الحسم لليمين الإسرائيلي، على الصعيد الخارجي وفي الإقليم، وعلى الصعيد الداخلي في “إسرائيل”.
امتداد للتقدم الشعبوي في العالم
لا يمكن فصل النزعة اليمينية الساعية لحسم الصراع مع الدولة العميقة في “إسرائيل”، بعد عقود من تنازع الصلاحيات بين الحكومات اليمينية والبنية المؤسسية، عن السياق العالمي لصعود الشعبوية، التي باتت تحكم في عدد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة حيث يشكل الرئيس الحالي دونالد ترامب رمزًا رئيسيًّا للشعبويين.
في أمريكا، تبنَّى أنصار ترامب مصطلح “الدولة العميقة”، واتهموا خصومهم في أجهزة الدولة ووسائل الإعلام بإفشال سياسات الرئيس المنتخب شرعيًّا. وقد استخدمت المنابر الجمهورية واليمينية هذا المصطلح بكثافة، بينما ربطته وسائل الإعلام الليبرالية بنظريات المؤامرة.
على هذا النسق، كتب نتنياهو تغريدة قال فيها: “في أمريكا وإسرائيل، عندما يفوز زعيم يميني قوي في الانتخابات تسخِّر الدولة العميقة اليسارية النظام القضائي لإحباط إرادة الشعب”، في صياغة تكاد تطابق خطاب ترامب وأنصاره الذين يتهمون القضاء بأنه مسيَّس وموجَّه ضدهم.
يكرر نتنياهو بدوره أن الديمقراطية في “إسرائيل” شكلية، وأن السلطة الحقيقية بيد البيروقراطيين والقانونيين. ويؤكد أنصار “الليكود” أن زعيمهم، مثل ترامب، ضحية “اضطهاد” من تحالف يضم مسؤولين كبارًا وصحفيين ونخب قانونية. حتى يائير نتنياهو، في 2019، وصف الدولة العميقة بأنها شبكة مسؤولين يساريين يسعون للإطاحة برئيس وزراء يميني بوسائل غير ديمقراطية، بدعم من الإعلام الليبرالي.
وترى الباحثة الإسرائيلية دانا ألكسندر أن الصراع الحالي في “إسرائيل” يعكس انقسامًا عميقًا: فريق يتمسك بالسيادة الشعبية وشرعية الانتخابات، وآخَر يستند إلى مؤسسات نخبوية غير منتخبة تدافع عن حقوق الإنسان وتمتلك رأس مال ثقافيًّا واقتصاديًّا واسع النفاذ. وتوضح بأن انخراط المحكمة العليا في قضايا خلافية جعلها تُنظر إليها بوصفها لاعبًا سياسيًّا لا محايدًا، حتى لو كانت تدافع عن حقوق الأقليات في مواجهة نزعات الأغلبية.
بهذا، يتشكل مشهد شعبوي متكامل: وسائل الإعلام تُصوَّر على أنها أدوات للنخبة، والقضاء يُتهم بأنه يخدم مصالح الدولة العميقة بدل الشعب، والمؤسسات تُقدَّم بوصفها منفصلة عن القاعدة الجماهيرية. والنتيجة تصاعُد خطابٍ شعبويٍّ يصوِّر الصراعَ كمعركة بين “الشعب” و”النخبة”، ما يفتح المجال أمام السياسيين الشعبويين لتوسيع نفوذهم وتسهيل مهمتهم في إعادة تشكيل الدولة.
ولا تختلف الأدوات بين ترامب ونتنياهو، فكلاهما يوظف الاتهامات ذاتها ضد مؤسسات الدولة، ويقدِّم مشروعًا شخصيًّا يتجاوز الرؤية المؤسساتية والقيم الليبرالية التي شكَّلت ركيزة للخطاب الغربي في مرحلة ما بعد الكولونيالية.
وفي الحالة الإسرائيلية، يبدو بنيامين نتنياهو عازمًا على استثمار اللحظة التي تتداخل فيها الحرب الخارجية التي تجاوزت غزة لتُغيِّر وجه الشرق الأوسط، مع المعركة الداخلية ضد “إسرائيل الأولى”، مدعومًا بغطاء ترامبي غير محدود، ليُكرِّس نفسه كـ”ملك ملوك إسرائيل” الذي يعيد تأسيس “إسرائيل الجديدة”، بمكانة تاريخية لا تقل عن ديفيد بن غوريون مؤسس “الدولة”.