ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد مرور عدة أشهر على اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة، جاءت لحظة راودني يها شعور مؤقت بأن الرئيس الأمريكي جو بايدن وفريقه أدركوا أخيرًا حجم نفوذهم.
جاء ذلك مباشرة بعد أن قتلت إسرائيل مجموعة من العاملين في منظمة “المطبخ المركزي العالمي”، الذين كانوا يحاولون إيصال الطعام للفلسطينيين في القطاع المحاصر. أدان بايدن وفريقه الهجوم بعبارات غير معتادة في حدّتها، وأجروا مكالمة مباشرة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وحذّر وزير الخارجية أنتوني بلينكن قائلًا: “إذا لم تسمح إسرائيل بإدخال المزيد من المساعدات إلى غزة؛ حيث مات بالفعل آلاف الفلسطينيين، فستكون هناك تغييرات في سياستنا“.
وأتى الضغط بثماره؛ إذ ارتفع عدد شاحنات المساعدات التي سمحت إسرائيل بدخولها إلى غزة بشكل مفاجئ، مما فند مزاعمها بأنها كانت تبذل أقصى ما في وسعها على هذا الصعيد. لكن مع مرور الوقت، تراجعت الأعداد مجددًا، وتفاقمت الأزمة الإنسانية.
لقد فكرتُ كثيرًا في حادثة “المطبخ المركزي العالمي” مؤخرًا؛ حيث أعلن عدد متزايد من كبار مساعدي بايدن عن آرائهم حول كيفية تعاملهم مع الحرب؛ فقد قدم العديد منهم آراء في مقالات الرأي والبودكاست وغيرها من المنابر تتراوح بين “بذلنا قصارى جهدنا” و”كان بإمكاننا أن نفعل ما هو أفضل”. هذا ليس تقييمًا كاملاً، فالناس ما زالوا يستوعبون ما حدث ويحاولون تحديد موقفهم، لكنه يمنحنا نظرة مبكرة حول آمال (أو تخوفات) فريق بايدن من أن يحكم التاريخ على أفعاله في غزة.
بعد متابعة التعليقات، توصلت إلى استنتاج رئيسي واحد: لقد تعامل فريق بايدن مع الصراع منذ البداية كما لو أن أمريكا ضعيفة وليست قوية.
لقد قيدت أقوى دولة في العالم نفسها، ويرجع ذلك إلى عوامل متعددة، منها التزام بايدن العميق تجاه إسرائيل؛ والمخاوف بشأن تأثير الحرب على آفاق انتخاب الديمقراطيين؛ والاعتقاد بأن إسرائيل ستفعل ما تريد، حتى لو ذهبت الولايات المتحدة إلى حد قطع إمدادات الأسلحة عنها. وقد أدت هذه المخاوف إلى فرض قيود ذاتية أثرت على كل خطوة اتخذها بايدن وفريقه وعلى التوقعات التي وضعوها، وربما ساهم ذلك في إطالة أمد الحرب.
قال لي أندرو ميلر، وهو مسؤول سابق في وزارة الخارجية تعامل مع ملف المنطقة خلال فترة بايدن: “لم نتصرف كقوة عظمى، فبدلاً من الانطلاق من فرضية أن هذه مشاكل يمكننا حلها، أقنعنا أنفسنا أنه لا يوجد الكثير مما يمكننا فعله لدفع حليفنا الإقليمي إسرائيل نحو التغيير”.
ويقول العديد من مساعدي بايدن إنهم يتحدثون الآن لأن الوضع في غزة أصبح أكثر كارثية في عهد الرئيس دونالد ترامب مع انتشار المجاعة، وعلى عكس بايدن أو الرؤساء المعاصرين الآخرين، يبدو أن ترامب لا يضع أي حدودًا واضحة لمدى استخدامه لسلطته التنفيذية، ولكن ربما تسبب الدعم الواسع الذي لا تزال تحظى به إسرائيل داخل الحزب الجمهوري في اتخاذ ترامب موقفًا شبه متجاهل تجاه الصراع في غزة.
ويأمل مساعدو بايدن في دفع ترامب إلى بذل المزيد من الجهود لإنهاء الحرب، حتى لو تطلّب الأمر تسليط الضوء على أخطائهم السابقة، ويرى بعض المتشككين سببًا آخر وراء صراحة مساعدي بايدن الجديدة: وهو أن هؤلاء أشخاص يريدون حماية فرصهم الوظيفية في الحزب الديمقراطي مع تراجع الدعم الداخلي فيه لإسرائيل.
وتحدثتُ إلى عدد من المسؤولين السابقين في إدارة بايدن لفهم طريقة تفكيرهم بشأن كيفية تعاملهم مع الحرب بين إسرائيل وحماس، وقد رفض معظمهم أن يُذكر اسمهم، حتى بشكل مجهول، مما يدل على مدى حرصهم في صياغة رواياتهم.
ربما عبر جاك لو، سفير بايدن في إسرائيل، وديفيد ساترفيلد، مبعوثه المعني بالقضايا الإنسانية في غزة، عن نهج فريق بايدن الضعيف بشكل غير مقصود في مقال نُشر في أغسطس/ آب في مجلة “فرين أفيرز”؛ حيث اعترف الاثنان بالعديد من أوجه القصور في المقال الموضوعي الذي كتباه، لكنهما يوضحان أيضًا مدى انخفاض سقف التوقعات الذي وضعه الفريق.
فقد كتبا: “لقد حالت الجهود التي قدناها في إدارة بايدن لإبقاء غزة مفتوحة أمام المساعدات الإنسانية دون وقوع مجاعة”، وأضافا: “تبقى الحقيقة أن سكان غزة لم يواجهوا مجاعة جماعية خلال العام ونصف العام الأول من الحرب المستمرة، لأن المساعدات الإنسانية كانت تصلهم”. لكن الناس يعانون في الحروب، وعدم الوصول إلى المجاعة ليس إنجازًا يُحتفى به.
كان جون فاينر وفيليب غوردون من بين مسؤولي بايدن الذين ذهبوا إلى أبعد مدى بالاعتراف بأنهم “كان يمكنهم أن التصرف بشكل أفضل”.
وكتب فاينر، الذي شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي، في مجلة “ذا أتلانتيك” أن فريق بايدن كان محقًا في دعمه لإسرائيل مباشرة بعد هجمات حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لكنه أقر بأن الإدارة “قصّرت كثيرًا، وتأخرت كثيرًا، في الحد من الأضرار الكارثية التي لحقت بالمدنيين نتيجة رد إسرائيل”.
أما غوردون، مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس كامالا هاريس، فقد صرّح في بودكاست لمجلة “فورين أفيرز” بأن ما حدث على صعيد المساعدات الإنسانية كان “فشلًا في السياسة، ولا يمكن استخلاص أي نتيجة أخرى؛ لم يصل إلى الناس كميات كافية من الغذاء والمساعدات الإنسانية”.
وقد شارك الاثنان في كتابة مقال في مجلة “بوليتيكو”، دعوا فيه الولايات المتحدة إلى تقييد مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل بشكل كبير، جزئياً لأن الحكومة الإسرائيلية تبدو غير راغبة في وقف القتال.
وقد شارك فاينر وغوردون في كتابة مقال نُشر صباح اليوم في مجلة “بوليتيكو”، دعوا فيه الولايات المتحدة إلى فرض قيود كبيرة على مبيعات الأسلحة لإسرائيل، جزئيًا لأن الحكومة الإسرائيلية تبدو غير راغبة في وقف القتال.
وألمحا إلى أن هذه القيود كان ينبغي فرضها خلال فترة حكم بايدن. فالرئيس السابق امتنع عن تزويد إسرائيل ببعض القنابل الثقيلة، لكنه جادل بأن حجب المزيد من الأسلحة قد يجعل إسرائيل عرضة لهجمات من إيران ووكلائها. لكن فاينر وغوردون يريان أن هذا التبرير “أصبح أقل إقناعًا بمرور الوقت، حتى ونحن لا نزال في مناصبنا، لا سيما مع تراجع تهديد حماس، مما أضعف مبررات إسرائيل لاستمرار الحرب، في وقت أصبحت فيه الأوضاع الإنسانية في غزة لا تُحتمل”.
ودعا أيضًا مستشار الأمن القومي لبايدن، جاك سوليفان، إلى تقييد توريد الأسلحة إلى إسرائيل في الوقت الحالي، لكنه برر عدم القيام بذلك خلال فترة رئاسة بايدن بعدة أسباب، منها أن إسرائيل كانت لا تزال تواجه تهديدات إقليمية حادة. وقال سوليفان في بودكاست “ذا بولوارك” في أغسطس/ آب: “الحجة الداعية إلى حجب الأسلحة عن إسرائيل اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه قبل عام”.
ويقف ماثيو ميلر، المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية، في مكان ما بين سوليفان والثنائي فاينر وغوردون. فهو يقول الآن إنه يعتقد أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، رغم أنه لم يصرّح بذلك علنًا أثناء توليه منصبه. وقد أوضح أن تصريحاته آنذاك كانت تمثل إدارة بايدن، لا رأيه الشخصي.
وكتب مسؤولون آخرون في عهد بايدن، مثل إيلان غولدنبرغ، الذي شغل عدة مناصب ضمن فريق كامالا هاريس، عما اعتبروه فرصًا ضائعة بطريقة تظهر شعورًا بالإحباط إن لم يكن الندم الصريح. ويتساءل غولدنبرغ عما إذا كان على بايدن أن يضغط على نتنياهو في ديسمبر/ كانون الأول 2023 أو يناير/ كانون الثاني 2024 لإنهاء الحرب، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار حكومة اليمين المتطرف بقيادة الزعيم الإسرائيلي.
ويواصل آخرون دعمهم الكامل للقرارات المتخذة، وعلى رأسهم بريت ماكغورك، أحد كبار مسؤولي مجلس الأمن القومي في إدارة بايدن، والذي كان لاعبًا رئيسيًا في محادثات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس. وقد أشار في منتديات مختلفة إلى أن حماس كانت الطرف الأكثر صعوبة في المحادثات، وشدد على الخطر الذي واجهته إسرائيل في ذلك الوقت من قبل جهات فاعلة إقليمية مثل إيران.
وهناك قدر من الحقيقة في كل ذلك؛ فإسرائيل شريك وثيق للولايات المتحدة، وتصرفاتها في غزة تتأثر جزئياً بالصدمة التي تسببت بها حماس عندما بدأت هذه الحرب، وحماس تختبئ بين المدنيين في غزة وفي الأنفاق تحت الأرض، وانتقادات الولايات المتحدة لإسرائيل دفعت حماس إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة في محادثات الهدنة، وغالباً ما كانت الجماعة غير مهتمة بالاتفاق على الإطلاق. وقد واجهت إسرائيل تهديدات من إيران ودول أخرى منذ البداية.
وقد اتخذ فريق بايدن أيضًا إجراءات مهمة بشأن غزة: التفاوض على وقف إطلاق النار الذي ساعد في تحرير العديد من الرهائن الإسرائيليين؛ وحجب بعض المساعدات العسكرية عن إسرائيل؛ والضغط بنجاح على إسرائيل للتخلي عن بعض تكتيكاتها القتالية الأكثر صرامة؛ وحتى بناء رصيف بحري سيئ الحظ لتوصيل المزيد من المساعدات إلى سكان غزة. أدى هذا النوع من المشاركة إلى وصول مساعدات إنسانية إلى الفلسطينيين أكثر مما كانت إسرائيل ترغب فيه على الأرجح.
مساعدو بايدن هم أيضًا بشر واجهوا وضعًا معقدًا ومتغيرًا، وقد بكى أحد مسؤولي بايدن وهو يصف لي الروتين اليومي. وعندما سألتهم لماذا لم يكتبوا علنًا عن الجوانب العاطفية، قالوا إن ذلك لم يكن لائقًا بالنظر إلى ما يعانيه سكان غزة والإسرائيليون، وخاصة الرهائن.
أنا مندهش من أن مساعدي بايدن لا يلومون الرئيس علنًا وبشكل مباشر على تلك السياسة المشوهة، فهو بغض النظر عن أي شيء الشخص المسؤول عن كل ذلك.
ويلوم بعض المسؤولين بايدن في السر وبلطف، وإذا قرأت ما بين سطور تعليقاتهم العلنية، فستجدهم يلقومن عليه باللوم ضمنيًا.
على سبيل المثال، قال لو لمجلة “نيويوركر” إن سياسة غزة بأكملها كان لا بد أن تأخذ في الاعتبار التزام بايدن بأمن إسرائيل، وقال لو: “كان ذلك شيئًا عميقًا في داخله، فقد كان التزامه بدعم إسرائيل في صراعها المشروع والعادل واضحًا، وكان لا بد أن يتعايش ذلك مع الضغط عليهم بشأن هذه القضايا الإنسانية”.
كان حب بايدن لإسرائيل قويًا لدرجة أنه، وفقًا لنائبته، كان يكافح من أجل إظهار التعاطف مع الفلسطينيين. كتبت هاريس في كتابها الجديد “107 يومًا”: “لقد توسلت إلى جو، عندما تحدث علنًا عن هذه القضية، أن يُظهر نفس التعاطف الذي أبداه تجاه معاناة الأوكرانيين تجاه معاناة المدنيين الأبرياء في غزة أيضًا. لكنه لم يستطع ذلك: فبينما كان بإمكانه أن يقول بحماس: “أنا صهيوني”، كانت تصريحاته بشأن الفلسطينيين الأبرياء باهتة ومُفتعلة”.
عندما سألتُ بعض مسؤولي إدارة بايدن عما إذا كانوا هم أو الرئيس يضعون حياة الإسرائيليين في مرتبة أهم من حياة الفلسطينيين، نفوا ذلك بشدة.
ورد أحد كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته لأن المناقشة تطرقت إلى عدة قضايا حساسة، قائلاً: “هذا تصريح غير عادل على الإطلاق. لقد كان جو بايدن يؤمن إيمانًا راسخًا وعميقًا بأن إسرائيل محقة في شن هذه الحملة. وكان يعتقد أن الجهود الإنسانية يجب أن تضاهي قوة الحملة العسكرية، وهو ما لم يحدث أبدًا”، ورفض متحدث باسم بايدن التعليق على الفور.
وسألتُ مساعدي بايدن لماذا لم يوقفوا جميع الأسلحة إلى إسرائيل بدلًا من بعضها فقط: ألم يمنح تدفق الأسلحة إسرائيل، وخاصة اليمين المتطرف، حافزًا لإطالة أمد الحرب؟
كانت الردود على خطين: أن القيام بذلك كان سيشجع أعداء إسرائيل، بما في ذلك حماس وإيران؛ وأن إسرائيل لديها مخزونات كافية لمواصلة القتال لفترة طويلة حتى بدون مساعدة الولايات المتحدة.
وكذلك فإن تحدّي إسرائيل سيجعل الولايات المتحدة تبدو ضعيفة، وقال مسؤول سابق في وزارة الخارجية الأمريكية: “إذا كان هناك أي دولة قوية الإرادة وقادرة وراغبة في تحدي الولايات المتحدة، فهي إسرائيل”.
ويلتزم العديد من المسؤولين في عهد بايدن بهذه الحجج، ولكن يمكن القول إنهم يقللون من شأن مدى حاجة إسرائيل إلى المساعدة العسكرية الأمريكية ودعمها في ساحة المعركة.
عندما أشرتُ إلى قضية “المطبخ العالمي المركزي” كدليل على أن الولايات المتحدة كان بإمكانها ممارسة ضغط أكبر على إسرائيل بشأن المساعدات، قال المسؤول الأمريكي السابق إن تلك الحادثة كانت فريدة من نوعها. ووفقًا لهذا الشخص، كان لدى نتنياهو رؤية – ربما غير واقعية – بأن “المطبخ العالمي المركزي” يمكن أن يساعد في استبدال عمليات المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة في غزة على المدى الطويل، لذلك كان الزعيم الإسرائيلي حريصًا على تعويض ذلك. (لم يقدم متحدث إسرائيلي تعليقًا فوريًا ردًا على سؤالي حول هذا الموضوع).
يشعر مسؤولو إدارة بايدن بالاستياء من استمرار الحرب بعد مرور عامين تقريبًا، لكنهم يلومون في المقام الأول نهج ترامب المتراخي، وليس على أفعالهم هم، مشيرين إلى أنه تم الاتفاق على وقف إطلاق النار عند مغادرتهم.
ومع ذلك، من الواضح أن هناك قدرًا كبيرًا من المراجعة الذاتية الجارية الآن، وتوصيتي هي أن تستمر هذه المراجعة.
المصدر: بوليتيكو