منذ الأشهر الأولى لحرب الإبادة على غزة، عاد اسم توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، إلى الواجهة بقوة؛ فقد تحرك الرجل في دوائر استشارية واسعة، متنقّلًا بين مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة، وحكومة الاحتلال الإسرائيلي، وصولًا إلى مكتب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
بلير، الذي شغل سابقًا منصب مبعوث اللجنة الرباعية الدولية للشرق الأوسط، لا يحمل رصيدًا إيجابيًا في ذاكرة الفلسطينيين ولا في وجدان شعوب المنطقة، الذين ارتبط لديهم اسمه بحروب أفغانستان والعراق، وبالتماهي شبه المطلق مع السياسات الأمريكية في حربها ضد “الإرهاب”. كما يُسجَّل له دوره في إجهاض انتفاضة الأقصى، ومحاولاته المتكررة لهندسة المشهد الفلسطيني الداخلي بما يتوافق مع رغبات الاحتلال.
اليوم، يُقدَّم بلير باعتباره المرشح الأبرز لتولي إدارة ملف “اليوم التالي” في قطاع غزة، ضمن خطة كان له دور أساسي في صياغتها، والتي توصف بأنها إعادة إنتاج لفكرة “المندوب السامي”، تمنحه صلاحيات إشرافية تتجاوز البعد العمراني لإعادة الإعمار، لتطال البنية الاجتماعية والسياسية للقطاع.
بذلك، يتحول المشروع الأمريكي الحالي إلى محاولة لإنتاج فضاء فلسطيني منزوع الطابع الوطني، ومُعاد دمجه في منظومة تبعية سياسية وإدارية جديدة، تستجيب لمعايير المجتمع الدولي ورؤية “إسرائيل” لمستقبل النظام السياسي الفلسطيني.
النشأة والتعليم
وُلد أنتوني تشارلز لنتون بلير في السادس من مايو/أيار عام 1953 في العاصمة الإسكتلندية إدنبرة، وسط عائلة من الطبقة الوسطى العليا. كان والده، ليو تشارلز بلير، محاميًا بارزًا يطمح إلى العمل السياسي، بل كاد أن يترشح لمقعد في البرلمان عام 1963، قبل أن تداهمه سكتة دماغية شلّت قدرته على الكلام.
وضعت هذه الأزمة المبكرة العائلة أمام اختبار قاسٍ، وأجبرت الأبناء على التكيف مع واقع جديد. وبالنسبة لتوني الصغير، كان وقع الحادثة عميقًا، إذ شكّل دافعًا خفيًا لمواصلة ما اعتبره “المهمة غير المكتملة” لوالده، سواء في المجال المهني أو السياسي.
قضى بلير سنوات طفولته الأولى في إدنبرة، لكنه سرعان ما انتقل مع عائلته إلى مدينة دورهام في إنجلترا، حيث التحق بمدرسة “شوريستر”. وقد أظهرت هذه المرحلة شخصية شاب مندفع، متمرد أحيانًا، وميّال إلى خوض التجارب الجديدة.
وبعيدًا عن الجانب الأكاديمي، كان مولعًا بالموسيقى، وهو ما تجلّى في سنوات دراسته الجامعية حين أصبح المغني الرئيسي لفرقة روك تُدعى “الشائعات القبيحة” (The Ugly Rumors)، التي قدمت عروضًا لأغنيات مشهورة في تلك الحقبة. ولم تكن هذه التجربة الفنية الصغيرة مجرد هواية، بل أظهرت جانبًا اجتماعيًا من شخصيته وقدرته على التواصل مع الجمهور وإثارة الانتباه، وهي صفات رافقته لاحقًا في مسيرته السياسية.

في مطلع السبعينيات، التحق بلير بكلية القديس يوحنا في جامعة أكسفورد لدراسة الحقوق، وتزامنت سنواته الجامعية مع أجواء فكرية وسياسية مضطربة في بريطانيا وأوروبا، وكان لذلك أثره في تشكيل رؤيته المبكرة.
تخرج عام 1975 حاصلًا على شهادة في القانون، وهو العام ذاته الذي فقد فيه والدته هيزل كورنيل بلير بعد إصابتها بسرطان الغدة الدرقية، ما ترك أثرًا نفسيًا مضاعفًا عليه ودفعه نحو المزيد من الجدية في حياته المهنية.
بعد التخرج، انخرط بلير في فترة تدريب مهني تحت إشراف المستشار الملكي ألكسندر إيرفين، الذي أصبح لاحقًا أحد أقطاب حزب العمال ورفيق دربه السياسي. وسرعان ما أظهر الشاب المتدرب سرعة في التعلم وقدرة على اكتساب العلاقات داخل الوسط القانوني والسياسي، إذ كانت هذه المرحلة بمثابة الجسر الذي أوصله إلى عالم السياسة العملية.
على الصعيد الشخصي، شكّلت سنوات التدريب محطة مهمة أيضًا، إذ التقى خلالها شيري بوث، زميلته في مهنة المحاماة وخريجة كلية لندن للاقتصاد، ولم يلبثا طويلًا حتى ارتبطا بالزواج في مارس/آذار 1980، وأنجبا أربعة أبناء هم: إيوان، نيكولاس، كاثرين، وليو.
إلى جانب كونها شريكة حياة، لعبت شيري دورًا مؤثرًا في حياته المهنية، إذ عُرفت لاحقًا كمحامية بارزة وقاضية، وساعدت بلير في فهم طبيعة الرأي العام البريطاني وقضايا العدالة الاجتماعية.
مُجدّد حزب العمال ورمز السياسات اليمينية
دخل توني بلير معترك السياسة من بوابة حزب العمال البريطاني عام 1978، في وقت كان الحزب يعيش أزمات داخلية خانقة وانقسامات عميقة جعلته عاجزًا عن استعادة الحكم منذ أواخر السبعينيات.
المفارقة أن والده كان قد انتمى في شبابه إلى الحزب الشيوعي، قبل أن ينتهي به المطاف عضوًا في حزب المحافظين. لكن بلير اختار الاتجاه المعاكس، ليكرّس نفسه سريعًا كوجه صاعد داخل العمال.
محاولته الأولى لدخول البرلمان عام 1982 عن دائرة بيكونسفيلد باءت بالفشل، لكنها فتحت له باب الظهور على الساحة السياسية. وبعد عام واحد فقط، نجح في حصد مقعد دائرة سدجفيلد القريبة من دورهام، مسقط طفولته، ليبدأ مسيرته النيابية الطويلة.
في تلك المرحلة، كان المحافظون بزعامة مارغريت تاتشر يهيمنون على الحكم، فيما حاول العمال إعادة بناء صفوفهم بقيادة نيل كينوك، الذي قدّم دعمًا مبكرًا لبلير وفسح له المجال في مواقع متقدمة داخل الحزب.
بين منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات، تدرج بلير في مواقع المسؤولية داخل المعارضة، فشغل منصب المتحدث باسم الاقتصاد والخزينة، ثم التجارة والصناعة، ولاحقًا نائب وزير الداخلية في حكومة الظل. وقد رسّخت هذه المواقع صورته كسياسي مجتهد قادر على صياغة خطاب مختلف، يمزج بين لغة يسارية تقليدية وشعارات إصلاحية جذبت فئات جديدة من الناخبين.
عام 1992، وبعد استقالة نيل كينوك عقب هزيمة جديدة في الانتخابات، تولى جون سميث قيادة الحزب. لكن وفاته المفاجئة بأزمة قلبية عام 1994 فتحت الباب أمام جيل جديد من القيادات. حينها صعد اسم بلير بسرعة صاروخية، وانتُخب قائدًا لحزب العمال ليصبح أصغر من تولى هذا المنصب في تاريخه.
منذ اللحظة الأولى لقيادته، أطلق بلير مشروعه الشهير المعروف بـ”العمال الجديد”، وهو تيار إصلاحي أحدث قطيعة مع هيمنة اليسار التقليدي داخل الحزب. وقام بتعديل الدستور الحزبي وألغى المادة الرابعة التي كانت تنص على تأميم وسائل الإنتاج، وهو تغيير جذري اعتبره كثيرون “تخليًا عن الروح الاشتراكية” للحزب، لكنه فتح الطريق أمام عودة العمال إلى الحكم بعد غياب دام 18 عامًا.
سياساته اتسمت بالوسطية والاقتراب من المحافظين أكثر مما أحب يساريو الحزب، فقد تبنى خطابًا رئاسيًا أقرب إلى زعماء الدول الرئاسية منه إلى رئيس وزراء مقيّد ببرنامج حزبه. كما راهن على الاقتصاد الحر، وتشديد قوانين الأمن، ومحاربة الجريمة، وتعزيز سلطة الإدارات المحلية. بينما في السياسة الخارجية اختار التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، والتقارب مع الاتحاد الأوروبي.
عام 1997 قاد بلير حزب العمال إلى فوز كاسح في الانتخابات العامة، ليبدأ عقدًا كاملًا في الحكم استمر حتى عام 2007. خلال هذه الفترة حصد إعجاب المحافظين الذين رأوا فيه زعيمًا “يميني النزعة” أكثر من كونه يساريًا، حتى إن ديفيد كاميرون، زعيم المحافظين لاحقًا، لم يُخفِ استشارته له باستمرار. لكن في المقابل، أثار نهجه غضب الجناح اليساري في حزبه، الذي اتهمه بالتفريط في المبادئ الاشتراكية لصالح المصالح السياسية والاقتصادية.

© فيونا هانسون/وكالة الأنباء البريطانية (PA)
المفارقة الكبرى تمثلت في موقفه من غزو العراق عام 2003؛ فبينما اعتبر البعض أن أي رئيس وزراء بريطاني – خصوصًا لو كان من المحافظين – كان سيتخذ القرار ذاته بالانضمام إلى الولايات المتحدة، إلا أن انتماء بلير لحزب العمال جعل الاصطفاف خلف واشنطن أكثر إثارةً للجدل، وأدى إلى انقسام عميق داخل الحزب وخارجه.
في المحصلة، رسّخ بلير صورته كـ”مُجدّد” لحزب العمال، لكنه في الوقت نفسه جسّد ميل الحزب نحو الوسط واليمين، ليبقى حتى اليوم رمزًا للسياسات البراغماتية التي تجاوزت خط الحزب التاريخي، وربطت بريطانيا أكثر من أي وقت مضى بحليفها الأمريكي.
عرّاب حروب الولايات المتحدة “ضد الإرهاب”
منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وضع توني بلير نفسه في قلب الاستراتيجية الأمريكية لما عُرف بـ”الحرب على الإرهاب”، حتى بات يُوصف بأنه عرّابها الأوروبي المخلص. فقد تبنّى خطابًا حادًا يرى في تلك الهجمات “إعلان حرب على الغرب”، ما جعله يندفع بلا تحفظ خلف إدارة جورج بوش الابن في حرب أفغانستان ثم غزو العراق عام 2003.
في العراق، لعب بلير دورًا محوريًا في إضفاء شرعية دولية على قرار الحرب، وكان هو من أقنع البيت الأبيض بضرورة انتزاع قرار من مجلس الأمن، وهو القرار 1441 الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، الذي استُخدم لاحقًا ذريعةً لبدء الغزو بعد عجز بغداد عن إثبات خلوها من أسلحة الدمار الشامل. ورغم معارضة 139 نائبًا من حزبه العمالي، فإن بلير مضى في قراره مستندًا إلى دعم المحافظين البريطانيين، ليجد نفسه في مواجهة أعمق انقسام حزبي شهدته بريطانيا منذ عقود.

الوثائق التي كُشفت لاحقًا، إضافةً إلى تقرير لجنة تشيلكوت عام 2016، أثبتت أن حكومة بلير بالغت عمدًا في تصوير تهديد صدام حسين، وتجاهلت تحذيرات مسبقة من أن الغزو سيؤدي إلى فوضى إقليمية ويقوّي شوكة القاعدة والتنظيمات المتطرفة.
ومع ذلك، ظل بلير حتى الآن متمسكًا بخياره، معتبرًا أن العالم “أصبح أكثر أمانًا” بعد إسقاط صدام، رغم اعترافه بالنتائج الكارثية التي تمثلت في مقتل مئات الآلاف من المدنيين وانهيار مؤسسات الدولة العراقية.
في خطاباته ومذكراته، حاول بلير تغليف قراراته بلغة مشبعة بنبرة “الحماسة الأخلاقية”، مؤكدًا أنه اتبع “ما أمْلته عليه غريزته” وأنه “كان يفعل ما يعتقد أنه الصواب”، حتى وإن تبيّن لاحقًا خطؤه.
ومع أن التحقيقات لم تُدنه شخصيًا، واعتبرته مستندًا إلى معلومات استخبارية ضعيفة، إلا أن الرأي العام البريطاني ظل يرى فيه “رمزًا للخداع”. وقد بلغت هذه القناعة ذروتها حين وقّع أكثر من نصف مليون بريطاني عريضة عام 2022 تطالب بسحب وسام الفروسية الذي منحته له الملكة إليزابيث، بوصفه “مجرم حرب”.
ورغم مرور عقدين على الغزو، يواصل بلير التمسك بموقفه، رافضًا الاعتذار الصريح؛ ففي أكثر من مناسبة قال إنه “لو عاد إلى اللحظة نفسها وبالمعلومات نفسها، لاتخذ القرار ذاته”. بل ذهب أبعد من ذلك حين دعا لاحقًا إلى خيار عسكري ضد إيران لإجبارها على التخلي عن برنامجها النووي، في تكرار لذات العقلية التي جعلته أكثر زعماء أوروبا التصاقًا بالبيت الأبيض في حربه على الإرهاب.
وبالتالي، لم يكن بلير مجرد شريك في تلك الحروب، بل أحد أبرز مهندسيها ومبرريها، حتى غدا اسمه مرادفًا للتماهي مع المشروع الأمريكي، ودليلًا على قدرة السياسة البريطانية على التحول من “العمال الجديد” إلى “العمال المطيّع” لواشنطن.

الرباعية الدولية وتدجين المقاومة الفلسطينية
بعد خروجه من رئاسة الوزراء عام 2007، لم يغادر توني بلير المشهد الدولي، بل تسلّم منصب مبعوث اللجنة الرباعية الدولية في الشرق الأوسط، وهي الآلية التي جمعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة بزعم دعم عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية. غير أن هذا التعيين، الذي جرى بدفع مباشر من الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، حمل منذ البداية بصمة أمريكية خالصة، بينما بدت بقية الأطراف مجرد شهود لا يملكون تأثيرًا جديًا.
اللجنة، التي وُلدت لمواجهة انتفاضة الأقصى وتداعيات حرب العراق، طرحت عام 2003 خطة “خارطة الطريق” التي بشّرت بدولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة، مقابل التزامات فلسطينية بملاحقة المقاومة ووقف ما سمته “الإرهاب”، في حين يُفترض أن تجمّد “إسرائيل” الاستيطان وتنسحب من المدن الفلسطينية.
تعثرت الخطة سريعًا، لكن بلير عاد عام 2007 ليكون الوجه الجديد الذي يدفع باتجاه تكريس هذه الرؤية المشوهة، مستغلًا موقعه كمبعوث للرباعية حتى عام 2015.
خلال سنوات عمله، لم يُنظر إلى بلير كوسيط محايد، بل كمنفّذ لسياسة هدفها إعادة صياغة الوعي الفلسطيني والمشهد السياسي الداخلي بما يتوافق مع الشروط الإسرائيلية، التي تحولت لما بات يُسمى بشروط “الرباعية الدولية”.

فقد ركّزت مهمته على إقصاء قوى المقاومة الفلسطينية، وإبقاء السلطة في موقع “الوكيل الأمني” الذي يضمن هدوء الضفة الغربية، بعيدًا عن أي أفق سياسي حقيقي. ولم يتوقف بلير عند حدود المقاطعة السياسية لحركة حماس بعد فوزها في انتخابات 2006، بل أسهم في ترسيخ الانقسام بين غزة والضفة، ومعه تكريس عزل القطاع وإغلاق أي باب أمام شراكة سياسية وطنية، بفرض الاشتراطات كبوابة للقبول الدولي بأي حكومة وحدة فلسطينية.
كما لعب دورًا بارزًا في محاولة تدجين الفلسطينيين اقتصاديًا، عبر مشروعات وتحركات ركزت على “السلام الاقتصادي“، وهي مقاربة سبقت ملامح “صفقة القرن” التي طرحها لاحقًا جاريد كوشنر في الدورة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب. وبذلك، كانت سياسات بلير حلقة وصل بين استراتيجيات أمريكية متعاقبة هدفت إلى إبقاء الفلسطينيين تحت سقف منخفض من الحقوق، مقابل تحسينات معيشية شكلية لا تمس جوهر القضية.
تجربة بلير مع الرباعية ترافقت مع ثلاث حروب إسرائيلية دامية على غزة (2008، 2012، 2014)، ظل خلالها في موقع المبرّر للسياسات الإسرائيلية، مانحًا الغطاء الدبلوماسي لممارسات الاحتلال.
وفي تقارير الرباعية، جرى التركيز على ما سُمي “التحريض الفلسطيني”، باعتبار تمجيد الشهداء في الخطاب الشعبي والثقافي شكلًا من أشكال “الإرهاب”، في تجاهل فجّ لجرائم الاحتلال اليومية. وبهذه الرؤية، التي ساوى فيها بين مقاومة شعب تحت الاحتلال وبين الإرهاب، عكست بوضوح مدى انحياز بلير، كما عكست حرصه على محاربة الوعي الوطني الفلسطيني، وليس فقط القوى الفلسطينية كتعبيرات سياسية وكفاحية.
وعلى الرغم من أنه اعترف لاحقًا بأن مقاطعة حماس كانت “خطأً” زاد الوضع تعقيدًا، فإن سجله كمبعوث للسلام بقي بالنسبة للفلسطينيين شاهدًا على سياسة التدجين والإقصاء، لا على مساعٍ جادة لتسوية عادلة.
“غزة ريفييرا” والاستثمار على الركام
مع اشتداد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتصاعد جرائم الإبادة، عاد اسم توني بلير ليطفو مجددًا في قلب المشهد. فقد كشفت تقارير صحفية إسرائيلية، بينها صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، أن حكومة نتنياهو عرضت على بلير تولي منصب “منسق الشؤون الإنسانية في غزة”، مستفيدة من خبرته السابقة كمبعوث للجنة الرباعية.
ورغم نفي “معهد توني بلير” في حينه رسميًا تلقيه العرض، فإن كثافة تحركاته وزياراته للقدس وتل أبيب منذ الأسابيع الأولى للحرب أعطت الانطباع بأنه في صلب خطط “اليوم التالي”.
لم تقتصر التحركات على الجانب الإنساني، إذ سرعان ما ارتبط اسم بلير بخطط أكثر خطورة، بينها ما نشرته القناة 12 الإسرائيلية عن كونه سيصبح “المنسق العام للتهجير الطوعي للفلسطينيين”. ورغم النفي، لم تقتنع القيادة الفلسطينية، واعتبرت حضوره في هذا الملف “جريمة حرب”، فيما شبّهته حركة فتح بامتداد لوعد بلفور، وصرّحت السلطة الفلسطينية بأنه شخص غير مرغوب فيه على الأراضي الفلسطينية.
لكن الخطة الأكثر إثارةً للجدل جاءت عبر تقرير لمجلة “إيكونوميست” البريطانية، التي كشفت عن مشروع يعمل عليه بلير بمساندة مؤسسته في لندن، يقضي بإنشاء “السلطة الانتقالية الدولية لغزة” (GITA).
هذه الهيئة، كما صيغت، ستعمل بخمسة أعوام من التفويض الدولي كـ”سلطة سياسية وقانونية عليا”، يقودها مجلس من سبعة أشخاص وتموّلها دول خليجية، على أن تدير شؤون القطاع من مدينة العريش المصرية قبل الدخول إلى غزة بمعية قوة دولية. وقُدمت الفكرة مباشرة إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بدعم من صهره جاريد كوشنر والمستشارين المقربين من نتنياهو، وجرى عرضها على قادة عرب ومسلمين في صيف 2025.
بالنسبة لبلير، فإن “غيتا” ليست مجرد مقترح تقني، بل امتداد لفلسفته القديمة في مقاربة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وتقوم على إقصاء قوى المقاومة، وتكريس وصاية دولية على الفلسطينيين بغطاء اقتصادي وبيروقراطي، على غرار النماذج التي جُرّبت في كوسوفو وتيمور الشرقية.
وقد أظهرت استطلاعات رأي أجراها فريقه في غزة أن جزءًا من السكان قد يقبل بوصاية كهذه، مقابل تحسّن الأوضاع المعيشية، فيما رُوِّج للخطة باعتبارها بديلًا عن الطروحات الأكثر تطرفًا التي دعت إلى تهجير السكان وتحويل القطاع إلى “منتجع سياحي” تديره تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما ورد في بعض خطط ترامب السابقة.
لكن في الوعي الفلسطيني، تبقى مثل هذه المشاريع صورةً مكررة من تاريخ الوصاية الاستعمارية، بخاصة مع سجل بريطانيا في فلسطين ووعد بلفور. لذلك يُنظر إلى دور بلير في “غزة الجديدة” على أنه إعادة إنتاج لانتداب مقنّع، يهدف إلى صناعة “غزة ريفييرا” تستثمر على أنقاض شعب محاصر ومُدمَّر، أكثر من كونه مسعى لإنهاء الحرب أو بناء مستقبل فلسطيني مستقل.