ترجمة وتحرير: نون بوست
غالبًا ما يكون الرئيس دونالد ترامب في أقصى درجات الصراحة عندما يتقمّص دور المحلّل السياسي، وقد كان الأمر كذلك في تصريحاته الأخيرة بشأن حرب إسرائيل مع حماس وتداعياتها السياسية.
قال ترامب في مقابلة نُشرت في موقع “ديلي كولر” في وقت سابق من هذا الشهر، في إشارة إلى إسرائيل: “كان لديهم سيطرة كاملة على الكونغرس، والآن لم يعد الأمر كذلك. سيتعيّن عليهم إنهاء تلك الحرب… قد يكونون منتصرين في ساحة المعركة، لكنهم يخسرون معركة العلاقات العامة، وهذا يضرهم”.
ترامب محق تمامًا بشأن تدهور صورة إسرائيل على الساحة الدولية بشكل متزايد. خلال الأيام القليلة الماضية، انضمت كندا والمملكة المتحدة وأستراليا إلى قائمة الدول التي اعترفت بدولة فلسطين. كما أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل باتت تخضع لتدقيق غير مسبوق، إذ بدأ عدد متزايد من المشرّعين الذين كانوا يتسابقون سابقًا لإظهار دعمهم القوي لإسرائيل، بتوجيه انتقادات حادة لها. وقد أسهمت الخطوات الأخيرة التي اتخذها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تأجيج هذا الغضب، بما في ذلك شنّ هجوم بري على مدينة غزة، واستهداف قادة حماس في الدوحة، وإنكار وجود أدلة على انتشار المجاعة بشكل كبير في القطاع المحاصر.

رغم كل ذلك، فإن الواقع يشير إلى أنه من غير المرجح أن يحدث أي تغيير في واشنطن في الوقت الراهن. فمن المتوقع أن يستمر الكونغرس في الموافقة على تزويد إسرائيل بالأسلحة الأمريكية، كما أن إدارة ترامب ستواصل على الأرجح أكثر تحركات إسرائيل جرأة، أو على الأقل لن تمارس أي ضغط لوقفها. (وقد وعد ترامب القادة العرب والمسلمين بأنه لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية، رغم أن طبيعة الضغط الذي قد يمارسه لتحقيق ذلك لا يزال غير واضح).
لكن هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد. تُظهر استطلاعات الرأي بوضوح أن هناك تحوّلًا في مواقف الجيل القادم من شأنه أن يُعيد تشكيل السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل بشكل جذري. فعلى جانبي الطيف السياسي، اليسار واليمين، بات الشباب الأمريكيون أكثر تحفظا على تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، لا سيما مع ارتفاع عدد الضحايا في غزة وتراجع احتمالات قيام دولة فلسطينية.
وفي الوقت ذاته، يتجه الشباب الإسرائيليون بقوة نحو اليمين، ويصبحون أكثر قومية وتديّنًا، وأقل تعاطفًا مع الفلسطينيين، وهو تحوّل من شأنه أن يُفاقم التوتر في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل خلال السنوات المقبلة. يبدو أن الصدام بات حتميًا.
تقول إليسا إيورز، التي كانت حتى وقت قريب كبيرة موظفي الحزب الديمقراطي المعنيين بشؤون الشرق الأوسط في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ: “نحن نقف عند نقطة تحول؛ حيث باتت القيم التقليدية والحجج الأمنية التي شكّلت أساس العلاقة تواجه ضغوطًا كبيرة. لذلك، بغض النظر عمّا سيحدث لاحقًا، علينا أن نعيد النظر في الافتراضات التي تقوم عليها هذه العلاقة. وما يقلقني هو اتساع الفجوة داخل إسرائيل في الاتجاه المعاكس، مما يجعل من الضروري أن تكون لدينا رؤية منطقية ومقنعة للعلاقة، وليست قائمة على مفاهيم قديمة تعود إلى 40 عامًا مضت”.
لم يعد من الصعب تفسير نتائج استطلاعات الرأي في هذه المرحلة. وفقًا لاستطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في مارس/ آذار، قبيل زيارة نتنياهو للولايات المتحدة، فإن أكثر من نصف البالغين الأمريكيين – 53 بالمئة – لديهم نظرة سلبية تجاه إسرائيل، بينما لا تتجاوز نسبة من يثقون بنتنياهو 32 بالمئة. ويُظهر الاستطلاع أن الديمقراطيين أكثر ميلاً من الجمهوريين إلى التعبير عن آراء سلبية تجاه إسرائيل، بنسبة 69 بالمئة مقابل 37 بالمئة، إلا أن النظرة السلبية بين الجمهوريين تشهد ارتفاعًا تدريجيًا.
وينطبق ذلك بشكل خاص على الجمهوريين الأصغر سنًا. ففي السنوات الثلاث الماضية، ارتفعت نسبة الجمهوريين دون سن الخمسين الذين لديهم آراء سلبية تجاه إسرائيل من 35 بالمئة إلى 50 بالمئة. أما بين الديمقراطيين دون الخمسين، فتصل نسبة من لديهم نظرة غير إيجابية عن إسرائيل إلى 71 بالمئة. وقد بدأ تراجع الدعم لإسرائيل بين الديمقراطيين، لا سيما الشباب منهم، قبل عدة سنوات، خاصة بعد تقارب نتنياهو مع ترامب خلال ولايته الأولى وفي انتخابات 2020، ومع ميل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة نحو اليمين.
ورغم أن الأمريكيين من الحزبين دعموا إسرائيل مباشرة بعد هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول التي قتلت فيها حماس 1,200 إسرائيلي، فإن ذلك الدعم تراجع بشكل حاد مع تصاعد الرد العسكري الإسرائيلي الذي خلّف حتى الآن أكثر من 64,000 قتيل فلسطيني.
وتُعدّ الاحتجاجات الطلابية التي اندلعت في الجامعات الأمريكية ضد الحرب على غزة أبرز مظاهر رفض الشباب للدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للحرب الإسرائيلية، وقد انطلقت هذه الموجة أساسًا من الأوساط اليسارية. إلا أن هذا الشعور بدأ يتسرّب إلى اليمين أيضًا، مدفوعًا جزئيًا بمواقف ترامب، الذي حقق تقدمًا ملحوظًا بين الناخبين الشباب خلال حملته الانتخابية، ولم يتردد في استغلال حالة الاستياء من سياسة الرئيس جو بايدن تجاه إسرائيل.
أشار كيرت ميلز، المدير التنفيذي لمجلة “أمريكان كونسيرفاتيف”، إلى أن ترامب كان على استعداد على “الاستفادة من جانبي القضية” خلال حملته الانتخابية. خلال تجمع انتخابي في أبريل/ نيسان 2024، انضم ترامب إلى حشد كان يردد شعار “جو الإبادة الجماعية”، وهو هتاف نشأ في الأوساط اليسارية للاحتجاج على بايدن. وقبل ذلك بشهر، انتقد ترامب بايدن في مقابلة مع قناة فوكس واصفًا إياه بـ”الضعيف”، وحثّ إسرائيل على “إنهاء المشكلة” في غزة.
وجّه ميلز، الذي ينتمي إلى تيار عدم التدخل في الحزب الجمهوري، تحذيرًا ضمنيًا لترامب مع اقتراب الحرب من عامها الثاني دون بوادر لنهايتها، قائلاً: “الجمهوريون مسؤولون عن هذه القضية الآن”.
وأضاف ميلز: “عامل السن مهم للغاية. معظم الدعم المتشدد لإسرائيل يأتي من الجمهوريين الأكبر سنًا، ولا سيما الإنجيليين منهم، وقد رحل بعض هؤلاء، بينما دخل ناخبون جدد إلى الساحة”.
ويتفق معه غابي غيداريني، رئيس اتحاد الجمهوريين في كليات أوهايو والطالب في السنة الأخيرة بجامعة دايتون. وقال إن بين المحافظين الشباب “قناعة بأن هذا الصراع لا يعود بأي فائدة على الشعب الأمريكي، وأن تورطنا فيه لا يخدم مصالح الأمريكيين أيضًا”.
يتبنى العديد من الشباب الديمقراطيين القناعة ذاتها. يقول سونجاي موراليتاران، رئيس ديمقراطيي الجامعات الأمريكية وطالب العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو: “لقد شهدنا علاقة تحالف تبدو غير عادلة إلى حد كبير”.
وفي الوقت الذي يتزايد فيه شعور الأمريكيين بالاستياء تجاه إسرائيل، يشهد الجانب الآخر تحولًا موازيًا. يتجه الإسرائيليون، ولا سيما الشباب منهم، أكثر فأكثر نحو اليمين. نسبة كبيرة من الشباب الإسرائيلي الذي نشأ خلال موجة العنف المعروفة بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، أو خلال الحروب الخمس المتعاقبة على غزة، أصبحوا أكثر تشددًا في مواقفهم وأكثر تركيزًا على القضايا الأمنية. كما أن المجتمع الإسرائيلي أصبح أكثر تدينًا، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 25 بالمئة من السكان سيكونون من اليهود الحريديم المتشددين بحلول عام 2050.
لا يحمل الشباب الإسرائيلي أي ذكريات عن مشاعر الأمل التي رافقت اتفاقيات أوسلو، ولا عن الفترة التي كانت فيها الحياة اليومية تشهد تفاعلا أكبر بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أدّى فشل الاتفاقات التي رعتها الولايات المتحدة على مدى السنوات الماضية إلى واقع أكثر انقسامًا وتراجع في الآمال بشأن قيام دولتين مستقلتين، وهو الهدف الذي سعى المجتمع الدولي إلى تحقيقه منذ فترة طويلة. ربما تكون صدمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول قد عمّقت النظرة القاتمة لدى كثير من الإسرائيليين، لكن التشدد الذي يشهده المجتمع الإسرائيلي سبق تلك اللحظة.
في استطلاع أجراه معهد الديمقراطية الإسرائيلي عام 2024، عرّف 58 بالمئة من اليهود الإسرائيليين أنفسهم بأنهم من التيار اليميني، مقارنة بـ46 بالمئة فقط في أبريل/ نيسان 2019. وستشكّل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة اختبارًا لهذا الاتجاه. رغم تذبذب موقف نتنياهو السياسي، فإن حكومته غالبًا ما استندت إلى دعم أحزاب يمينية أكثر تطرفًا للبقاء في السلطة.
لم يعد احتمال حدوث قطيعة حقيقية بين إسرائيل والولايات المتحدة مجرد تكهنات عابرة. أقر نتنياهو نفسه بإمكانية أن تصبح بلاده معزولة عن بقية العالم، بما في ذلك احتمال الانفصال عن الحليف الأهم. وقال نتنياهو في تصريح أثار الجدل في إسرائيل وخارجها: “قد نجد أنفسنا محاصرين، ليس فقط في مجال البحث والتطوير، بل في مجال الإنتاج ذاته. قد تُحاصر صناعاتنا الدفاعية، ويتعين علينا أن نكون أثينا وإسبرطة العظمى، ونتكيف مع اقتصاد الاكتفاء الذاتي”.
وأضاف: “ليس أمامنا خيار. على الأقل في السنوات المقبلة، سيتعيّن علينا التعايش مع محاولات العزل، ويجب أولًا أن نطوّر القدرة على إدارة الأمور بأنفسنا”.
ويخشى الكثيرون في إسرائيل من انهيار أحد المبادئ الأساسية التي طالما شكّلت ركيزة سياستها الخارجية، أي الحفاظ على دعم أمريكي من كلا الحزبين.
وقال زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، ، تعليقًا على استطلاعات الرأي التي تُظهر تراجع تأييد إسرائيل بين الشباب الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة: “هذا مؤشر خطير للغاية”.
رغم التحولات السريعة في مواقف الرأي العام، فإن استجابة السياسيين في واشنطن كانت بطيئة. بالرغم من لهجته الحادة، لم يمارس ترامب ضغوطًا على نتنياهو لإنهاء الحرب في غزة. وقد صوّت مجلس الشيوخ في يوليو/ تموز لصالح صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 675 مليون دولار، بـ72 مقابل 27. لكن مؤشرات التصدّع بدأت بالظهور، إذ كانت تلك الجلسة أول مرة يصوّت فيها غالبية أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين ضد صفقة أسلحة لإسرائيل، وهو مؤشر بالغ الأهمية على الاتجاه الذي يسلكه الحزب. اللافت أن مثل هذه القرارات لم تكن تُطرح للتصويت أصلًا في السابق، فضلًا عن أن تحظى بهذا القدر من التأييد.
حتى وقت قريب، كان الجمهوريون والديمقراطيون يرون أن من المفيد سياسيا التأكيد على مواقفهم المؤيدة لإسرائيل ودعمهم للعلاقة الدفاعية معها، لكن يبدو أن هذا الواقع بدأ يتغير.
يقول تومي فيتور، المتحدث السابق باسم مجلس الأمن القومي في إدارة أوباما، والذي يقدم حاليا بودكاست “بود سيف ذا وورلد”: “كان هناك إجماع من الحزبين في واشنطن، بأن يدعم الطرفان إسرائيل بالكامل، وأنها أقرب حليف لنا في المنطقة، وأنها تمثل نقطة الضوء الديمقراطية الوحيدة في منطقة صعبة، وكان من المسلّمات أن تقدم الولايات المتحدة مليارات الدولارات سنويًا في شكل شحنات أسلحة أو دعم عسكري”.
إحدى الاختبارات الرئيسية لهذا التحول ستظهر عندما تعيد إدارة ترامب التفاوض بشأن اتفاقية الدفاع المشترك مع إسرائيل، وهي اتفاقية يتم تجديدها كل عقد من الزمن. من المقرر أن ينتهي الاتفاق الحالي عام 2028، على أن تبدأ المفاوضات حول الاتفاق الجديد قبل ذلك بفترة طويلة.
من بين عشرات المسؤولين الحاليين والسابقين في إدارتي ترامب وبايدن، وموظفي الكونغرس الجمهوريين والديمقراطيين الذين تحدثت إليهم، يرى معظمهم على أن الاتفاق الدفاعي للسنوات العشر المقبلة سيظل قريبًا من مستوى المساعدات السنوية البالغ 3.8 مليار دولار، لكن من المرجح أن يكون ذلك الحد الأقصى لهذا الدعم. ومن اللافت أن هذا النقاش قد يتزامن مع الانتخابات التمهيدية الرئاسية لعام 2028، ولن يكون من المفاجئ إطلاقًا أن تصبح إسرائيل القضية التي تشعل الحملات الانتخابية في صفوف الحزبين.
بالنسبة لليهود الأصغر سنًا من الديمقراطيين والجمهوريين، كانت السنوات القليلة الماضية صعبة بشكل خاص، بغضّ النظر عن موقفهم من إسرائيل. خلال مقابلات أُجريت في إطار إعداد هذا التقرير، قال كثيرون إنهم يدركون التحولات الجارية داخل الحزبين، لكنهم عبّروا في الوقت نفسه عن قلقهم من وجود تلميحات معادية للسامية ضمن الخطاب السياسي الحالي.
يقول أحد الموظفين اليهود السابقين في إدارة بايدن، وكان يعمل في قضايا الأمن القومي، إنه رغم شعوره بالفخر حين كان يخبر الناس بطبيعة عمله، إلا أن الإشارة إلى أنه يعمل على ملف إسرائيل وغزة كان أمرا يثير مخاوفه.
وقال: “كنت أخشى أن أكتشف ما قد يفكر به الآخرون، خصوصًا من هم دون الأربعين”. وأضاف أن الناس كانوا يتعاطفون مع أولئك الذين يعملون على ملف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكن لم يكن هناك دفء مماثل تجاه من يعمل على خطط بايدن المتعلقة بإسرائيل.
ووصف العمل على ملف إسرائيل بأنه “كابوس طويل لم ينتهِ فعليًا”، مشيرًا إلى صعوبة التوفيق بين محبته لإسرائيل وغضبه مما يحدث في غزة: “لم يكن هناك أي حل وسط يمكن تبنيه”.
المصدر: بوليتيكو