ترجمة وتحرير: نون بوست
في زقاق ضيق ومنسي في أحد أحياء بغداد المترامية الأطراف، يعيش رجل في عزلة شبه تامة. في الليل، يتجول وحده على طول ضفاف نهر دجلة المتضائلة. إقامته هنا مؤقتة؛ استراحة قبل ما يبدو أنها رحلته الأخيرة.
في جيبه عدة وثائق: بطاقة هوية عراقية باسم سليم الجبوري، جواز سفر روسي باسم فاسيلي، وبينهما بطاقة عسكرية باسم ثالث، تُعرّفه كعقيد في سلاح الجو السوري. تلك البطاقة العسكرية تحمل هويته الحقيقية. ولأغراض هذا التحقيق، سنستخدم اسمه المستعار: الدوري.
بين هذه الهويات، ينتظر الدوري لقاءه مع وسيط محلي وعده بتذكرة إلى موسكو دون المرور بكاميرات المراقبة في المطار سعرها 3000 دولار، وقد سبق أن نجح الوسيط في تحقيق المستحيل بتوفيره جواز سفر روسي أصلي من الإنترنت المظلم، فهناك دائمًا من يتقن إنجاز المهام المستحيلة.
عندما انهار نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أصبحت موسكو الملاذ المفضل لمواليه الفارين: قادة، وضباط، وفي القمة، الأسد نفسه. لكن الدوري لم يكن يأمل لقاء الرئيس الهارب. قال في محادثة خاصة عبر تطبيق “تليغرام” مع مجلة “نيو لاينز”: “لو رأيت ذلك الوغد، لقتلته”.
كان الدوري قد أمضى نحو خمسة أشهر في بغداد في ربيع 2025؛ حيث تطارده في أحلامه الليلية ذكريات مرتبطة بأيامه الأخيرة في الخدمة في قاعدة إسطامو الجوية جنوب اللاذقية؛ حيث أمضى أيامه الأخيرة في سلاح الجو. يقف في أحلامه أمام قاضٍ يرتدي نظارات سميكة ويحكم عليه بالإعدام شنقًا مئة مرة، مرة لكل طلعة جوية نفذها فوق سوريا. وفي آخر كابوس، وجد نفسه ممسكًا ببرميل متفجر، يُلقى من طائرة على مروحيته الخاصة المركونة على مدرج اسطامو.
عندما بدأت عملية “ردع العدوان”، التي انتهت بسقوط الأسد، في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، لم ينتظر الدوري الأوامر، بل ارتدى بزته الجوية وتوجه مباشرة إلى قاعدة إسطامو، مقر اللواء 63؛ حيث خدم آخر مرة. كان يتوقع عودة أيام الطلعات الجوية المتواصلة، عندما كانت المروحيات لا تغادر السماء أبدًا، تقصف الجبهات من دير الزور إلى إدلب.
تحولت إسطامو خلال الحرب من مهبط متواضع للمروحيات إلى موقع إطلاق لعشرات الطائرات المحملة بالبراميل المتفجرة. ولم تكن الوحيدة؛ فقد شهدت قواعد من اللاذقية إلى درعا، ومن دمشق إلى ريف حلب، نفس هذا التحول الكئيب.
لكن عندما وصل الدوري وجد المطار شبه مهجور، والمروحيات متناثرة على المدرج، والبراميل المتفجرة مكدسة في المستودعات وحتى في العراء.
أخبره صديق بأن قائد القاعدة، العميد نديم الجردي، قد فرّ إلى وجهة مجهولة، فعلق الدوري: “خسارة عليه”؛ حيث كان الجردي قد دفع 300 مليون ليرة سورية لشراء منصبه في يونيو/ حزيران 2023 (حوالي 120 ألف دولار بسعر الصرف الرسمي آنذاك). ومع ذلك، تابع الدوري مهمته، وأمر الجنديين المتبقيين بتجهيز طائرته، فأخبراه أنها مجهزة بالفعل ببرميل متفجر جاهز للإطلاق.
توجه إلى مروحيته المفضلة، التي قادها كثيرًا في السنوات الماضية، وكان يحفظ رقمها عن ظهر قلب: 2816، مروحية روسية قديمة من طراز Mi-17، كان هديرها يخترق السماء. لكنه عندما حاول تشغيلها، لم يحدث شيء، فنظر إلى عداد الوقود ليجد الضوء الأحمر مضاء؛ إنها فارغة. نادى أحد الجنود، فأكد له أنه لا يوجد وقود لأي من المروحيات المتوقفة، فقد باع الجردي كل الوقود، بالتعاون مع رئيس أمن المطار ورئيس استخبارات سلاح الجو في اللاذقية، اقتناعًا منهم بأن الحرب انتهت، وأن الطلعات الجوية توقفت، باعوا الوقود والذخائر، ولم يتركوا سوى البراميل المتفجرة.
اجتاحه غضب شديد، لكنه شعر في أعماقه بالحقيقة: لقد حانت النهاية، اللحظة التي ظهرت فيها أخيرًا سنوات الفساد للعلن. نزل من المروحية وهو يلعن كل شيء، ولم يرَ سببًا للبقاء، فاستقل سيارته من طراز “بي إم دبليو” وعاد وحيدًا إلى منزله في جبلة، مثقلًا بشعور الانهيار؛ فالجيش، والقيم، والمبادئ التي قاتل من أجلها، كلها تنهار أمام عينيه.
تابع بصمت أخبار سقوط المدن السورية واحدة تلو الأخرى في يد المعارضة، كقطع دومينو تتهاوى. حتى سقط النظام نفسه أخيرًا في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
جمع الرجل المفجوع أوراقه العسكرية ومتعلقاته وأحرق ما استطاع، وعبر الحدود برًا إلى بغداد بعد شهر مستخدمًا بطاقة الهوية العراقية التي احتفظ بها في ظل الفراغ الأمني. ترك خلفه أفراد أسرته، الذين غادروا لاحقًا إلى لبنان بعد انتهاء العام الدراسي.
كانت بطاقة الهوية العراقية تلك هدية صداقة من أحد عناصر ميليشيا شيعية قاتلت في سوريا عام 2018، وكان هذا الرجل هو صلة اتصاله الوحيدة في بغداد، وهو الذي رتب لقاءه مع الوسيط. وهكذا، خلال الانتظار اللامتناهي قبل رحيله، بدأ الدوري يروي لي قصة حياته في عدة محادثات شخصية عبر الهاتف وعبر تطبيقات المراسلة.
وهذا جزء منها.
لم يعد الدوري يعرف نفسه عندما ينظر في المرآة اليوم، فقد كان وجهه قبل سقوط النظام ممتلئًا، وابتسامته سريعة، وروحه مرحة. أما الآن، فقد تجعدت جبهته، ولم يعد يخرج دون نظارات داكنة تخفي اضطراب روحه.
وُلد عام 1975 في قرية منسية تقع في جبال الساحل السوري، السلسلة المعروفة عالميًا باسم جبال العلويين. يرفض ذكر اسم مسقط رأسه، خوفًا من انتقام حكام سوريا الجدد. في السبعينيات، لم تكن قريته تملك كهرباء أو بنية تحتية، كان يعيش فقط في شتاء قارسٍ وحلم دائم بالهرب. لم يكن طالبًا موهوبًا، ونادرًا ما لاحظه المعلمون، وأنهى دراسته الإعدادية والثانوية في جبلة، ثم تقدم بطلب للالتحاق بالأكاديمية العسكرية في حمص مثل كثير من أبناء الجبال، ومن هناك، أُرسل إلى كلية الدفاع الجوي في قرية مسكنة جنوب شرق حمص؛ حيث تخرج بعد ثلاث سنوات كضابط في سلاح الجو، وبدأ بتسجيل ساعات الطيران التي حملته في سلم الرتب العسكرية.
لم يكن يُسمح إلا للضباط السنة بالطيران حتى أواخر السبعينيات، عندما كان قائد القوات الجوية ناجي جميل يتمتع بنفوذ كبير، حيث كان جميل، وهو صديق مقرب لحافظ الأسد من دير الزور، يصرّ على أن شباب الساحل يعانون من مشاكل في الجيوب الأنفية تجعل الطيران مستحيلًا، وعندما علم الأسد بذلك أقاله فورًا. ولا تتعارض هذه الرواية مع روايات أخرى تشير إلى أن جميل كان يخطط لانقلاب ضد الأسد الأب، وفي كلتا الحالتين، فتحت الإقالة السماء أمام الطيارين العلويين.
كانت أول طلعة جوية للدوري في أواخر التسعينيات، عندما كان ملازمًا أول حديث التخرج؛ حيث يتذكر ذلك الصباح البارد كما لو كان بالأمس: يحلق فوق حمص وريفها، ويرى المدينة من الأعلى لأول مرة. يقول: “رأيت نهر العاصي يتدفق بهدوء شمالًا، عكس اتجاه كل أنهار العالم. كنت سعيدًا”.
بعد ما يقرب من ربع قرن من الطيران، يلخص مسيرته بجملة صارخة: “عرفت مدن سوريا وقراها من أسطح منازلها، من المروحيات التي قدتها. لم يعد ذلك ممكنًا اليوم. تلك المدن لم تعد موجودة”.
ترقى إلى رتبة نقيب في أوائل عام 2011، وكانت ساعات طيرانه – وهي معيار أساسي لترقية الطيار السوري، وتُسجل بدقة في سجلات الطيران – قد تجاوزت منذ زمن الحد المطلوب للترقية. واندلعت الثورة في العام نفسه، ولم يكن أحد يعرف ما ستؤول إليه الأمور: هل سيتنحى الأسد كما فعل زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر؟ أم سيظل متمسكًا بالسلطة في حالة إنكار، كما توحي تصريحاته، ويطلق العنان لعواقب لم يتخيلها أحد؟ وكان الخيار الثاني، وما تلاه أدى إلى انهيار البلاد.
بعد اندلاع الانتفاضة السورية في مارس/ أذار 2011، وتحولها سريعًا إلى صراع مسلح مع ظهور جماعات المعارضة في صيف ذلك العام، غرقت البلاد في دوامة من الصراع وسفك الدماء. وبإنكار الواقع والتشبث بالعناد، اختار نظام الأسد مواجهة الجميع بأدوات وحشية وغير تقليدية.
ويروي محقق سابق في فرع الأمن السياسي باللاذقية أصل فكرة البرميل المتفجر: “جاءت الفكرة من اللواء جميل الحسن، وقد نقلها إلى بشار الأسد خلال اجتماع في دير الزور في صيف عام 2012”.
كان الحسن، المولود في حي الخالدية بمدينة حمص، يُعتبر غير فاسد، وقد أُوكلت إليه قيادة الوحدة 739 (المهام الخاصة) لحماية السيدة الأولى وعائلة الأسد.
لا يُعرف على وجه التحديد متى خطرت له هذه الفكرة أول مرة، لكن الضابط السابق يشير إلى أن مقر استخبارات سلاح الجو في حرستا، قرب دمشق، تعرض لهجوم منسق نفذته جبهة النصرة في خريف 2012، باستخدام سيارات مفخخة وانتحاريين، وانتشرت شائعات عن مقتل الحسن، لكنها كانت خاطئة. لكن الهجوم ربما دفعه نحو مزيد من التطرف ضد المعارضة، وإلى استخدام البراميل المتفجرة ضد ما وصفه بـ”البيئة الحاضنة” للثوار.
تنسب رواية أخرى اختراع البرميل المتفجر إلى العميد سهيل الحسن، المعروف بلقب “النمر”، من قرية بيت عانا قرب جبلة، والذي يُقال إنه يقيم الآن في موسكو. ووفقًا لهذه الرواية، فقد نقل إليه الفكرة قائد مجموعة “هرماس”، إحدى الميليشيات التابعة له والمتمركزة في إدلب. وقد أبرم معظم مقاتليها، وهم متطوعون من ريف إدلب، لاحقًا صفقات مع السلطة الجديدة في سوريا. فمثلًا، دفع قائدها مؤخرًا 300 مليون ليرة سورية لتسوية وضعه قبل مغادرة البلاد، وتبدو هذه الرواية أيضًا ذات مصداقية.
لكن الفكرة نفسها لم تكن جديدة تمامًا؛ فقد كان أول من ابتكر البراميل المتفجرة هو أميشاي باغلين، رئيس العمليات في ميليشيا “إرغون” الصهيونية، خلال حرب التطهير العرقي في فلسطين عامي 1947-1948، وعاد هذه السلاح للظهور في سوريا منتصف عام 2012. لم يعترف النظام رسميًا باستخدامه، وغالبًا ما اختلط استخدامه بالذخائر الروسية الثقيلة، لكن النشطاء بدأوا بتوثيق استخدامه بحلول خريف 2012.
وألقي أول برميل متفجر موثق من مروحية سورية في 19 أغسطس/ آب 2012، في حي الحميدية بمدينة حمص. وكان الطيار هو اللواء عماد نفوري، من مدينة النبك في منطقة القلمون. وفي 28 يوليو/ تموز 2025، أفادت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية أن نفوري اعتُقل في حلب أثناء محاولته تزوير وثائق للهروب من البلاد.
وكان نفوري، وهو سني، صديقًا سابقًا للدوري، وقاد في عام 2015 طلعة جوية على مسقط رأسه النبك، أسفرت عن مقتل ستة من أبناء عمومته. وبعد فترة قصيرة، شغل منصب رئيس أركان الفرقة الجوية العشرين لمدة ستة أشهر، وفي عام 2019، رُقي إلى رتبة لواء وعُين مديرًا لإدارة العمليات الجوية، وهي أقوى إدارة في سلاح الجو تمر عبرها جميع الأوامر العملياتية. وبحلول عام 2021، أصبح رئيس أركان سلاح الجو.
كان رد فعل الدوري على سقوط صديقه القديم صارمًا: “أحمق. لقد انتظر طويلاً، كان عليه أن يعبر إلى العراق ويختبئ هنا.”
لماذا استخدم النظام السوري البراميل المتفجرة؟
ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال؛ حيث يمكن تقديم العديد من التفسيرات، لكن الخيط الرابط بينها واضح، وهو ترهيب السوريين وكسر إرادتهم في المقاومة. فعندما بدأ النظام باستخدام البراميل المتفجرة عام 2013 وما بعده، لم تكن دمشق تعاني من نقص في الذخيرة أو القدرات العسكرية.
ورغم امتلاك النظام القدرة على تنفيذ ضربات دقيقة تستند إلى معلومات استخباراتية ضد أهداف عسكرية، فإنه استمر في استخدام ذخائر غير دقيقة وعشوائية ضد المناطق المأهولة. ولم يكن الوحيد الذي يستخدم هذه الاستراتيجية؛ فجميع الأطراف المتحاربة، بما في ذلك من يحكمون سوريا اليوم، لجأوا إليها، وغالبًا ما كان الضحايا من المدنيين.
بدأ إنتاج البراميل المتفجرة في عام 2012 تقريبًا في منشآت تابعة لمصانع الدفاع العسكري الحكومية؛ حيث أُنشئت في مواقع متعددة داخل سوريا لسهولة التصنيع. ومن بين هذه المواقع: مصنع المواقد والغلايات في مصياف قرب حماة، وموقع اللواء 107 في البصة قرب غابة جبلة، وقاعدة المزة الجوية خارج دمشق. وكانت هذه الورش بدائية لكنها فعّالة، وتقع قرب مواقع عسكرية رئيسية تابعة للجيش السوري السابق.
كانت المواقد عبارة عن حاويات معدنية أسطوانية يتراوح ارتفاعها بين قدم ونصف إلى قدمين، وكان الجنود يستخدمونها سابقًا للتدفئة بالديزل. أما الغلايات، فكانت مشابهة في الشكل وتُستخدم لتسخين مياه الاستحمام في الثكنات. تم حشوها بالمتفجرات وتزويدها بقطع معدنية حادة مأخوذة من مخارط وزارة الدفاع، ثم أُضيف إليها صاعق ينفجر عند الاصطدام بالمباني أو الأرض، فتحولت هذه المدافئ البدائية إلى قنابل ضخمة مصنّعة بطريقة مرتجلة.
وأطلق مقاتلو المعارضة على الطائرات المروحية التي كانت تُلقي البراميل المتفجرة لقب “الركّاشة”، نسبة إلى صوت محركاتها القديمة الصاخب. وكانت هذه الطائرات المتقادمة والمتهالكة تُضفي على كل طلعة جوية شعورًا بالخطر، إذ أضيف احتمال العطل الميكانيكي إلى خطر التعرض لنيران العدو. ويقول الدوري: “كنت أخشى أن تسقط الطائرة بسبب خلل مفاجئ أكثر من خوفي من أن تصيبنا صواريخ التاو المضادة للدروع. كنا نحلق على ارتفاع يزيد عن 2 كيلو مترين “6560 قدمًا، ما زاد من احتمالية سقوطها”.
وبحلول منتصف عام 2017، ومع نفاذ الذخائر، يعترف الدوري: “بدأ الجيش باستخدام حواجز الطرق، وهي عبارة عن ألواح خرسانية ضخمة. جمعناها من حماة ومصياف، وكان على العمال في تلك المدن تحميلها على الشاحنات ونقلها إلى قاعدة حماة الجوية لاستخدامها كذخيرة بديلة.”
ويؤكد أحد سكان ريف إدلب الرواية: “سقط أحد تلك الألواح على مبنى عائلتي المؤلف من خمسة طوابق. واخترق السقف حتى الأرض، وشطره إلى نصفين. وبمحض الصدفة، لم يكن أحد داخل المبنى، لكننا فقدنا كل شيء”.
وكانت هناك روايات موثقة أكثر فظاعة عن استخدام ألغام بحرية مضادة للغواصات كبراميل متفجرة؛ حيث جرى سحبها من مخازن البحرية تحت إشراف ضباط بحريين، ورفعها إلى الطائرات المروحية لإلقائها من الجو. السبب يعود إلى أنه تم إخراج أسطول الغواصات السوري وسفن كاسحات الألغام من الخدمة بحلول منتصف 2015، وأصبحت زوارق الدورية غير صالحة للاستخدام. ومع عدم وجود سفن لنشر أو إزالة الألغام، تم تحويل مخزون البحرية إلى حرب البراميل. وكان وزن كل لغم نحو 2,000 رطل ومعبّأ بمادة سي-4. وقد جرى نقله من مستودع سَقوبين البحري، برفقة ضابط بحري كان يصعد إلى الطائرة لتجهيزه وإطلاقه.
بنهاية عام 2013، لم يكن قد أُلقي سوى عدد محدود من البراميل، لا يتجاوز ستة أو سبعة. لكن بحلول عام 2014، توسّعت العمليات وانضم المزيد من الطيارين وأصبحت الطلعات الجوية روتينية؛ حيث كانت كل طائرة تُكلّف بإلقاء برميل واحد.
ويتذكر الدوري مهمته الأولى: “أتذكرها بوضوح؛ فقد أقلعنا من قاعدة بلي العسكرية في التاسعة صباحًا، يوم 25 فبراير/ شباط 2014. وكنت أقود طائرة روسية من طراز مي-16، وكان معي اثنان من أفراد الطاقم”.
وفي تلك الطلعة، كما في كثير من الطلعات التي تلتها، همس الدوري بآية من القرآن: “وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين”، وكان يقصد بها البرميل المتفجر. وقد فعل كثير من الطيارين الشيء نفسه، متمسكين بالآية كنوع من الطمأنة الذاتية، مقنعين أنفسهم بأنهم ليسوا وحوشًا، بل محاربون يقاتلون “وحوش التمرّد” الذين دمّروا البلاد.
وعلى الجانب الآخر، كان مقاتلو المعارضة يستشهدون بآية مختلفة لتبرير قصفهم للمدن بالهاون والصواريخ: “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”، وفي روايتهم، كانوا مجرد أدوات للعدالة الإلهية، يضربون الطغيان.
ويتابع الدوري: “حلّقنا عشر دقائق جنوبًا، نحو مدينة طفس في محافظة درعا، حتى وصلنا إلى الإحداثيات المحددة. الهدف كان منزلًا يُقال إن عدة إرهابيين كانوا مجتمعين فيه. جاء الأمر شفهيًا من قائد القاعدة، مع تعليمات صارمة بتنفيذ المهمة بسرعة قبل انتهاء الاجتماع”.
وفي الساعة 9:08 صباحًا، كانت الطائرة تحلق فوق المنزل على ارتفاع 2,600 قدم. ثبّت الدوري الطائرة، وقام الطاقم بتجهيز الصاعق ودفع البرميل إلى الخارج. وبعد دقيقتين، في الساعة 9:10، دوّى انفجار هائل في الأرض أدناه، اهتزت معه الطائرة وامتلأت السماء بالدخان، “لقد تم تنفيذ المهمة بنجاح”.
هنا يتوقف الدوري قليلًا، ثم قال: “لم أتخيل يومًا أنني سأرى منازل تنفجر وتنهار بهذه الطريقة”، مضيفًا أنه لم يتابع التقارير الإعلامية لاحقًا لمعرفة حجم ما فعله. وكل ما يعرفه أن تسعة أشخاص قُتلوا، ولم يشاهد يومًا صور الدمار الناتج عن تلك الغارة.
ومع مرور الوقت، انتشر استخدام البراميل المتفجرة من درعا إلى ريف دمشق، ثم إلى حلب وحمص. وبين عامي 2012 و2018، وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 11,000 برميل متفجر، أسفرت عن مقتل آلاف المدنيين وتهجير مئات الآلاف. كما لجأ النظام إلى تكتيك قاسٍ للغاية يُعرف بـ”الضربة المزدوجة”؛ حيث يتم إسقاط البرميل الأول، ثم الانتظار لبضع دقائق، قبل أن يُقصف الموقع نفسه مجددًا، مستهدفًا من هرعوا لإنقاذ المصابين.
وقد كانت حلب الشرقية الأكثر تضررًا؛ إذ غُطّيت أحياء مثل الباب والأنصاري بالبراميل، ما خلّف مئات الضحايا من النساء والأطفال والعائلات، تم سحقهم الركام. وكان القصف عشوائيًا بالكامل، لا يفرّق بين مقاتل ومدني. وقد تحوّلت حلب الشرقية إلى كابوس وجحيم حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ حيث أُطلقت أكثر الأسلحة وحشيةً وعشوائيةً وحارقة.
وفي 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، أفادت منظمة الصحة العالمية بمقتل ما لا يقل عن 377 شخصًا في حلب الشرقية خلال بضعة أيام فقط، على يد القوات السورية والروسية. وفي أعقاب تلك الضربات، انسحبت فصائل المعارضة من المدينة، تنفيذًا لأوامر تركية بالانتقال إلى إدلب مع انطلاق عملية “غصن الزيتون” في الشمال.
وأوضح الدوري: “ما جعل البراميل المتفجرة في حلب أكثر تدميرًا من غيرها، هو أننا اضطررنا لإلقائها من ارتفاعات أعلى لتفادي صواريخ مانباد المحمولة على الكتف، التي حصلت عليها المعارضة بعد عام 2013، وهذا جعل الضربات أكثر عشوائية، وأكثر فتكًا بالمدنيين”.
وكانت صورة البلاد وهي تتحول إلى أنقاض مرعبة. ومع ذلك، وجد السوريون وسط هذا الدمار مساحة للسخرية السوداء؛ إذ تُروى نكتة من حمص عن رجل أعور ذهب للتطوع في الجيش السوري، فقال له المجنّد إنه غير لائق للخدمة: فبعين واحدة لا يمكنه التصويب بالبندقية، فردّ الرجل: “أنا جئت لأتطوع في القصف العشوائي”.
يتذكر الدوري حادثة وقعت في منتصف عام 2013، حين كان برتبة مقدم: “وصلتنا معلومات استخباراتية تفيد بأن تركيا أرسلت شحنة أسلحة إلى إحدى مجموعات المعارضة في بلدة سلقين بمحافظة إدلب. اتصل بي العقيد سهيل الحسن وكلفني بمهمة تدمير الشحنة قبل أن تصل إليهم.”
في ذلك الوقت، كان الحسن قائدًا ميدانيًا لوحدات العمليات الخاصة التابعة لسلاح الجو، ويتمتع بسلطة واسعة على الطيارين، وكان هو من ينظم حملات القصف بالبراميل المتفجرة. وقد برز بالفعل كأحد أبرز القادة العسكريين في الحرب، إذ قاد معارك كبيرة على جبهات متعددة. وفي أواخر عام 2015، رُقي إلى رتبة لواء، بعد أن رفض سابقًا الترقية إلى رتبة عميد.
ويصف الدوري تلك الطلعة الجوية قائلًا: “أقلعت من قاعدة حماة الجوية ومعي برميل متفجر، وتوجهت نحو سلقين. كانت الرحلة قصيرة، استغرقت حوالي عشر دقائق. وعندما اقتربت من البلدة، رأيت قافلة من المصابيح الأمامية تتحرك على طريق فرعي. وكانت ليلة صافية، وكنت أملك الإحداثيات التي سيتم تفريغ الأسلحة فيها. حلّقت فوق الموقع من مسافة بعيدة، ثم تراجعت للانتظار. وبعد أربع دقائق، ارتفعت مجددًا، ووصلت إلى الإحداثيات، وأسقطت البرميل. لقد كان الانفجار مرعبًا؛ حيث دمّر الشحنة والمقاتلين والمستودع بأكمله. وعندما تأكدت من نجاح المهمة، عدت إلى القاعدة.”
عند الهبوط، كان الحسن بانتظاره؛ حيث استطرد قائلاً: “حيّيته قائلًا: “أمرك سيدي!” فاحتضنني وقال: “أنت سيدي، وسيد سيدي”. ثم سلّمني ظرفًا بداخله 50,000 ليرة سورية، أي نحو 250 دولارًا في ذلك الوقت، وهو ما يعادل أربعة أضعاف راتب الطيار الشهري.”
كانت مكافأة كل طلعة جوية تتراوح بين 25,000 و50,000 ليرة. وبحلول عام 2012، خلق هذا النظام منافسة شرسة بين الطيارين الراغبين في تنفيذ المهام تحت قيادة الحسن؛ إذ كان وحده يملك سلطة إصدار أوامر الإقلاع.
وبحسب الدوري، ففي عام 2013، وضع رامي مخلوف، ابن خال الأسد ورجل أعمال بارز، حسابًا مصرفيًا يحتوي على ملايين الليرات تحت تصرف الحسن. ومن هذا الحساب، كان الحسن يوزّع الأموال على الطيارين، وهي مبالغ ضخمة مقارنة برواتب الدولة الهزيلة. وأضاف الدوري: “أحد الطيارين اشترى سيارة كيا سيراتو فقط من مكافآت سهيل. وبالمناسبة، كان الطيارون من جميع الطوائف السورية”.
بعد أسبوع من مغادرته بغداد متجهًا إلى موسكو، حذف الدوري قناة التليغرام التي كنا نتواصل من خلالها لما يقارب الشهر. وكانت رسالته الأخيرة أشبه باعتراف: “كنت أقلع من قاعدة إسطامو الجوية، وفي طريقي إلى تنفيذ المهمة كنت أمر فوق منزل خطيبتي. كانت تنتظرني على السطح، تراقب السماء، وتتابع الطلعات حين كنت أحمل البراميل في الطائرة عام 2014 وما بعده. خمس عشرة دقيقة فقط، كانت كافية لأصل فوق منزلها، ثم أتابع طريقي نحو المهمة مع البراميل”.
واختتم رسالته بكلمات اعتذار: “اليوم، بعد كل ما حدث، لم يبقَ في قلبي ما يبرر الطيران، أو ما يمنحني عزاءً في هذا البلد الذي دمّره أهله، ونحن منهم. أعتذر لكل سوري قتلتُه أو أصبتُه، حتى إن لم أكن من ضغط على الزناد، فقد كنت جزءًا من آلة الموت هذه. سامحوني”.
المصدر: نيولاينز