في نهاية فبراير/ شباط 2025، أرسلت وكالة التعاون الأمني الدفاعي الأمريكية إلى الكونغرس إخطارًا رسميًا حول صفقة جديدة مع “إسرائيل”، تتضمن جرافات ضخمة من إنتاج شركة “كاتربيلر” (Caterpillar)، التي تُعرف بالعبرية باسم “دوبي” أو “الدب تيدي”، سيُحصَّن بعضها بدروع خاصة أو يُعدَّل ليُستخدم بشكل مستقل دون سائق، على غرار النسخة المسماة “باندا” التي طوَّرها جيش الاحتلال، وأدخلها الخدمة عام 2018.
الصفقة التي تصل قيمتها إلى نحو 300 مليون دولار لم تُعرض كـ”معدات حرب”، بل جرى تسويقها على أنها “معدات هندسية”، ما سهّل تمريرها ضمن قوانين تصدير الأسلحة الأمريكية، بل إن الخارجية الأمريكية منحتها توصيف “حالة طارئة”، ما أعفاها من إجراءات مراجعة الكونغرس المعتادة، وفتح الباب لـ”إسرائيل” لتسلمها بحلول عام 2027 دون عوائق سياسية.
وإذا كان السؤال المطروح: ما الذي ستفعله “إسرائيل” بكل هذه الجرافات بعدما منحتها واشنطن غطاءً سياسيًا واقتصاديًا؟ فإن الإجابة تقود مباشرة إلى غزة، حيث تدور هناك حرب مدمرة منذ قرابة العامين، تحولت خلالها هذه الالة من مجرد أداة مدنية للبناء، إلى أسلحة استراتيجية بامتياز، وتحوّلت نشاطاتها إلى تجارة مربحة وسياسة ممنهجة لإعادة تشكيل الجغرافيا وتطويع ذاكرة الفلسطينيين.
من آلة مدنية إلى سلاح عسكري
في ظاهرها، تقف الجرافة كرمز للبناء وشق الطرق وإقامة البنية التحتية، لكن في سياق الحروب والممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، تحوّلت تدريجيًا من أدوات بناء في يد الاحتلال إلى رمز عسكري وسياسي لمشروع استيطاني، يتغذى على اقتلاع البيوت، وردم الأنفاق، ومحو الطرقات، والسيطرة على السكان، ومسح ذاكرتهم.
منذ الأيام الأولى لاحتلال عام 1967، تحوّلت الجرافات والآلات الثقيلة إلى أذرع عسكرية لفرض واقع جديد على الأرض الفلسطينية، بها رُسمت خرائط الاستيطان غير الشرعي، وأُقيمت الجدران التي تفصل القرى عن بعضها، وتقطع أوصال المدن، في عقاب جماعي يهدف إلى كبح تطور المجتمع الفلسطيني وإعادة تشكيل ملامح المكان بما يخدم أهداف الاحتلال الاستيطانية.
مشاهد هدم متكررة.. جرافات الاحتلال تهدم منازل الفلسطينيين في #مخيم_نور_شمس بطولكرم، وسط استمرار الاعتداءات. pic.twitter.com/HYm6xQ0vFB
— نون بوست (@NoonPost) March 3, 2025
لم يكن هذا التحوّل مجرد صدفة تقنية، بل نتاج قرار استراتيجي دمج بين الحاجة لمواجهة الأنفاق والبيوت المفخخة، وبين مشروع أشمل جعل من التجريف أداة عسكرية صلبة لإسقاط بيوت كاملة على ساكنيها أو لتفريغ أحياء كاملة من سكانها، وأحيانًا طقسًا يُظهر السيطرة، ويشرعن التغيير الديمغرافي.
ومنذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية ومعارك مثل جنين عام 2002، برزت الجرافة كجزء مما يُعرف بـ”العقيدة الهندسية” لجيش الاحتلال، حيث تُعدَّل لتصبح مدرَّعة أو تُدار عن بُعد، وتُدفع أمام الدبابات والمشاة لفتح الطرق، وتُستخدم لدفن مواقع أو إغلاق أنفاق، بل وتُشغَّل أحيانًا عن بُعد لتقليل المخاطر على الطواقم.

لاحقًا، لم تعد الجرافة مجرد وسيلة تمهيد أو إزالة عوائق، بل صارت رسالة سياسية وأداة ردع نفسية من خلال هدم منازل قيادات أو عائلات معروفة، ففي حروب غزة (2008–2009، 2014، وما تلاها) لعبت دورًا مزدوجًا: تقنيًا في كشف الأنفاق، ورمزيًا في تفريغ الأحياء وإظهار الأرض وكأنها صفحة بيضاء قابلة لإعادة التصميم.
تقديرات ما بعد حرب 2014 أشارت إلى سياسة التجريف هذه تركت وراءها آلاف المنازل المدمرة ومئات الآلاف بلا مأوى، ما جعل أثرها يتجاوز الخسائر المادية إلى مسّ الذاكرة والهوية الجماعية.
وسمحت الطبيعة المدرَّعة والمعدَّلة لهذه الجرافات لجيش الاحتلال بتوظيفها في مهام أمام المدنيين، وأثار هذا الاستخدام الممنهج جدلًا حقوقيًا وأخلاقيًا واسعًا، خاصة بعد شهادات جنود ومنظمات دولية تحدثت عن عمليات هدم لم تراعِ الحد الأدنى من قواعد الحرب، كما استهدفت ناشطين محليين وأجانب حاولوا وقف عمليات التجريف.
هذا التلاقي بين فعالية الآلة المدنية ومحدودية الضوابط القانونية يجعل الجرافة أداة ذات حمولة سياسية أكبر من حملها الميكانيكي. ومع مرور الوقت، تحوّلت الآلة نفسها إلى ما يشبه طقس سياسي عسكري، يُظهر القدرة على السيطرة وتبعث بالذعر، وفي الوقت نفسه تشرعن تغييرات مكانية طويلة الأمد.
التجريف كطقس جماعي
في حرب المدن، كما في غزة، لم تعد الجرافات مجرد آليات ميكانيكية، بل أدوات هجينة تجمع مشروع استيطاني يسعى لفرض واقع جديد على الأرض، وتكتيكات الحرب الحضرية، حيث تتقدم الصفوف لفتح الطرق أمام القوات البرية، وتفكيك الكمائن والعبوات، وتوفير درع واقٍ للجنود الذين يسيرون خلفها.
وفي الحرب الأخيرة، خرج الهدم من دائرة الإنكار، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 70% من مباني القطاع دُمّرت أو أصيبت بأضرار جسيمة جعلتها غير صالحة للسكن، باعتراف وسائل إعلام إسرائيلية.
ورغم تبرير جيش الاحتلال بأن المنازل تُستخدم كمداخل للأنفاق، فإن هذه الرواية لم تُقنع المجتمع الدولي، خاصة مع تراكم سوابق التضليل، مثل الادعاء بوجود مقر لحماس أسفل مستشفى الشفاء.
ورغم رفض “إسرائيل” دخول أي لجنة تحقيق مستقلة، فإن أدلة التجريف لم تعد خافية، بعدما تكشفت ملامح سوق جديدة يتقاطع فيها الربح الفاحش مع الدم والدمار، وتُعرض تفاصيلها علانية بوضوح على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تُقدَّم عروض لمشغّلي جرافات ومعدات هندسية متخصصة، لكن هذه الإعلانات لم تكن تستهدف الجنود، بل السائقين والمقاولين المدنيين ومالكي الجرافات، للمشاركة في عمليات هدم واسعة في القطاع، مقابل رواتب مغرية تصل إلى 1500 دولار عن كل منزل مُهدم، وتزداد مع حجم المبنى وطوابقه.
When genocide becomes a Facebook job ad:
A New Yorker is looking to hire a bulldozer operator with “demolition” experience to help flatten Gaza.
The job? Destroy homes.
The pay? 1,500 shekels a day (about $420). pic.twitter.com/xGB1csF2Zl
— Younis Tirawi | يونس (@ytirawi) June 2, 2025
المشهد يكتمل حين ندرك أن هذه الإعلانات لا تُخفي طبيعتها الحربية، فكل ذلك يجري تحت إشراف مباشر من وزارة الدفاع الإسرائيلية، حيث تدخل شركات البناء والبنية التحتية الكبرى بدورها بفرقها تحت حماية جيش الاحتلال، لتشارك في عمليات الهدم الممنهج، في مشهد يحوّل الهدم إلى صناعة قائمة بذاتها، تتغذى على تدمير بيوت الفلسطينيين وتشريدهم.
وتشير بيانات العروض المقدمة في الأشهر الأخيرة لهذه الشركات الإسرائيلية، إلى أن وزارة الدفاع تعاقدت مع أصحاب معدات البناء الثقيلة، مع تحملها تكاليف نقل المعدات إلى غزة، ومع ازدياد عدد المباني التي يتم هدمها في غزة، تزداد أرباح أصحاب هذه المعدات.
وفي يوليو/ تموز 2025، نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية تحقيقًا كشف أن الهدم لم يعد شأنًا عسكريًا صرفًا، بل أصبح ساحة مفتوحة، ومصدر ثروة للمقاولين المدنيين الباحثين عن الربح السريع، ومكان للثأر الشخصي، يدفع المدنيون الفلسطينيون ثمنه المباشر.
التحقيق يوثّق كيف تُدار صفقات التجريف، حيث يشير استعراض إعلانات الوظائف التي سمحت شركة “ميتا” لها بالانتشار، إلى أن الزيادة في الطلب على مشغلي المعدات الثقيلة بدأت بشكل ملحوظ منذ مايو/ أيار الماضي، بعدما أعلن جيش الاحتلال على موقعه أن “كل قائد يريد بجانبه في ساحة المعركة جرافة قوية ومشغّل مدرَّب”.
ولذلك، أُنشئت دورات عاجلة لتدريب مشغّلين جدد في الخطوط الأمامية، لكن هذا التوجه أثَّر على قطاع البناء داخل “إسرائيل”، إذ أُجلت مشاريع بنى تحتية بسبب سحب المعدات واليد العاملة نحو غزة، ما خلق فجوة كبيرة في السوق المحلية.
لكن البُعد الأخطر أن التجريف تحوّل إلى ما يشبه “طقسًا جماعيًا”، إذ لم تكتفِ “إسرائيل” بتجنيد جيشها، بل دفعت المجتمع بأسره للمشاركة بطرق مختلفة في عمليات الهدم والاقتلاع والقتل والتهجير، عبر مزيج من الحمية الصهيونية، والرغبة في الانتقام والربح السريع، لتتحول الجرافة إلى رمز يجمع بين العقيدة والربح.
هذا الواقع يظهر جليًا في عشرات الإعلانات التي تتضمن عروضًا مغلفة بصيغة تجارية عادية، وأحيانًا بلُغة دينية لتشجيع مزيد من الإسرائيليين للمشاركة في أعمال الهدم، مع امتيازات كاملة وأموال مغرية تصل إلى 900 دولار في اليوم الواحد، لتُحول عمليات التجريف إلى سوق مربحة، يحقق من خلالها “سائقو الجرافات” ثروات على حساب دم الفلسطينيين وركام بيوتهم.
هذه المبالغ الطائلة التي تُعرض على المقاولين والسائقين لتشغيل الجرافات في غزة تفوق بكثير ما قد يحصل عليه أحدهم في ظروف العمل العادية، ولذلك تُقدَّم الأجور هنا كأداة للإغراء المباشر، ووسيلة للانخراط في آلة الحرب، بحيث لا تبقى قيادة الجرافة العسكرية حكرًا على الجنود، بل تتحول إلى وظيفة مدنية تُسوَّق كجزء من “المجهود الوطني”.
هدم منازل الفلسطينيين كتجارة مربحة
على الأرض، تختفي الحدود التقليدية بين المدني والعسكري، بين وظيفة الرزق وقرار الحرب، حيث تشير تقارير عدة إلى أن شركات مقاولات إسرائيلية ارتبطت بآليات توظيف جنود احتياط كبار في السن، بحيث يُستدعون مباشرة إلى الميدان كمشغلي جرافات ومعدات، مع عدم وجود مدة زمنية واضحة لتسريحهم، رغم استغناء الجيش عن نظرائهم في وحدات المشاة والمدرعات.
وفقًا لأستاذ القانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة كوين ماري بلندن، البروفيسور نيڤ غوردون، يمكن وصف ذلك بأنه “خصخصة لعمليات التجريف في إطار مشروع إبادة ممنهج”، فالتجريف لم يعد يتعلق بهدم منزل أو اثنين، بل بمحو أحياء وبلدات كاملة.
حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش من خطر انعدام الأمن الغذائي وفقدان سبل العيش في قطاع #غزة المنكوب مستدلة بصور أقمار صناعية تُظهر آثار تجريف الاحتلال الإسرائيلي للبساتين، والخيم والأراضي الزراعية شمالي القطاع#غزة_تحت_القصف pic.twitter.com/1R8qeyB90Z
— نون بوست (@NoonPost) December 16, 2023
الإعلام الإسرائيلي بدوره أعاد إنتاج هؤلاء المشغلين كأبطال ورموز وطنية يُكرَّمون على ما يفعلونه في ساحات الهدم، في مشهد يلخص الاندماج في مشروع التجريف، فالمقاولون الذين يعملون لدى وزارة الدفاع، ويدخلون غزة بجرافتاتهم، ليسوا مجرد أفراد يسعون للرزق، بل جزء من ماكينة حرب تستعين بالمدنيين بعقود خاصة لتشغيل الجرافات، بسبب نقص الكوادر العسكرية والسائقين والمعدات، للقيام بمهام عسكرية كانت تقليديًا من اختصاص جيش الاحتلال الذي عادة يستعين بجنود احتياط في غزة وسوريا ولبنان.
لكن الأكثر فداحة يتجلى في الشهادات الميدانية التي تؤكد هذا التحول بوضوح مرعب وتكشف حجم الانزلاق الأخلاقي، ففي واحدة من المقابلات، لم يتحدث أحد مشغّلي الجرافات الإسرائيليين عن رهان سياسي ولا عن منطق عسكري، بل عن إحساس فني غريب، قائلاً “أشعر أنني أعزف على الجرافة. أنتم لا تفهمون ما معنى أن تهدم بناية من سبعة طوابق ثم ستة ثم خمسة. في أسبوع واحد كنت أهدم بمعدل خمسين بيتًا. إنه فن تعلمناه”.
هذه الشهادة تختزل كيف تحوّل فعل الهدم والاقتلاع إلى ما يشبه أداء فني يتباهى به منفّذوه، بينما يختفي خلف هذا “العزف” مصير عائلات كاملة تُمحى بيوتها من الوجود بكل ما تحمله من حياة وذاكرة ودفء إنساني، وتتحول مآسي الفلسطينيين إلى تجارة مربحة تُسعّر الخراب الفلسطيني بالدولار.
ولأن الجرافة تبدأ مهمتها حيث انتهى القصف، فتهدم البيوت وتمنع العودة، فإن الهدف النهائي لهذه السياسة بات واضحًا، فالخطط المعلنة تكشف عن سعي جيش الاحتلال للسيطرة على 75% من غزة، وتدميرها بالجرافات والقنابل، مع حشر جميع سكان غزة في النسبة المتبقية من الأراضي، وتحديدًا منطقة المواصي، لإضعافهم ودفعهم إلى الرحيل أو تركهم يموتون جوعًا، وذهب وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس أبعد من ذلك معلنًا نية إنشاء “معسكر اعتقال” على أنقاض رفح، تمهيدًا للتهجير القسري.
غزة كحقل تجارب لشركاء التجريف
بالعودة إلى القرن التاسع عشر، نجد أن مصطلح “البلدوزر” (bulldozer)، أي الجرافة، لم يكن في بداياته اسمًا لآلة هندسية كما نعرفها اليوم، بل وُلد كتعبير سياسي عن العنف العنصري المنظم والقوّة الغاشمة والاضطهاد الموجَّه تجاه السود، خصوصًا في الجنوب الأمريكي، وفق ما يشرح رالف هارينغتون في مقالته “منظر بالجرافة: الآلات والحداثة والبيئة في بريطانيا ما بعد الحرب”.
لاحقًا، مع مطلع القرن العشرين، انتقل المصطلح إلى مجالات الزراعة والتعدين، لكنه حمل معه ظلال القوة المفرطة وإعادة تشكيل البيئة الماديّة واستغلالها بالقوة. منذ ذلك الحين، ارتبطت الجرافة بمعانٍ مزدوجة: مدنية في ظاهرها، لكنها عسكرية وسياسية في جوهرها.
عرض هذا المنشور على Instagram
الرمزية لم تقتصر على الآلة، بل طالت الأشخاص أيضًا فأحد ألقاب عرّاب الاستيطان، أرييل شارون، كان “البلدوزر”، في إشارة مباشرة إلى القوة العمياء التي ميَّزت مشروعه السياسي والعسكري، فقد صاغ رؤية شاملة للسيطرة على البيئة الحضرية الفلسطينية، مستخدمًا الجرافات لتغيير النسيج العمراني بشكل ممنهج، بدءًا من قيادته للوحدات المدرعة عام 1948، وصولاً لرئاسته للوزارات الدفاع والزراعة بين 1977 و1981، وحتى توليه رئاسة الحكومة خلال الانتفاضة الثانية.
هذا البعد المزدوج انعكس بوضوح مع شركة “كاتربيلر” التي لم تكن مجرد مورّد للآلات الثقيلة، بل اسم ملازم لسياسة الهدم الإسرائيلية منذ عقود. وبحلول 1954، أنتجت الشركة نموذجها الشهير “دي 9“، وهو الطراز المدرَّع الذي صار جزءًا أساسيًا من المشهد العسكري الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، إذ لم يُستخدم فقط لفتح ممرات آمنة، بل لفرض تغييرٍ في المشهد المادي والبشري، من الهدم والتدمير والتجريف إلى إخراج مدنيين بعنف من أماكنَ سكنهم.
هناك أيضًا جرافة أخرى تصنعها الشركة الأمريكية، وهي الجرافة العملاقة المعدَّلة “دي 9 أر”، المعروفة بـ”تيدي بير“، التي تمثل إحدى أهم أدوات سلاح الهندسة القتالية الإسرائيلي، وعلَّقت عليها “إسرائيل” آمالاً كبيرة خلال الاجتياح البري لغزة في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لاستخدامها في امتصاص النيران، وتمهيد الطريق عبر الشوارع المزدحمة والأزقة الضيقة، لكن زيادة وزنها 15 طنًا إضافيًا جعلها أقل حركة وأكثر عرضة لاستهداف قذائف تستخدمها حماس بشكل متكرر.
ويمتلك جيش الاحتلال حاليًا حوالي 100 قطعة منها، شاركت في الهجوم الإسرائيلي على غزة 2008-2009، وتعد فصلاً جديدًا في تاريخ اعتماد “إسرائيل” على الجرافات عسكريًا، التي بدأت باستعمالها في العمليات العسكرية من سيناء إلى لبنان، منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

ليست “كاتربيلر” وحدها في المشهد، فخلف كل جرافة تهدم بيتًا في غزة تقف شبكة من الشركات العالمية العملاقة التي تبيع معداتها على أنها مدنية أو هندسية، لكنها تُحوَّل داخل “إسرائيل” إلى “وحوش مدرعة” عبر تغليفها بألواح فولاذية وتزويدها بأنظمة حماية متقدمة، لتصبح جزءًا من آلة الحرب والاقتلاع في الأراضي المحتلة.
على سبيل المثال، تورطت شركة “فولفو” السويدية في اقتلاع المنازل وشق الطرق العسكرية في غزة والضفة الغربية، ورغم محاولاتها التنصل من المسؤولية بالقول إن الاستخدام العسكري “خارج نطاق سيطرتنا”، فإن حفاراتها واصلت الظهور في مشاهد التجريف.
هذا النمط يرتبط بغياب صناعة محلية قادرة على تلبية الطلب، ما جعل السوق الإسرائيلية تعتمد منذ عقود على أسماء كبرى مثل بوبكات ودوسان وهايدروميك وهيتاشي وهيونداي وليبهير، وكلها ظهرت في السوق الإسرائيلية منذ عقود، وارتبطت بمشاريع استيطان وهدم وصفتها منظمات حقوقية بأنها شكل من أشكال “التواطؤ أو التساهل مع انتهاكات حقوق الإنسان”.
كما أن شركة “تريكس” الأمريكية شكّلت مثالاً مبكرًا على هذا الدور، فقد استُخدمت حفاراتها وشاحناتها في أوائل الألفية لهدم بيوت الفلسطينيين، وبناء جدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية، بل والمساهمة في بنية تحتية تخدم المستوطنات، لتجد هذه الشركات نفسها شريكة في مشروع دموي يُدار تحت جنازير آلياتها الثقيلة.
Rafah | today
Flattening the city continues uninterrupted by Israeli troops . pic.twitter.com/h4ibolM20Q
— Younis Tirawi | يونس (@ytirawi) November 2, 2024
ما يكشفه الربط بين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والشركات العالمية، أن سياسة التجريف لم تعد قرارًا عسكريًا وشأنًا محليًا إسرائيليًا فقط، بل تحوّلت إلى اقتصاد دولي يستفيد من بيع المعدات وصيانتها وتشغيلها، لتتحول الأرض الفلسطينية إلى ساحة ربحية وتجريبية على حد سواء.
وهكذا يصبح المقاول المدني الذي يهدم منزلًا في غزة جزءًا من حلقة أوسع، تبدأ في مصانع أمريكية وأوروبية، وتعبر عبر قرارات سياسية في واشنطن وبروكسل، ثم تنتهي بأنقاض في حي فلسطيني.
أيديولوجيا الاستيطان
وراء المكاسب المالية التي تحرك اقتصاد التجريف الإسرائيلي، يظل الدافع العقائدي حاضرًا بقوة، يكشف كيف يُحوَّل الهدم من نشاط ربحي إلى فعل أيديولوجي مشحون بالرمزية الدينية والاستيطانية.
هذا البعد يظهر بوضوح في مشاركة مجموعات مثل “فتية التلال“، وهي حركة شبابية استيطانية يمينية متطرفة أنشئت بتشجيع من وزير أمن الاحتلال آنذاك أرييل شارون، وتؤمن بإقامة “دولة يهودية” على “أرض إسرائيل الكبرى” عبر طرد الفلسطينيين، وتشكل أداة اعتداء وتهجير قسري لإقامة بؤر استيطانية على أنقاض قراهم.
وهناك أيضًا مجموعة أكثر تطرفًا على الأرض، وهي “قوة أوريا“، التي تضم جنود احتياط ومدنيين جُنِّدوا عبر شركات بناء مدنية خاصة، مقابل الحصول على مبالغ مالية مغرية، لكن دورها لم يقتصر على هدم المنازل والبنية التحتية في غزة، وتشغيل معداتها داخل القطاع، بل قدّمت عمليات التجريف باعتبارها رسالة استيطانية، ومزيجًا من الكسب والانتقام، وطقسًا عقائديًا يربط الأرض بالهوية.
ويتعامل أفراد الوحدة مع مسح أحياء سكنية بأكملها كأنها إنجازات تستحق الاحتفال، ويوثّقون بعض عمليات الهدم عبر بث مباشر على المنصات الرقمية، مغلِّفين الأفعال بخطاب ديني واضح، يصفونها بأنها “تنفيذ لإرادة إلهية” أو “محو الشر من على وجه الأرض”، في تحوير كامل لجوهر ما يجري من اقتلاع وتهجير.
ولمن يريد أن يدرك طبيعة هذا التحوّل، تكفي مشاهدة مقاطع الفيديو التي ينشرها على الإنترنت الجندي احتياط في لواء “جفعاتي”، والذي يعمل على تشغيل المعدات الثقيلة، أبراهام زيربيف، حيث يمزج بين المواعظ الدينية ومشاهد هدم المباني، ويروج للعمليات العسكرية غير القانونية والعنف الذي يتضمن تدمير منازل المدنيين والبنية التحتية، حتى اقترن اسمه بتدمير غزة.
3,
Rabbi Avraham Zarbiv admitted to personally destroying 50 Palestinian families homes every week in Rafah and Jabalia. pic.twitter.com/Z593po9rSr
— Warfare Analysis (@warfareanalysis) February 23, 2025
يمجّد هذا الحاخام الإسرائيلي المستوطن استخدام الحفارات في تدمير غزة باعتباره “أسلوبًا جديدًا في القتال يحمي أرواح الإسرائيليين”، ويتفاخر بعشقه لجرافته وهي تدمر مباني غزة، وفي أحد تسجيلاته، شبّه عمله في تفكيك أساسات المنازل بـ”هزّ أرجوحة حفيدته في روضة الأطفال”.
وخلال مقابلة تلفزيونية مع القناة 14 اليمينية المتطرفة، أقرّ زيربيب بأنه كان يقوم بهدم 50 منزلاً أسبوعيًا، وقد أبدى استعراضًا لجرائمه الحربية، وحظي بتصفيق الجمهور الإسرائيلي، وأعلن بفخر أن عشرات الآلاف من الأسر الفلسطينية أصبحت بلا مأوى ولا وثائق ولا ممتلكات، وأنهم لم يعد لديهم ما يعودون من أجله.
أمَّا مجموعة “قوة أوريا” – التي تستخدم حفارات وجرافات دون تدريب عسكري متخصص، وتحظى بحماية كلمة من جيش الاحتلال، واستمدت اسمها من مرجعية توراتية – فتعرّف نفسها بأنها “فريق معدات هندسية منتصر”، وتعلن أن كل عملية هدم تقوم بها ليست مجرد إجراء تقني بل “فعل رمزي للتحرير والاستيطان”.
ووفق ما كشفه موقع “همكوم هخي خام” الإسرائيلي، في 21 يوليو/ تموز الماضي، فإن الوحدة التي تأسست في ديسمبر/ كانون الأول 2024، ردًا على قرار إدارة بايدن بتجميد صفقة جرافات عسكرية، وبرز اسمها بقوة بعد استئناف الاحتلال عدوانه على غزة في مارس/آذار 2025، تجسد تقاطعًا مباشرًا بين العمل العسكري والأيديولوجيا الاستيطانية، إذ تنفذ عمليات هدم واسعة تحت غطاء الجيش دون مساءلة.

وفي أحد الطقوس الجماعية، وبمناسبة إحياء ذكرى مقتل الجندي أبراهام أزولاي الذي كان يعمل في تشغيل الآليات الثقيلة، نظمت المجموعة عملية هدم واسعة استهدفت 409 منزلاً في غزة، وتعاملت مع عمليات التدمير الممنهجة للمنازل باعتبارها تكريمًا وبعثًا للرسالة العقائدية.
وهكذا يتداخل الربح بالدين، وتُختزل حياة الفلسطينيين وبيوتهم في شعائر استيطانية، تُمارس تحت ستار عقيدة مقدسة، وتُسوّق كجزء من مشروع “إعادة تطهير الأرض”، فيما تتحول أنقاض المنازل إلى مسرح لاحتفال استيطاني جماعي.