بعد تسعة أشهر فقط على الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، عاد نحو مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، بحسب ما أعلنته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في 24 أيلول/سبتمبر 2025. كما عاد 1.8 مليون نازح داخلي إلى مناطقهم الأصلية منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي، في مؤشر واضح على تحوّل المشهد السياسي والأمني في البلاد، دون أن يعني ذلك بالضرورة تحسّن الظروف المعيشية.
رغم هذه الأرقام، لا تزال أزمة النزوح مستمرة على نطاق واسع، إذ يعيش أكثر من 7 ملايين سوري في حالة نزوح داخلي، بينما يقيم نحو 4.5 مليون آخرين كلاجئين خارج البلاد. لكنّ المفارقة تكمن في أن الرغبة بالعودة لا تزال قوية، فاستطلاع أجرته المفوضية مؤخرًا أظهر أن 80% من اللاجئين السوريين في دول الجوار – الأردن ولبنان ومصر والعراق – يريدون العودة يومًا ما، فيما قال 18% إنهم يخططون للعودة خلال العام المقبل.
خريطة عودة السوريين: من يَعود، إلى أين، ولماذا؟
في الأشهر الأخيرة، بدأت خريطة العودة السورية بالتشكل من جديد، لا وفق تخطيط رسمي ولا ضمن سياق تعافٍ اقتصادي أو مصالحة وطنية، بل بدافع الضرورة، وضيق الخيارات، والانهيار في بلدان اللجوء. ووفق بيانات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، عاد نحو مليون لاجئ سوري إلى بلادهم منذ الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، إضافة إلى 1.8 مليون نازح داخلي رجعوا إلى مناطقهم الأصلية منذ كانون الأول/ديسمبر 2024.
من بين هذه الدول، يُعتبر لبنان من أبرز نقاط انطلاق عودة اللاجئين السوريين، حيث تُنظم عمليات العودة بشكل متكرر ضمن ترتيبات حكومية رسمية. ووفق الأرقام الأخيرة، عاد أكثر من 200 ألف لاجئ من لبنان إلى سوريا خلال عام 2025 وحده، ما يشير إلى تحوّل لافت في طبيعة العلاقة السورية-اللبنانية، لا سيّما على صعيد التنسيق الأمني والإداري المتعلق بملف اللاجئين.
لكن إلى أين يعود هؤلاء؟ معظم العائدين يستقرون في المناطق الريفية والمُهمّشة، خصوصًا في محافظات درعا، ريف دمشق، دير الزور، وحمص. ويعود السبب في ذلك إلى كون هذه المناطق شهدت انخفاضًا نسبيًا في العمليات العسكرية في العام الأخير، إضافة إلى أنها الأقرب إلى الحدود مع دول الجوار مثل الأردن ولبنان، حيث يتركّز ملايين اللاجئين.
ومع ذلك، فإن ما ينتظر العائدين قد لا يقل قسوة عن المنفى، فالكهرباء غائبة لساعات طويلة، والمياه الصالحة للشرب نادرة، وأسعار المواد الأساسية تفوق القدرة الشرائية لمعظم العائلات. أما البنية التحتية فهي إما مدمرة أو مهملة تمامًا، والمدارس والمراكز الصحية في كثير من المناطق لا تعمل إلا جزئيًا، إن وُجدت أصلًا.
التحدي الأكبر، بحسب منظمات إغاثية محلية، هو الاقتصاد المنهار الذي لا يوفّر فرص عمل حقيقية، حيث تشير تقارير البنك الدولي إلى أن نحو 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، بينما تتجاوز نسبة البطالة بين الشباب حاجز 50%. أما من عادوا بمدخرات بسيطة من بلدان اللجوء، فيجدونها تتآكل سريعًا أمام التضخم وغلاء الأسعار.
محمد سلامة (34 عامًا) قضى تسع سنوات لاجئًا في لبنان، بعدما فرّ من القصير هربًا من ميليشيا حزب الله. قبل شهرين فقط، عاد عبر برامج “العودة الطوعية” التي تنظمها الحكومة اللبنانية. في البداية، بدت عودته محظوظة فمنزله لا يزال قائمًا ولم يتعرّض لدمار كبير، لكن الحظ توقف عند هذا الحد.
يقول محمد: “أبحث عن عمل منذ أشهر، بلا جدوى. وأقضي الأيام في أعمال زهيدة الأجر في البناء ونقل الأثاث لأن فرص العمل الحقيقي شبه معدومة، وإن وجدت فالأجور لا تتعدى بضعة دولارات. أطفالي أيضًا انقطعوا عن المدرسة هذا العام، لأن المدارس القليلة الموجودة لا تستوعب أعداد الأطفال العائدين. ننتظر أن تُبنى مدارس جديدة في العام المقبل، لكن الانتظار وحده لا يعلّم الأطفال”.
عثرات وتحديات العودة: الأرض المفخخة
ليست كل الطرق إلى الوطن معبّدة بالحنين، بعضها مفخّخ حرفيًا. فبالنسبة لآلاف السوريين العائدين إلى مناطقهم بعد سنوات من النزوح، لا تبدأ المعاناة عند فقدان البيت أو غياب الخدمات، بل عند أول خطوة على أرض ملوثة بالموت الصامت.
تُشير بيانات برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام (UNMAS) إلى أن سوريا شهدت منذ كانون الأول/ديسمبر 2024 أكثر من 1,000 حالة وفاة ونحو 1,400 إصابة نتيجة حوادث متفجرات. وتُعزز هذه الأرقام تقارير أخرى صادرة عن “مجموعة العمل المعنية بالألغام” (MA AoR)، والتي وثّقت 364 حادثة مرتبطة بذخائر متفجرة في مختلف أنحاء البلاد خلال نفس الفترة، أوقعت مئات الضحايا، كثير منهم أطفال أو مزارعون عادوا إلى أراضيهم دون أن يعرفوا أنها تحوّلت إلى حقول موت.
كما وثّقت “هيومن رايتس ووتش” مقتل أو إصابة أكثر من 600 شخص بالألغام والمخلفات الحربية خلال الأشهر التي تلت التحول السياسي الأخير. وتشير تقارير ميدانية إلى أن محافظات مثل حلب، دير الزور، إدلب وريف دمشق هي الأكثر تضررًا، خاصة في المناطق الزراعية والقرى التي عاد إليها السكان بأعداد كبيرة.
وتؤكد “منظمة أطباء بلا حدود” إن العائدين غالبًا لا يملكون معلومات دقيقة عن مواقع الخطر، ويدخلون إلى منازلهم أو أراضيهم الزراعية دون أن يعلموا ما ينتظرهم تحت الأرض، لأن الخطر لا يقتصر فقط على الحقول المهجورة، بل في الطرق الفرعية، وداخل الأبنية المتروكة، وحتى في محيط المدارس.



العوامل السياسية: غياب الضمانات
لم تكن السياسة يومًا على هامش قرار العودة إلى سوريا، بل في صلبه، فرغم التبدلات التي طرأت على المشهد السياسي بعد سقوط نظام الأسد، إلا أن بيئة العودة ما زالت تفتقر إلى عنصر الأمان ألا وهو الأهم.
الجنوب السوري، الذي كان تاريخيًا ممرًا آمنًا لعودة النازحين، بات اليوم أحد أكثر المناطق ترددًا في العودة إليها، فالغارات الإسرائيلية التي تستهدف مساحات واسعة من الجنوب السوري في درعا والقنيطرة، باتت شبه يومية، وتطال كثيرًا المناطق السكنية والطرق المدنية، كما تعتدي على البيوت بحجة البحث عن أسلحة. عدا عن إقامة نقاط مراقبة إسرائيلية عدة في محيط القنيطرة.

في جباتا الخشب بالقنيطرة، تحكي أم خالد القاسمي، أرملة خمسينية عادت مع أبنائها من مخيم الأزرق في الأردن: “كنت أظن أن العودة ستُنهي سنوات التعب والحاجة، لكن يبدو لي أن كل شيء قد بدأ من جديد. بيتنا مهدّم، ونعيش منذ أشهر في منزل أقاربنا. ولا كهرباء ولا ماء إلا نادرًا. أما خوفي الأكبر فهو على أولادي فكلما سمعنا عن مداهمة جديدة، يزداد رعبي من أن يعتقلهم الاحتلال وأن يختفوا في سجون إسرائيل”.
وحين سألتها عن سبب عودتها في ظروف كهذه، قالت بعد تفكير: “المخيم لم يعطنا فرصًا للحياة، بالأخص للشباب والفتيات. يمكنني تشبيهه بسجن واسع قليلًا. وأنا تقدم بي العمر ولم أعد أحتمل البُعد عن قريتي. لو أراد أبنائي العودة للأردن لانعدام فرص العمل هنا، فلن أقف في طريقهم، ولكنني لن أذهب معهم هذه المرة”.

تقرير صادر عن “هيومن رايتس ووتش” في سبتمبر/ أيلول الجاري، وثّقت فيه ما وصفته بانتهاكات ممنهجة ترتكبها القوات الإسرائيلية في مناطق سورية تحتلها منذ أواخر عام 2024. ويشير التقرير إلى عمليات تهجير قسري طالت سكان قرى جنوبية، وهدم منازل، ومصادرة ممتلكات، فضلاً عن نقل غير قانوني لمحتجزين سوريين إلى داخل “إسرائيل”، في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني، ما يجعل الاستقرار في الجنوب السوري هش وغير مضمون.
في المحصلة، تبدو العودة إلى سوريا، رغم أعدادها المتزايدة، أشبه بعبور نحو المجهول. فالأرقام التي تُظهر رجوع مئات الآلاف تخفي وراءها واقعًا هشًّا، من بيوت مهدّمة، إلى مدارس مغلقة، إلى أرض مزروعة بالألغام، وصراعات إقليمية مفتوحة.
وحسب تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنترست” فإن أي نجاح لعودة واسعة ومستدامة مرهون بخطة حكومية مدعومة بتمويل دولي قوي، وبآليات رقابة وإسناد سياسي حقيقي. وحتى الآن يمكن القول أن ما رُصد من مساعدات – سواء من دول الخليج أو الاتحاد الأوروبي – لا يزال أقل من المطلوب بكثير.