بمشهد استعراضي لا تغيب عنه بروباغندا الرئيس الأمريكي المعتادة، أعلن دونالد ترامب خطته “لإنهاء الحرب” في قطاع غزة، والتي تقوم في جوهرها على استعادة الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية. وقدّم ترامب خطته باعتبارها لا تقتصر على وقف الحرب فحسب، بل تتجاوز ذلك لتشكل مسارًا للسلام في الشرق الأوسط، مؤكدًا أن الحكومة الإسرائيلية وافقت عليها.
الخطة التي يُفترض أنها خضعت للتشاور ونالت دعمًا من رؤساء وممثلي ثماني دول عربية وإسلامية، اجتمعوا مع ترامب في 24 سبتمبر/أيلول الماضي على هامش الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقدموا إشارات إيجابية حول مخرجات اللقاء والفرصة المتاحة لإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني ووقف الإبادة.
وكما هو مألوف، لم يكن ما جرى صادمًا؛ فإلى جانب الانحياز الأمريكي الكامل للاحتلال الإسرائيلي، يظل بنيامين نتنياهو وفريقه المصغّر قادرين على تصميم وهندسة المسارات السياسية الأمريكية بما يتناسب مع رؤيته لمستقبل الصراع، إذ جرى تعديل الخطة الأمريكية لتتلاءم مع أهداف الحرب الإسرائيلية بشكل كامل، لتتحول من عرض دبلوماسي فضفاض إلى أكبر فخ استراتيجي معاصر يهدد القضية الفلسطينية بأسرها، وليس قطاع غزة وحده.
تفاصيل الإعلان الأمريكي-الإسرائيلي
أعلن البيت الأبيض، في الـ29 من سبتمبر/أيلول المنصرم، ما أطلق عليه “خطة الرئيس دونالد ترامب الشاملة لإنهاء الصراع في غزة”، والمكوّنة من 20 نقطة، ومعها خريطة مرفقة محدّدة لمراحل الخطة، وخطوط الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، ما يلي النصّ الحرفي للخطة كما نشرها البيت الأبيض:
- ستكون غزة منطقة خالية من التطرف والإرهاب، لا تُشكل تهديدًا لجيرانها.
- سيتم إعادة تطوير غزة لصالح سكان غزة الذين عانوا ما يكفي.
- إذا وافق الطرفان على هذا المقترح، ستنتهي الحرب فورًا، ستنسحب القوات الإسرائيلية إلى الخط المتفق عليه استعدادًا لإطلاق سراح الرهائن. خلال هذه الفترة، سيتم تعليق جميع العمليات العسكرية، بما في ذلك القصف الجوي والمدفعي، وستبقى خطوط القتال مجمدة حتى تتحقق شروط الانسحاب الكامل على مراحل.
- في غضون 72 ساعة من قبول إسرائيل العلني لهذه الاتفاقية، سيتم إعادة جميع الرهائن، أحياءً وأمواتًا.
- بمجرد إطلاق سراح جميع الرهائن، ستفرج إسرائيل عن 250 محكومًا عليهم بالسجن المؤبد، بالإضافة إلى 1700 من سكان غزة الذين اعتُقلوا بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بمن فيهم جميع النساء والأطفال المعتقلين في ذلك السياق، ومقابل كل رهينة إسرائيلي تُفرج عنه، ستفرج إسرائيل عن رفات 15 غزيًا متوفى.
- بمجرد إعادة جميع الرهائن، سيتم العفو عن عناصر حماس الذين يلتزمون بالتعايش السلمي ونزع سلاحهم. وسيتم توفير ممر آمن لعناصر “حماس” الراغبين في مغادرة غزة إلى الدول المستقبلة.
- بمجرد قبول هذا الاتفاق، سيتم إرسال المساعدات الكاملة فورًا إلى قطاع غزة، وستكون كميات المساعدات، كحد أدنى، متوافقة مع ما ورد في اتفاقية 19 يناير/كانون الثاني 2025 بشأن المساعدات الإنسانية، بما في ذلك إعادة تأهيل البنية التحتية (المياه والكهرباء والصرف الصحي)، وإعادة تأهيل المستشفيات والمخابز، وإدخال المعدات اللازمة لإزالة الأنقاض وفتح الطرق.
- سيستمر دخول التوزيع والمساعدات إلى قطاع غزة دون تدخل من الطرفين من خلال الأمم المتحدة ووكالاتها، والهلال الأحمر، بالإضافة إلى المؤسسات الدولية الأخرى غير المرتبطة بأي شكل من الأشكال بأي من الطرفين، وسيخضع فتح معبر رفح في كلا الاتجاهين لنفس الآلية المطبقة بموجب اتفاقية 19 يناير 2025.
- ستُحكم غزة بموجب حكم انتقالي مؤقت للجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية، مسؤولة عن تقديم الخدمات العامة والبلديات اليومية لسكان غزة، وستتكون هذه اللجنة من فلسطينيين مؤهلين وخبراء دوليين، تحت إشراف وإشراف هيئة انتقالية دولية جديدة، وهي “مجلس السلام”، والتي سيرأسها ويرأسها الرئيس دونالد ترامب، مع أعضاء آخرين ورؤساء دول سيتم الإعلان عنهم، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق توني بلير، وستضع هذه الهيئة الإطار وتتولى تمويل إعادة تطوير غزة حتى تُكمل السلطة الفلسطينية برنامجها الإصلاحي، كما هو موضح في مقترحات مختلفة، بما في ذلك خطة الرئيس ترامب للسلام في عام 2020 والمقترح السعودي الفرنسي، ويمكنها استعادة السيطرة على غزة بشكل آمن وفعال، ستدعو هذه الهيئة إلى أفضل المعايير الدولية لإنشاء حوكمة حديثة وفعالة تخدم سكان غزة وتكون مواتية لجذب الاستثمار.
- سيتم وضع خطة ترامب للتنمية الاقتصادية لإعادة بناء غزة وتنشيطها من خلال عقد اجتماع للجنة من الخبراء الذين ساعدوا في ولادة بعض المدن المعجزة الحديثة المزدهرة في الشرق الأوسط، وصاغت مجموعات دولية حسنة النية العديد من مقترحات الاستثمار المدروسة وأفكار التنمية المثيرة، وسيتم النظر فيها لتشكيل أطرعمل للأمن وحوكمة فعالة لجذب وتسهيل هذه الاستثمارات التي ستخلق فرص عملٍ وفرصا جديدة وأملًا لمستقبل غزة.
- ستنشأ منطقة اقتصادية خاصة بتعرفة جمركية وأسعار دخولٍ تفضيلية يتم التفاوض عليها مع الدول المشاركة.
- لن يُجبر أحد على مغادرة غزة، وسيكون من يرغب في المغادرة حرا في ذلك وحرية العودة، سنشجع الناس على البقاء ونمنحهم فرصة بناء غزة أفضل.
- توافق “حماس” والفصائل الأخرى على عدم الاضطلاع بأي دورٍ في حكم غزة، سواءً بشكل مباشرٍ أو غير مباشرٍ أو بأي شكلٍ من الأشكال، وسيتم تدمير جميع البنى التحتية العسكرية والإرهابية والهجومية، بما في ذلك الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة، ولن يُعاد بناؤها، وستكون هناك عملية لنزع السلاح من غزة تحت إشراف مراقبين مستقلين، والتي ستشمل وضع الأسلحة بشكلٍ دائمٍ خارج نطاق الاستخدام من خلال عمليةٍ متفقٍ عليها لتفكيكها، وبدعمٍ من برنامجٍ لإعادة الشراء وإعادة الإدماج بتمويلٍ دولي، ويتم التحقق منه جميعًا من قِبل المراقبين المستقلين، وستلتزم غزة الجديدة التزامًا كاملًا ببناء اقتصادٍ مزدهرٍ والتعايش السلمي مع جيرانها.
خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة.. عشرون بندًا واعتراف بسيادة “إسرائيل” على الجولان pic.twitter.com/1BDejZhTEf
— نون بوست (@NoonPost) September 30, 2025
- سيقدم الشركاء الإقليميون ضمانًا لضمان امتثال حماس والفصائل لالتزاماتها، وعدم تشكيل غزة الجديدة أي تهديد لجيرانها أو شعبها.
- ستعمل الولايات المتحدة مع الشركاء العرب والدوليين على إنشاء قوة استقرار دولية مؤقتة ISF)) للانتشار الفوري في غزة، وستقوم هذه القوة بتدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية في غزة، وستتشاور مع الأردن ومصر اللتين تتمتعان بخبرة واسعة في هذا المجال، وستكون هذه القوة الحل الأمني الداخلي طويل الأمد. ستعمل قوة الاستقرار الدولية مع إسرائيل ومصر للمساعدة في تأمين المناطق الحدودية، إلى جانب قوات الشرطة الفلسطينية المدربة حديثًا، ومن الضروري منع دخول الذخائر إلى غزة وتسهيل التدفق السريع والآمن للبضائع لإعادة بناء غزة وإنعاشها. سيتم الاتفاق على آلية لفض النزاع بين الطرفين.
- إسرائيل لن تحتل غزة أو تضمها مع ترسيخ قوات الأمن الإسرائيلية سيطرتها واستقرارها، ستنسحب القوات الإسرائيلية وفقًا لمعايير ومعالم وجداول زمنية مرتبطة بنزع السلاح، يُتفق عليها بين الجيش الإسرائيلي والجهات الضامنة والولايات المتحدة، بهدف ضمان أمن غزة وعدم تهديدها لإسرائيل أو مصر أو مواطنيها، وعمليًا، سيُسلم الجيش الإسرائيلي تدريجيًا أراضي غزة التي يحتلها لقوات الأمن الإسرائيلية وفقًا لاتفاقية يُبرمها مع السلطة الانتقالية حتى يتم انسحابه الكامل من غزة، باستثناء وجود محيط أمني سيبقى حتى يتم تأمين غزة بشكل كامل من أي تهديد إرهابي متجدد.
- في حال تأجيل “حماس” أو رفضها لهذا المقترح، فإن ما سبق، بما في ذلك توسيع نطاق عملية المساعدات، سيُنفذ في المناطق الخالية من الإرهاب التي سُلّمت من الجيش الإسرائيلي إلى قوات الأمن الدولية.
- سيتم إطلاق عملية حوار بين الأديان، قائمة على قيم التسامح والتعايش السلمي، سعياً لتغيير عقليات وتصورات الفلسطينيين والإسرائيليين، من خلال التأكيد على منافع السلام.
- مع تقدم إعادة إعمار غزة، ومع تطبيق برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية بأمانة، قد تتهيأ الظروف أخيراً لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة، وهو ما ندرك أنه طموح الشعب الفلسطيني.
- ستُطلق الولايات المتحدة حواراً بين إسرائيل والفلسطينيين للاتفاق على أفق سياسي لتعايش سلمي ومزدهر.
كيف حوّل نتنياهو خطة ترامب النهائية؟
كشف موقع أكسيوس الأميركي أن الخطة التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن غزة شهدت تعديلات جوهرية أدخلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مما أدى إلى تغيير كبير في بنود الاتفاق الذي سبق أن وافقت عليه الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية والإسلامية.
وحسب التقرير، فقد عقد نتنياهو، اجتماعا مطولا استمر 6 ساعات في واشنطن مع مبعوث البيت الأبيض ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر صهر ترامب، إلى جانب مستشاره رون ديرمر، تمكن خلاله من تعديل البنود الأساسية المتعلقة بالانسحاب الإسرائيلي من غزة.
عرض هذا المنشور على Instagram
وتُظهر المقارنة بين النسخة الأولى التي نشرتها “تايمز أوف إسرائيل” وقدّمت للقادة العرب، وبين النسخة المعدلة التي خرجت من البيت الأبيض بعد جلسة نتنياهو مع كوشنر وويتكوف، أن اليد الإسرائيلية كانت هي الممسكة بالقلم.
فالتعديلات حوّلت الخطة من مقترح دبلوماسي مفتوح على احتمالات التسوية، إلى نسخة مشددة تضبط كل تفصيل لصالح الاحتلال وتضيّق أي هوامش متبقية أمام المقاومة الفلسطينية، وتتمثل أهم الفجوات ما بين الخطتين في التفاصيل التالية:
ملف الأسرى والتبادل: النسخة الأولى حددت مهلة 48 ساعة لتسليم أسرى الاحتلال، لكن التعديل مدّدها إلى 72 ساعة، ما يعكس نية مسبقة لاستباق طلب المقاومة لمساحة من الوقت لتجميع الأسرى والجثث، كما يمنح إسرائيل مساحة أوسع للتفاوض والإبتزاز بما يتعلق بتفاصيل التبادل والأسماء.
أما في ما أعداد الأسرى الفلسطينيين، فقد صيغ النص الأول بعبارات فضفاضة تسمح بالتفاوض الفني لضبط مفاتيح التبادل (عدة مئات + أكثر من 1000 معتقل)، بينما جاء التعديل بتحديد دقيق: “250 محكوم مؤبد + 1700 معتقل بينهم نساء وأطفال”، وهو تقييد يحول دون أي اجتهاد فلسطيني لزيادة العدد.
إضافة إلى ذلك، فإن التعديل الجديد الأهم كان إدخال معادلة لتبادل الجثامين (جثة أسير إسرائيلي مقابل 15 جثمانًا فلسطينيًا)، وهو شرط غير متكافئ لم يرد أصلًا في النسخة الأولى ويعدم مطالبة المقاومة الفلسطينية بأن يكون هناك أسرى فلسطينيون مقابل الجثث الإسرائيلية، وفق ما كان معمولًا به في اتفاق يناير 2025.
برهان غليون: خطة ترامب لا تحمل سلامًا بل محاولة لتخليد الحرب، إذ تلتف على المطالب العالمية بإنهاء الإبادة والاستيطان، وتعيد إنتاج الشروط التي صنعت المحنة الفلسطينية منذ قرن. pic.twitter.com/FU1T44xoyF
— نون بوست (@NoonPost) September 30, 2025
شروط التعامل مع حماس: الطرح الأول تحدث عن إمكانية العفو عن أعضاء الحركة في حال قبولهم “التعايش السلمي”، لكن التعديل رفع السقف ليشترط العفو بالتوازي مع نزع السلاح، أي استسلام كامل.
كما أن بند “تدمير الأنفاق” تحوّل إلى خطة تفصيلية لنزع شامل للسلاح تحت إشراف دولي، مع “برامج شراء أسلحة وآليات توثيق”، ما يعني ضبط العملية تقنيًا ومنع إعادة البناء مستقبلاً.
المساعدات والرقابة: النسخة الأولى التزمت بإدخال 600 شاحنة مساعدات يوميًا (العدد المنصوص عليه في البروتوكل الإنساني في اتفاق يناير)، بينما التعديل شطب الرقم وأبقى صياغة عامة “كامل الدعم”، مع تحديد أصناف المواد فقط.
ويمنح هذا التغيير إسرائيل مرونة في التحكم بالكميات، أما آلية التوزيع فانتقلت من إشراف الأمم المتحدة والهلال الأحمر حصراً، إلى تركها فضفاضة، ما أعاد لإسرائيل اليد العليا في الرقابة على حركة الأفراد والبضائع.
الترتيبات السياسية والأمنية: النسخة الأولى تحدثت عن هيئة دولية جديدة بالتشاور مع العرب والأوروبيين، في حين نصّ التعديل على إنشاء “مجلس سلام” برئاسة ترامب وعضوية بلير، ما يعني وصاية أميركية–بريطانية مباشرة بدلاً من شراكة متعددة الأطراف.
أما “قوة الاستقرار الدولية “(ISF) فقد كانت في البداية مؤقتة لتدريب الشرطة الفلسطينية وحفظ الاستقرار، لكن التعديل منحها صلاحيات أوسع للعمل مع إسرائيل ومصر لضبط الحدود ومنع دخول السلاح وضمان التدفق التجاري، أي بقاء السيطرة الإسرائيلية عبر وكلاء.
كما تحوّل بند الانسحاب الإسرائيلي من “انسحاب تدريجي وتسليم الأرض لقوات بديلة” إلى “انسحاب مشروط بنزع السلاح وإبقاء محيط أمني”، ما يرسّخ عمليًا وجودًا عسكريًا دائمًا على تخوم غزة، ويعطي الاحتلال كل المبررات اللازمة للتنصل من استحقاق الانسحاب.
بند الضم: النص الأول أكد بشكل قاطع أن إسرائيل “لن تضم أو تحتل غزة”، لكن النسخة المعدلة شطبت هذا البند بشكل كامل، ومع التعديلات الأخرى، أصبحت النتيجة أن البند تم تبديده وبدلًا من كونه التزام واضح بعدم الضم، أصبحت المذكور صيغ مشروطة تتيح لإسرائيل البقاء عمليًا في أي أرض فلسطينية ما دامت ترى أن “التهديد” لم يُزال.
وتكشف الفوارق بين العرضين بجلاء مسار التعديلات التي حوّلت المقترح الأول، الذي أراد ترامب تسويقه كخطة دبلوماسية قابلة للقبول عربيًا، إلى ورقة نهائية محكمة وفق الرؤية الإسرائيلية، تُحقق للاحتلال أهدافه دون أن يضطر لدفع كلفة العمليات العسكرية المباشرة، لا من دماء جنوده وأرواح أسراه، ولا من رصيده الدولي الذي آخذ بالتحول إلى عزلة متزايدة.
فلم تعد الخطة إطارًا للتسوية، بقدر ما أصبحت صياغة إسرائيلية مغلّفة بغطاء أميركي، مطلوب من العرب تمويلها وتنفيذها.
ويؤكد البيان الترحيبي المشترك الصادر عن الدول الثماني التي اجتمعت مع الرئيس الأمريكي في نيويورك هذه الفجوة، إذ نصّ على التزام تلك الدول بالعمل مع الولايات المتحدة لإنهاء الحرب في قطاع غزة “من خلال اتفاق شامل يضمن إيصال المساعدات الإنسانية الكافية إلى القطاع دون قيود، وعدم تهجير الفلسطينيين، وإطلاق سراح الرهائن، وإنشاء آلية أمنية تضمن أمن جميع الأطراف، والانسحاب الإسرائيلي الكامل، وإعادة إعمار غزة، وتكريس مسار للسلام العادل على أساس حل الدولتين، يتم بموجبه توحيد غزة بشكل كامل مع الضفة الغربية في دولة فلسطينية وفقًا للقانون الدولي، باعتباره مفتاحًا لتحقيق الاستقرار والأمن الإقليميين”.
غير أن إعلان الرئيس الأمريكي خلا من أي إشارة واضحة لمسألة الضم أو للمسار السياسي الفعلي المؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية، في وقت واصل فيه نتنياهو تبجحه الاستعلائي تجاه السلطة الفلسطينية، وتأكيد أهداف الحرب بوصفها أولوية إسرائيلية تتجاوز أي التزامات معلنة.
بين الوصاية الدولية وتفكيك القضية الفلسطينية
بنظرة فاحصة للنصوص ومضامينها، فإن الخطة التي قدّمها ترامب، ووافق عليها نتنياهو، ليست مجرد إطار لإنهاء الحرب، بل مشروع متكامل لإعادة تشكيل غزة والمنظومة الفلسطينية وفق منظور أمريكي–إسرائيلي. وعلى الرغم من تسويقها كخارطة طريق للسلام في المنطقة، فإن التدقيق في بنودها يكشف عن مخاطر استراتيجية تهدد جوهر القضية الفلسطينية.
السيادة الفلسطينية تحت وصاية دولية: تتحدث الخطة عن إنشاء “مجلس السلام” كهيئة انتقالية لإدارة غزة، يتصدره ترامب بشخصه، مع دور بارز لشخصيات دولية مثل توني بلير، ولا ينبع هذا المجلس من الإرادة الفلسطينية، بل يضع مستقبل القطاع بيد مجموعة من القوى الغربية، ما يعني عمليًا تحويل غزة إلى إقليم تحت وصاية دولية.
الأخطر أن هذا الترتيب يعيد إنتاج نماذج استعمارية سابقة (كعصبة الأمم في مطلع القرن العشرين) حيث تُدار الأراضي من قوى خارجية بذريعة إعادة البناء والاستقرار، وبالنسبة للفلسطينيين، فإن فقدان السيادة السياسية هنا ليس مؤقتًا، بل قد يتحول إلى صيغة حكم طويلة الأمد تُقصي أي مشروع وطني جامع، فالتجربة التاريخية قد أثبتت كل مؤقت مُعرض لأن يتحول إلى دائم في الحالة الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية نموذجًا.
“مستقبل غزة لن يحدده إلا الفلسطينيون”.. كيف كانت ردود فعل النشطاء على خطة ترامب لإيقاف الحرب على غزة؟ pic.twitter.com/OHfahsVmKM
— نون بوست (@NoonPost) September 30, 2025
تفكيك المقاومة وتجريدها من السلاح: أحد البنود الأكثر حساسية ينص على نزع شامل للسلاح، يبدأ بتدمير الأنفاق وينتهي ببرامج “شراء الأسلحة” من الأفراد تحت إشراف دولي. ليس ذلك فقط، بل تربط الخطة أي عفو عن عناصر حماس بقبولهم نزع السلاح، ما يجعل الاستمرار السياسي للحركة مشروطًا بالتحوّل إلى تنظيم منزوع القوة.
يضع هذا البند المقاومة أمام خيارين أحلاهما مر: إما القبول بالتجريد العسكري بما يحمله من إنهاء لدورها التاريخي وضرب لعقدها الاجتماعي مع جمهورها وقاعدتها، أو مواجهة استمرار الحرب، وبالتالي تتحول العملية من تسوية سياسية إلى وصفة استسلام منضبطة تقنيًا، تجعل إعادة بناء القدرات العسكرية أمرًا مستحيلًا مستقبلًا.
سيطرة أمنية إسرائيلية مقنّعة: الخطة تنص على تشكيل قوة استقرار دولية (ISF) لتتولى الأمن الداخلي والحدودي، لكن التفاصيل تكشف أن هذه القوة ستعمل بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي ومصر، مع إبقاء “محيط أمني دائم” حول غزة، كما أنها ليست قوة “فض اشتباك” مهمتها حماية الشعب الفلسطيني، بل قوة “نزع سلاح” تتولى مهام مباشرة في مواجهة المقاومة.
هذا يعني أن انسحاب الجيش الإسرائيلي لن يكون فعليًا، بل سيتم استبدال وجوده المباشر بترتيبات أمنية تبقيه الطرف المتحكم في المشهد، فيما الأخطر أن مفهوم “المعايير الأمنية” الذي يربط به الانسحاب هو مطاط، ما يمنح إسرائيل حق البقاء متى شاءت. وبهذا، تصبح غزة إقليمًا منزوع السيادة تحت رقابة إسرائيلية غير مباشرة وحرية للحركة الأمنية، في نسخة جديدة من الاحتلال المقنّع.
الرؤية الاقتصادية- إعادة إعمار مشروطة: الخطة تعد بـ”منطقة اقتصادية خاصة” وباستثمارات ضخمة من شركاء دوليين وخليجيين، لكن هذه الوعود الاقتصادية مشروطة بآليات رقابة صارمة، تجعل كل دولار يصل إلى غزة مرتبطًا بموافقة أمريكية–إسرائيلية.
أي أن عملية إعادة الإعمار، التي يُفترض أن تكون إنسانية، تتحول إلى أداة ابتزاز سياسي لإجبار المجتمع الفلسطيني على الانخراط في الترتيبات الجديدة. كما أن حصر التمويل في قنوات غربية وخليجية يقلّص هامش الاستقلالية الفلسطينية، ويحوّل غزة إلى ساحة اختبار لنموذج اقتصادي تابع، يشبه إلى حد كبير مشاريع “المناطق الحرة” التي تُدار بعيدًا عن إرادة السكان المحليين.
تغييب السلطة الفلسطينية وإنهاء فكرة الدولة: تضع الخطة السلطة الفلسطينية في موقع ثانوي، وتتعامل معها كجسم إداري أو إنساني بلا سلطة سيادية. وبهذا، يجري شطب فكرة الدولة الفلسطينية من الأساس، عبر تكريس الفصل بين الضفة الغربية وغزة، وتحويل القطاع إلى كيان معزول.
الخطر هنا أن الخطة لا تقدم أي أفق سياسي للحل الشامل، بل تعزز اتجاه تحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إنساني–أمني بدلًا من كونها قضية تحرر وطني، وهذا التهميش للسلطة لا يضعفها فحسب، بل يقطع الطريق أمام أي مشروع سياسي جامع للفلسطينيين.
المساعدات كأداة لتقسيم غزة إلى “جيتوهات”: ينص أحد بنود الخطة على أنه “في حال تأخرت حماس أو رفضت الخطة، ستنفذ المساعدات وإعادة الإعمار في المناطق الخالية من الإرهاب التي تنقلها إسرائيل إلى قوة الاستقرار”، وتحمل هذه الصياغة إقرارًا مسبقًا بوجود دعم أمريكي كامل لإنشاء مناطق مُختارة تحت إشراف الاحتلال، يجري تسويقها كمناطق “مطهَّرة من الإرهاب”، عمليًا المقصود هو تحويل بعض المساحات إلى فقاعات معزولة أشبه بالجيتوهات، تُغذَّى بالمساعدات والإعمار المشروط، بينما يُترك باقي القطاع تحت النار والدمار.
الأخطر أن أنوية هذه المناطق موجودة بالفعل؛ فهي اليوم تحت سيطرة عصابات إجرامية وعملاء يعملون مع الاحتلال، ويراد توسيعها وتغذيتها بالمساعدات لتتحول إلى نموذج “معازل سكانية” يمكن الاستناد إليه في المستقبل.
خيار “الاستسلام أو الإبادة”: أخطر ما في الخطة هو صياغتها كـ إنذار نهائي: إما القبول بالشروط، أو مواجهة إبادة جماعية متواصلة، ويعكس هذا المنطق خطابًا سياسيًا قائمًا على نزع الشرعية عن المقاومة تمامًا، وفرض معادلة صفرية: البقاء مشروط بالاستسلام، أما الرفض فيعني استمرار الحرب حتى القضاء على البنية المجتمعية في غزة.
وبهذا المعنى، فإن الخطة ليست تسوية بقدر ما هي مشروع ابتزاز وجودي، يجعل المقاومة أمام معركة دفاع مصيرية، والشعب أمام مأزق بين الحياة المقيّدة أو الموت تحت النار.
فخ استراتيجي بغطاء دبلوماسي
تخفي الوثيقة، خلف واجهة “خطة سلام”، مشروعًا لإعادة صياغة غزة على المقاس الإسرائيلي يقوم على وصاية دولية تحرم الفلسطينيين من السيادة، وتجريد المقاومة من قوتها، وإبقاء اليد الأمنية الإسرائيلية، وربط إعادة الإعمار بشروط تفرضها واشنطن وتل أبيب.
المخاطر الحقيقية أن الخطة لا تقدّم تسوية بقدر ما تعيد إنتاج الاحتلال بصيغة تتجنّب دفع تكاليفه المباشرة -من دماء الجنود أو مسؤولية الدمار والسكان- وفي الوقت نفسه تفرض رقابة أقوى وسيطرة أشدّ إحكامًا.
في هذا الإطار، تجد المقاومة الفلسطينية، وحركة حماس على نحوٍ خاص، نفسها أمام مفترق طرقٍ تاريخي وخطير: فالموافقة على البنود تعني مخاطرة استراتيجية كبرى وخضوعًا لتفكيك القدرة العسكرية والسياسية والتي ليست ملكًا لحماس وحدها، بل للشعب الفلسطيني وأجياله القادمة، أما الرفض فيعرّض الشعب لمواصلة الإبادة والتهجير والضم بدعم أميركي مطلق.
وأيًا كانت الوجهة التي تتخذها المقاومة الفلسطينية، يبقى قطاع غزة بأهله وتاريخه وبنيته الوطنية، قادرًا على أن يفاجئ الجميع بقدرته على الصمود والنهوض ومواجهة كل المشاريع التصفوية، مهما كان سياقها أو غطاؤها أو شكلها.