ترجمة وتحرير: نون بوست
“لا سبيل للهروب”: كريس سيدوتي يقارن بين المذبحة في غزة وغيرها من حالات الإبادة الجماعية
يقول كريس سيدوتي: “لا يملك سكان غزة أي وسيلة للفرار من القتل، إنهم شعب أسير بأتم معنى الكلمة”.
يعرف سيدوتي جيدًا وحشية النزاعات، إذ يمتلك خبرة واسعة ومؤلمة في التحقيق بجرائم دولية، لكنه يرى أن العنف في غزة يختلف جوهريًا عن غيره: “الناس لا يستطيعون الهروب”.
يُعدّ سيدوتي من أبرز خبراء القانون الدولي في أستراليا، وسبق أن شغل منصب مفوض حقوق الإنسان. أمضى السنوات الأربع الماضية، منذ ما قبل هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عضوًا في لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وإسرائيل.
وأوضحت اللجنة في تقرير صدر هذا الشهر أن الحكومة والجيش الإسرائيليين يرتكبان جريمة إبادة جماعية في غزة.
في النصف الآخر من الكرة الأرضية، وتحديدا في مدينة سيدني، وقبيل إلقاء كلمة في النادي الوطني للصحافة يوم الأربعاء، يراجع كريس سيدوتي حالات الإبادة الجماعية التي شوهت تاريخ العالم.
يقول سيدوتي إن الفارين من تلك المجازر أُجبروا على مغادرة منازلهم بسبب فظائع لا يمكن تصورها.
في رواندا عام 1994، هرب التوتسي من ميليشيات الهوتو إلى بوروندي وتنزانيا. وعندما اجتاح تنظيم الدولة سوريا قبل نحو عقد، فرّ ملايين السكان إلى تركيا ولبنان. أما الروهينغا، فقد عبروا نهر ناف إلى بنغلاديش هربًا من المجلس العسكري في ميانمار عام 2017، ولا يزال مئات الآلاف منهم يعيشون في مخيمات كبيرة حتى اليوم.
ويقول سيدوتي إن الفلسطينيين في غزة محاصرون، ولا مكان يلجؤون إليه. ويضيف: “منذ اليوم الأول، تنفذ إسرائيل هذا النوع من الحملات: القصف المكثف والمذابح الجماعية والتدمير الشامل للبنية التحتية الضرورية للحياة من رعاية صحية وتعليم وسكن، إلى المواقع الدينية والثقافية. وعلى مدى فترات طويلة، بلغ الأمر حد فرض المجاعة الجماعية”.
وتابع قائلا: “كل ذلك يحدث في سياق لا يملك فيه الناس أي وسيلة للفرار. إنهم شعب أسير حرفيا. وهذا يميّز الوضع في غزة عن أي نزاع آخر، بالتأكيد في العقود الأخيرة، وربما في حياتي كلها”.
وأشار سيدوتي إلى أن العمليات العسكرية في غزة تمثل “مجزرة جماعية”. ويقول إنه في الأسابيع الأولى من النزاع، كان يُقتل أكثر من 300 شخص يوميًا، وأن هذا المعدل ظل يتراوح بين 75 و100 قتيل يوميًا، باستثناء فترة هدنة قصيرة وهشة. وأضاف: “تم التعرف رسميًا على أكثر من 65 ألف جثة… نصفهم من النساء والأطفال”.
وتابع: “لو كانت إسرائيل جادة في الحديث عن إخلاء مناطق من غزة، أو حتى إجلاء النساء والأطفال، لكانت سمحت لهم بالدخول إلى أراضيها”.
ويصف سيدوتي هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول التي نفذتها حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني بأنها كانت “فظائع شنيعة وصادمة”. وقد أورد تقرير سابق صادر عن لجنة التحقيق تفاصيل عن تلك الهجمات على إسرائيل، مؤكّدًا أنها “شكّلت جرائم حرب”.

لكن سيدوتي يقول إن رد فعل الحكومة الإسرائيلية يمثل “خيانة لشعب إسرائيل”، مضيفا: “لقد فشلت إسرائيل. فشلت الحكومة والجيش في 7 أكتوبر/ تشرين الأول. الاستراتيجية التي تم اتباعها منذ ذلك الحين لم تحقق السلام ولم تقضِ على حماس”.
وأشار سيدوتي إلى أن الغالبية الساحقة من الرهائن أُفرج عنهم عبر التفاوض، وليس من خلال العمليات العسكرية. وفي الوقت نفسه، استُنزف الاقتصاد الإسرائيلي في تمويل حرب باهظة التكاليف، وأُخذ العمال من وظائفهم للقتال. وقال: “إسرائيل ليست آمنة. لقد تم المساس بازدهارها، وتم المساس بأمنها”.
وتابع: “إنها خيانة تتحمل مسؤوليتها الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي، لأنهما ينفذان إجراءات عسكرية فاشلة تشكل انتهاكًا للقانون الدولي”.
وأوضح سيدوتي أن لجنة التحقيق استندت إلى أدلة مباشرة وغير مباشرة لإثبات وجود نية إبادة جماعية لدى الجانب الإسرائيلي.
وتتمثل الأدلة المباشرة، وفقًا للجنة التحقيق، في التصريحات التي أدلى بها قادة سياسيون وعسكريون إسرائيليون، والتي اعتُبرت “تحريضًا مباشرًا وعلنيًا على ارتكاب جريمة إبادة جماعية”. وقد أورد التقرير تصريحات محددة لكل من وزير الدفاع السابق يوآف غالانت، والرئيس يتسحاق هرتسوغ، ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وقالت اللجنة إن “هذه التصريحات صدرت عن مسؤولين يشغلون مواقع قيادية، على أساس أن يتم تنفيذ أوامرهم. وتشكّل هذه التصريحات مؤشرات واضحة، وأدلة مباشرة على وجود نية ارتكاب إبادة جماعية”.
وتتمثل الأدلة غير المباشرة في مجمل ما قام به الجيش الإسرائيلي في غزة – من قصف مكثف وتدمير كامل للبنية التحتية وارتفاع معدلات القتل واعتماد استراتيجية ترقى إلى جريمة حرب – وكلها تهدف إلى تدمير الشعب الفلسطيني في غزة، كليًا أو جزئيًا.
وأوضح سيدوتي أن المعيار القانوني لإثبات جريمة الإبادة الجماعية “مرتفع للغاية”، بل إنه “أعلى من معيار الشك المعقول” المعتمد في المحاكمات الجنائية، وهو ما يفسر ندرة صدور إعلانات رسمية بهذا الخصوص.
وقبل نشر التقرير، أرسلت اللجنة نسخة منه إلى الحكومة الإسرائيلية تطلب منها الرد، لكنها لم تتلق أي إجابة.
وبعد صدور التقرير، أصدرت وزارة الخارجية الإسرائيلية بيانًا قالت فيه إنها “ترفض بشكل قاطع هذا التقرير المشوّه والكاذب، وتدعو إلى الإلغاء الفوري للجنة التحقيق”.
وأكد سيدوتي أنه لا يعلق أي آمال على أن تتعامل حكومة نتنياهو مع التقرير بجدية، كما أنه لا يعوّل على الهيئة الأممية المكلفة بحفظ السلم والأمن الدوليين. وقال: “مجلس الأمن عديم الجدوى تمامًا، فهو معطل بالكامل، ويجعلنا نتساءل عن سبب وجوده من الأساس”.
بالتالي، يُعد تقرير اللجنة في جوهره دعوة موجّهة إلى المجتمع الدولي من أجل التحرك، حيث تقع عليه التزامات قانونية تتمثل في منع الإبادة الجماعية وتقديم مرتكبيها إلى العدالة.
وقال سيدوتي إنه يجب على أستراليا أن توقف جميع علاقاتها الدفاعية مع إسرائيل، وأن توقف أي تجارة تتعلق بمواد يمكن استخدامها في الأغراض العسكرية، بما في ذلك المواد الخام والتقنيات والمعدات ذات الاستخدام المزدوج، مثل الطائرات المسيّرة.
وأضاف: “ينبغي أيضًا أن ننظر في مسؤولياتنا القانونية بشأن ملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية. هذه الجرائم منصوص عليها في القانون الأسترالي. وأي شخص يسعى لدخول أستراليا، بمن في ذلك أي مواطن أسترالي خدم في الجيش الإسرائيلي داخل غزة خلال العامين الماضيين، يُعتبر موضع شبهة، وبمصطلحات الشرطة، هو شخص محل اهتمام”.
وأشار سيدوتي إلى أن أستراليا لم تفعل “إلا القليل جدًا”، لكنها ليست استثناء، بل جزء من نمط مؤسف من التقاعس الذي يطبع مواقف الدول الغربية.
وقال: “نحن بالتأكيد لسنا في مقدمة الركب، لكن الركب بدأ يتحرك بسرعة… والاعتراف بفلسطين مثال على ذلك”.
وأوضح سيدوتي أن أول تجربة له في توثيق الإبادة الجماعية كانت داخل بلاده، حين خلص تقرير “إعادتهم إلى الوطن” الصادر عام 1997 إلى أن سياسة الحكومة الأسترالية في فصل الأطفال الأصليين عن أسرهم تنطبق عليها تعريف القانون الدولي للإبادة الجماعية، بوصفها محاولة لتدمير السكان الأصليين في أستراليا عبر النقل التعسفي للأطفال، وقطع صلتهم بأسرهم وأرضهم وثقافتهم.
وقال سيدوتي إنه تعلّم من تلك التجربة قيمة الشهادات الحية، مشيرًا إلى أنه كان في بعض الحالات أول مسؤول يستمع إلى روايات الضحايا.
وأضاف: “لم نوقف القتال في غزة، ولم نوقف قتل الناس، ولا قتل الأطفال. لكنني أحمل معي الدرس المستفاد من تقرير إعادتهم إلى الوطن: أن توثيق الحقيقة التاريخية هو أقل ما يمكن أن نقدمه للضحايا”.
استقال سيدوتي وزملاؤه من لجنة التحقيق في يونيو/ حزيران الماضي. وعندما سُئل عن رؤيته لمستقبل النزاع، قال إنه لا يعرف إن كان يميل إلى التفاؤل أم إلى التشاؤم، لكنه يأسف لاستمرار المعاناة.
وتابع: “القتل لا يستمر إلى الأبد. سيُحلّ النزاع في نهاية المطاف، لأنه لا بديل عن ذلك، لكنني لا أعرف متى… ولا كم من آلاف الأرواح ستزهق قبل أن يحدث ذلك”.
المصدر: الغارديان