تشهد الساحة المغربية منذ نهاية سبتمبر 2025 موجةً احتجاجية واسعة أعادت إلى الأذهان صورًا من أحداث 2011 التي جسّدتها حركة 20 فبراير، حيث نزل الشباب إلى الشوارع مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
اليوم تعود شعارات مشابهة إلى المشهد، لكن في سياق مختلف عبر حركة جديدة تُعرف باسم “جيل زد-212” وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتعبئة، خصوصًا منصة ديسكورد.
الاحتجاجات الحالية التي انطلقت بمطالب اجتماعية واضحة تتمثل في تحسين جودة التعليم وإصلاح قطاع الصحة ومحاربة الفساد وإيجاد فرص الشغل، سرعان ما شهدت تحولا نحو العنف في بعض المناطق، وهو ما يثير أسئلة عميقة حول مسار العلاقة بين الدولة والمجتمع في المغرب.
بين مطالب الأمس واليوم
تشابهت بعض المطالب المرفوعة في احتجاجات 2025 مع تلك التي رفعتها حركة 20 فبراير سنة 2011، حيث ارتكز الخطاب في كلا الحالتين على الحق في الشغل والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد وتحسين خدمات الصحة والتعليم، لكن مع تراجعٍ في سقف الطموحات هذه المرة، حيث تجاوزت مطالب حركة 20 فبراير هذا السقف وطالبت بدستور جديد، وحل الحكومة والبرلمان، كما طالبت بقضاء مستقل ونزيه، ومحاكمة الضالعين في قضايا الفساد واستغلال النفوذ ونهب ثروات البلاد.
في المقابل، تختلف احتجاجات 2025 من حيث بنيتها التنظيمية، إذ يقودها شباب غير مؤطرين سياسياً يستعملون منصات رقمية مثل ديسكورد. وفي حين انضمت الأحزاب السياسية والنقابات إلى حركة 20 فبراير ما منحها قوة تنظيمية، يؤكد شباب “جيل زد-212” اليوم عدم انتماء أي منهم لأي جهة، وأطلقوا دعوات إلى التظاهر دون قيادة مركزية أو هياكل تنظيمية نقابية أو سياسية أو جمعوية.
هذا التحول في التنظيم يعكس فقدان الثقة في المؤسسات السياسية التقليدية وفي النقابات، كما يكشف عن سرعة انتشار الاحتجاجات وصعوبة السيطرة عليها، وهو ما لم يكن ممكناً قبل عقد ونصف حين كانت وسائل التعبئة أبطأ وأقل انتشاراً.
كما أن السياق السياسي والإقليمي اليوم مختلف عن الماضي. فالمغرب بعد 2011 عرف تعديلات دستورية وتعزيزًا للنصوص القانونية التي تتحدث عن الحقوق والحريات، لكن في الممارسة ظل التفاوت قائمًا بين النص والتطبيق، ولعل الشعارات المرفوعة في المسيرات الحالية، والتي تستعيد لغة المطالب الاجتماعية والاقتصادية نفسها التي كانت حاضرة قبل أربعة عشر عامًا، هي تعبير عن شعور جماعي بأن الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية التي أُقرّت عام 2011 لم تُترجم إلى تحسين ملموس في حياة المواطنين العاديين.
يضاف إلى ذلك أن الحقل الحزبي فقد الكثير من مصداقيته، في ظل شعور واسع لدى الشباب بأن الأحزاب عاجزة عن تمثيلهم أو الاستماع إلى مطالبهم، وهو ما يفسر الطابع الأفقي واللامركزي للاحتجاجات الحالية، إذ لا تقف وراءها بنية تنظيمية تقليدية.
إن الاحتجاجات في المغرب ليست حدثًا عابرًا، بل تجلّيًا عميقًا لأزمة تتجاوز التعليم والصحة إلى بنية العدالة الاجتماعية برمتها، حيث إن جيل Z، الموصوف بجيل الرقمنة والتواصل، قرر أن يختبر لأول مرة قدرة التعبئة الرقمية على التحول إلى فعل احتجاجي جماعي، مكرّسًا مسارًا جديدًا في العلاقة… pic.twitter.com/5xiiHdupYq
— نون بوست (@NoonPost) October 1, 2025
إقليميًا، يختلف المشهد الحالي عن عام 2011، حين كانت ثورات الربيع العربي تفتح أفقًا ديمقراطيًا أمام الشارع، أما اليوم فيسود الإقليم أجواء من الارتداد السلطوي والتشديد الأمني، فضلاً عن أزمات اقتصادية خانقة مرتبطة بالتضخم وتداعيات جائحة كورونا وتغير المناخ، وهو ما أدى إلى ارتفاع منسوب التوتر الاجتماعي بسبب انسداد الأفق أمام الشباب.
هذا التوتر في السياق المغربي فاقمَته الحكومة الحالية التي يرأسها عزيز أخنوش، بسبب شبهات تضارب المصالح والفساد واستغلال النفوذ التي رافقت ولايته، بالإضافة إلى تعيين وزراء غير متخصصين في وزارات حساسة، كما هو الحال بالنسبة لقطاع الصحة الذي أُسندت مهمة تدبيره إلى أمين التهراوي، المقرب من رئيس الحكومة، والذي راكم تجربة سابقة في تدبير الشركات الخاصة بعيدا عن مجال الطب والتدبير الصحي، قبل أن يُعيَّن بشكل مفاجئ على رأس حقيبة حيوية تمس المغاربة مباشر، ويعتبره البعض سببا مباشرا في الأحداث الحالية.
وقد لخص بيان ترانسبرانسي المغرب، وهي منظمة غير حكومية، ما يتعلق بهذه الحكومة بقولها: “أن حكومةً تشرّع قانونيا لحماية الفساد، لا يرجى منها التجاوب مع تطلعات الشعب واحترام الدستور والقانون.”
من السلمية إلى العنف
منذ بدايتها، اتسمت مظاهرات “جيل زد-212” بالسلمية، إذ خرجت مجموعات شبابية في مدن مختلفة تطالب بخدمات اجتماعية أساسية، لكن مع اتساع رقعتها تحولت هذه المظاهرات في بعض المناطق إلى مواجهات مفتوحة مع قوات الأمن.
وفي هذا السياق أشار بلاغ وزارة الداخلية إلى أن بعض هذه المظاهرات تحولت إلى تجمهرات غير مشروعة تخللتها اعتداءات وأعمال عنف، شملت استعمال الأسلحة البيضاء والرشق بالحجارة وتفجير قنينات الغاز، إلى جانب إضرام النار في العجلات المطاطية، وهو ما ساهم في تأجيج التوتر.
كما أبرز البلاغ نفسه أن نسبة القاصرين المشاركين في هذه التجمهرات تجاوزت سبعين في المائة، الأمر الذي يثير مخاوف إضافية بشأن طبيعة الفئات المنخرطة في الاحتجاجات وحدود السيطرة عليها.
كما أوضح أن منطقة القليعة بإقليم إنزكان أيت ملول، جنوب البلاد، شهدت محاولة اقتحام مقر أمني ومحاولة الاستيلاء على أسلحة وظيفية وذخيرة، ما اضطر عناصر الدرك الملكي إلى استعمال السلاح في إطار الدفاع الشرعي عن النفس، وهو التدخل الذي أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص.
يضاف إلى ذلك تسجيل 354 إصابة متفاوتة الخطورة، من بينها 326 إصابة في صفوف القوات العمومية، وخسائر مادية جسيمة تمثلت في تضرر 271 عربة أمنية و175 سيارة خاصة، فضلاً عن تخريب ونهب ما يقارب ثمانين مرفقاً عمومياً ومتجراً موزعة على ثلاث وعشرين عمالة وإقليماً.
وتبرأت حركة “جيل زد-212” من خلال بيان منسوب لها، انشتر على مواقع التواصل الاجتماعي من هذه الأعمال، مشددة على أن الحركة سلمية، وأن على المتظاهرين تجنب أي تصرف قد يستغل لتشويه مطالبها المشروعة، كما طالبت الشباب المشاركين في الاحتجاجات بالالتزام بثلاثة مبادئ هي: “لا كلام نابيا ولا إهانات، لا شغب ولا تخريب للممتلكات العامة والخاصة، ولا تراجع عن السلمية”.
التحول من السلمية إلى العنف ليس ظاهرة أحادية السبب، لأنه نتيجة تراكمية تجمع بين إحباطٍ من فعالية السُبل الاحتجاجية السلمية لدى بعض الفئات، واستفزازات ميدانية حدثت خلال الأيام الأولى، وأفعال فردية أو جماعات منزوعة من الأجندة الأصلية قد تُحفّز ردود فعل أمنية عنيفة، ثم حلقة تصعيد متبادلة بين شريحة من المتظاهرين وقوات الأمن.
من جهة أخرى، التجربة التاريخية لـ 2011 علمت السلطة كيفية التعامل السياسي مع موجات الغضب (بتقديم حلول مؤقتة)، لكن هذه المرة، ومع ضعف الوساطات السياسية وغياب قنوات ثقة فعّالة بين شباب الشارع والمحكومة، تبرز ميولا لاستجابة أمنية تفوق التوقعات السابقة، على نحو قد يعيد إنتاج دوائر الاحتقان بدلاً من احتوائها.
الفارق الأبرز إذا بين 2011 و2025 لا يتوقف عند التنسيق الرقمي، بل يمتد إلى طبيعة تعامل الدولة مع الاحتجاجات، ففي 2011 جاءت الاستجابة الرسمية في شكل تفاعل سياسي سريع نسبياً، حيث كان خطاب العاهل المغربي محمد السادس كافيا لإخماد الاحتجاجات، مع إقراره إصلاحات عميقة أعادت الهدوء إلى الشارع، أما اليوم فإلى الآن لم يسجل أي تواصل من الحكومة، باستثناء بلاغ أصدرته الأغلبية الحكومية بلغةٍ اعتبرها متابعون “لغة الخشب”.
أزمة الوساطة وفقدان الثقة
تفتقر احتجاجات 2025 إلى وسطاء سياسيين أو اجتماعيين قادرين على لعب دور جسور بين الشارع والدولة، في 2011، ورغم كل محدودياتها، لعبت بعض الأحزاب والجمعيات وأعضاء حركة 20 فبراير الذين كانوا معروفين دوراً في التعبير عن المطالب وصياغتها ضمن لغة تفاوضية، أما اليوم فإن اللامركزية المطلقة للاحتجاجات وعدم معرفة من يقودها تترك الدولة أمام شارع غاضب لا ممثلين له يمكن مفاوضتهم.
هذا الغياب يجعل التعامل الأمني أكثر حضوراً، ويقلّص فرص إيجاد حلول سياسية أو إصلاحات توافقية، وهو ربما ما يعكس تراجع رهان الدولة على الحوار السياسي مقارنة بما جرى في 2011 حين سارع الملك إلى تقديم تنازلات دستورية.
ومن منظور أوسع، يمكن القول إن هذا التحول يعكس ضعف قنوات الوساطة السياسية وانعدام الثقة بين الشارع والدولة. في 2011، ورغم أن حركة 20 فبراير واجهت تضييقًا، إلا أن السلطة استجابت سريعًا بإصلاح دستوري وخطاب ملكي استوعب بعض المطالب. أما اليوم، فيبدو أن الاستجابة السياسية أقل وضوحًا وأكثر تباطؤًا، فيما تأتي المقاربة الأمنية في الواجهة.
رأى البعض أن ما جرى لم يكن حادثًا معزولًا، بل حلقة خطيرة في مسار التطبيع الذي انطلق منذ اتفاق 2020 مع الكيان الإسرائيلي.. المغرب تحتضن حفلًا يهوديًا وسط دعوات لجيش الاحتلال بـ “النصر” pic.twitter.com/30QWRvu87Y
— نون بوست (@NoonPost) September 30, 2025
إن استعادة صورة 2011 في المغرب عبر احتجاجات 2025 تكشف استمرار القضايا الجوهرية التي لم تجد حلولاً جذرية، لكن المختلف أن الشباب اليوم، إذا استثنينا أفعالا فردية أو جماعات منزوعة من الأجندة الأصلية للاحتجاجات، أكثر تنظيمًا عبر العالم الرقمي وأقل ثقة في المؤسسات السياسية، فيما الدولة تواجه سياقًا إقليميًا ودوليًا أكثر هشاشة.
وبين السلمية والعنف، يبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت السلطة ستعتمد مقاربة سياسية تُعيد الثقة وتفتح الحوار، أم أن المقاربة الأمنية ستكرّس دورة جديدة من الاحتقان قد تتسع رقعتها بدل أن تنحسر، لأن مواجهة الجيل الجديد بعقلية قديمة، لن يخفف الأزمة بقدر ما سيزيدها.