ترجمة وتحرير: نون بوست
قاومت الشاعرة الفلسطينية فداء زياد الهروب من منزلها المؤقت في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة لأطول فترة ممكنة. تحمّلت الانفجارات العنيفة والهزات الأرضية تحت أقدامها لعدة أيام في أوائل أيلول/سبتمبر، بينما كانت القوات الإسرائيلية تقصف وتدمر الأحياء المجاورة في المدينة التي تعاني المجاعة – أكبر مركز حضري في القطاع الذي كان يضم آنذاك ما يصل إلى مليون شخص.
كانت زياد تأمل حدوث “معجزة” حتى لا تضطر إلى النزوح مرة أخرى خلال الحرب التي استمرت عامين، ولكن عندما وصل القصف إلى شارعها انضمت إلى موجة نزوح جماعي ضمت مئات الآلاف من سكان غزة المنكوبين المتجهين جنوبًا هربًا من تقدم الدبابات الإسرائيلية الوشيك إلى مدينتهم. تقول فداء: “هذه المرة لن تكون هناك عودة إلى مدينة غزة”. وقد انتقلت إلى بلدة دير البلح الواقعة في وسط القطاع، والتي لا تزال حتى الآن غير متضررة نسبيًا. وتضيف: “وإن عدت يومًا، فلن تكون المدينة التي عرفتها. لقد تم بالفعل محو جزء كبير منها وتدميره بالكامل”.
تنبؤ فداء هو مؤشر على حجم المهمة المقبلة إذا انتهت الحرب التي اندلعت بعد هجمات حماس على جنوب إسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر 2023. وعلى مدى أكثر من عامين من القصف المتواصل والغارات البريّة المتكررة، دمّرت الهجمات الإسرائيلية قطاع غزة وحوّلت أجزاء كبيرة منه إلى أنقاض ودمرت أراضيه الزراعية ونظمه الغذائية.
طرحت الولايات المتحدة في الأسبوع الماضي خطة لوقف إطلاق النار وما بعد الحرب تدعمها إسرائيل والدول العربية. وتشترط الخطة نزع سلاح مقاتلي حماس وانتقال السيطرة على الأراضي إلى هيئة إشرافية تسمى “مجلس السلام” تتولى الإشراف على لجنة فلسطينية تدير الشؤون اليومية. وتجدر الإشارة إلى أن حماس، التي تحكم غزة منذ سنة 2007، لم ترد رسميًا على الاقتراح حتى الآن. لكن حتى في حال اعتماد الخطة واستمرار وقف إطلاق النار، فقد تبلغ تكلفة إزالة نحو 54 مليون طن من الأنقاض الخرسانية وإعادة بناء البنية التحتية الحيوية والمدن المنكوبة في غزة مليارات الدولارات وقد تستغرق سنوات عديدة، وذلك وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
يقول مسؤول كبير في مجال الإغاثة يراقب الدمار الذي لحق بالمنطقة عن كثب إنه كان هناك أمل في السنة الماضية في استخدام “نموذج تدريجي” لإصلاح وتطوير الأحياء والمرافق القائمة. لكن حجم الأضرار التي لحقت بالمنطقة خلال الأشهر الماضية يتطلب الآن اتباع نهج يبدأ من الصفر. بالإضافة إلى أن خطة إعادة إعمار غزة المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تشمل انسحابًا إسرائيليًا تدريجيًا دون جدول زمني محدد، ستُبقي السيطرة الإسرائيلية على منطقة عازلة داخل محيط القطاع. يقول أمجد شوا، مدير شبكة المنظمات غير الحكومية الفلسطينية: “هناك مشاكل خطيرة في المقترح، لكننا كفلسطينيين نتشبث بأي بصيص أمل. الأولوية هي وقف القتل”.
على الرغم من أن الخطة الأمريكية تنص صراحةً على أنه لن يكون هناك تهجير قسري، إلا أن العديد من سكان غزة يخشون أن يكون الدمار مقدمة لطردهم من القطاع أو إجبارهم على ما يسمّيه المسؤولون الإسرائيليون “الهجرة الطوعية” لأن وطنهم أصبح غير صالح للسكن. ويقول شوا: “أشعر أننا نُقتلع من جذورنا، ولا نُهجّر مؤقتًا فقط. هذا التدمير الكامل للأرض يهدف إلى كسر ارتباطنا بها، حتى يغرسوا فكرة أنه لا يوجد ما نعود إليه”.
لا يمكن فهم أثر الحرب على المجتمع الغزّي فقط من خلال أعداد القتلى والجرحى والمهجّرين، بل أيضًا من خلال تدمير البنية التحتية والموارد الحيوية التي كانت تُشكّل أساس الحياة في القطاع. ويُظهر أحدث تقييم للأمم المتحدة، استنادًا إلى صور الأقمار الصناعية المنشورة في 6 آب/أغسطس، أن 78 بالمائة من المباني في قطاع غزة قد تضررت وأكثر من نصفها دُمّر بالكامل. كما تعرضت جميع الأراضي الزراعية تقريباً لدرجة ما من الدمار، وستحتاج إلى إعادة تأهيل لتصبح منتجة مرة أخرى، كما أصبحت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية غير قابلة للوصول لأنها تقع في مناطق عسكرية محظورة تسيطر عليها إسرائيل.
تم تدمير أو إلحاق أضرار جسيمة بأغلب المدارس، ولم تبقَ أي جامعة قائمة، وفقد الطلاب عامهم الدراسي الثاني، ولا أحد يعلم كيف أو متى يمكن استئناف الدراسة. إلى جانب الدمار، تم ضم أكثر من 80 بالمائة من أراضي قطاع غزة إلى مناطق حظر عسكرية إسرائيلية، أو أصبحت خاضعة لأوامر التهجير القسري. ويُقدّر مسؤولو الإغاثة أن نصف تلك المساحة قد دُمّر بالكامل.
تكدّس معظم سكان غزة البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة في خيام بمناطق وسط القطاع أو في الشريط الساحلي الجنوبي في مواصي حيث لا توجد خدمات عامة مثل المياه الجارية أو الصرف الصحي المناسب.
قدّر البنك الدولي في شباط/فبراير الماضي أن تكلفة التعافي وإعادة الإعمار من الأضرار التي لحقت خلال السنة الأولى من الحرب حتى تشرين الأول/أكتوبر 2024 تبلغ نحو 53 مليار دولار. ولم يقم البنك بتحديث تقديراته بعد، لكن لم يسلم أي ركن من أركان القطاع من القصف العنيف الذي يشنه الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الحين.
يقول شوا من شبكة المنظمات غير الحكومية الفلسطينية: “لقد فقدنا كل شيء، ولم يتبقَ سوى القليل. حجم الدمار هذه المرة يختلف عن أي حرب سابقة في غزة. يجب إعادة بناء المكان من الصفر”. لقد أدّت الصدمة النفسية وفقدان الأرواح، والتهجير القسري المتكرر للناس المنهكين، إلى جانب القيود المفروضة على دخول المساعدات، إلى تفاقم الكارثة الإنسانية. فقد أعلنت هيئة مراقبة الجوع المدعومة من الأمم المتحدة في آب/أغسطس الماضي أن المجاعة قد استشرت في مدينة غزة والمناطق المحيطة بها، ومن المرجح أن تمتد إلى أجزاء أخرى من القطاع.
وقد اتهمت لجنة تابعة للأمم المتحدة ومنظمات حقوقية إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وهي اتهامات رفضها القادة الإسرائيليون الذين يؤكدون أنهم يخوضون حربًا ضرورية ضد الإرهاب. وتقول إسرائيل إنها تستهدف البنية التحتية التي تستخدمها حركة حماس لإخفاء الأنفاق وشنّ الهجمات على القوات الإسرائيلية وإخفاء الأسلحة. وقد نفت مرارًا أنها تقوم بهدم بلدات وأحياء فلسطينية بأكملها لمنع المدنيين من العودة إليها بعد انتهاء الأعمال القتالية.
قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي إن إسرائيل كانت “تمحو نظام الإرهاب التابع لحماس” في جميع أنحاء غزة، وتتعامل مع “مئات الأميال من أنفاق الإرهاب تحت الأرض، وأبراج الإرهاب التي لا تُحصى فوق الأرض”.
وفقًا للسلطات الصحية المحلية، أسفر الهجوم الإسرائيلي عن مقتل أكثر من 66 ألف فلسطيني. أما الهجمات التي قادتها حماس في تشرين الأول/أكتوبر 2023 على جنوب إسرائيل، فقد أسفرت عن مقتل 1200 شخص حسب الحكومة، كما احتجزت حماس 250 رهينة ولا تزال تحتجز 48 منهم بينما يُعتقد أن 20 فقط منهم على قيد الحياة.
في مدينة غزة، كما في باقي أنحاء القطاع، تم تسوية كتل سكنية كاملة بالأرض عبر القصف والجرافات أو التفجير بواسطة مركبات مدرّعة محمّلة بالمتفجرات يتم التحكم بها عن بُعد. بدأت عمليات الهدم المنهجية في الأطراف الشرقية والجنوبية للمدينة قبل أشهر من إصدار إسرائيل أمرًا بالإخلاء الكامل للسكان في 9 أيلول/ سبتمبر، ثم أطلقت هجومها البري بعد أسبوع.
إذا لم يتم التوصل إلى وقف إطلاق نار وتم تنفيذ الإخلاء الكامل، فمن المرجّح أن تُدمّر مدينة غزة “بالكامل” حسب ما يقوله مسؤول الإغاثة مشيرًا إلى ما حدث في السابق.
يوم الأربعاء، قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن إسرائيل تُحكم الطوق حول مدينة غزة، وقد أمرت جميع السكان المتبقين بالمغادرة، محذّرًا من أن من يرفض المغادرة سيُعامل على أنه “إرهابي وداعم للإرهاب”.
تم استخدام عمليات الهدم في أجزاء مختلفة من القطاع لتسوية المباني بالأرض وتطهير الأراضي من جميع الإنشاءات. في شهادة لصحيفة فاينانشال تايمز، يروي أحد جنود الاحتياط الإسرائيليين الذين خدموا في غزة وقدّموا شهادة لمنظمة “كسر الصمت” — وهي منظمة غير حكومية إسرائيلية مكرّسة لإنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية — كيف تم استخدام طريقة تُعرف باسم “كونغ فو باندا” لتفجير المباني.
يقول الجندي: “إنها نوع من ناقلات الجنود المدرعة — لم تعد تُستخدم عسكريًا — يتم حشوها بالكثير من المتفجرات ومادة مشعلة، ويتم إدخالها إلى المنزل وتفجيرها، ولن يبقى من المبنى شيء” ويضيف: “لقد تم تسوية المشهد بالكامل – لا يُرى سوى أنقاض”.
عاد جمعة سلامة، معلّم من محافظة رفح على الحدود الجنوبية مع مصر، إلى منزله في كانون الثاني/يناير عقب إعلان وقفٍ لإطلاق النار. ويستعيد مشهداً مشحوناً بالتوتر آنذاك، حيث كانت الطائرات المسيّرة تحلّق في الأجواء لمراقبة سكّان رفح من الفلسطينيين، فيما واصلت القوات الإسرائيلية تنفيذ عمليات هدم انتقائية للمنازل.
لم يخف سلامة ارتياحه حين وجد منزله ما زال قائمًا وقد لحقته فقط “أضرار سطحية” خلال الأشهر السبعة السابقة، بعد اجتياح القوات الإسرائيلية لرفح وتهجير نحو مليون شخص. لكن فترة الهدوء لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار في 18 آذار/مارس، وأصدرت أوامر بإجلاءٍ قسري جديد، قبل أن تشرع في هدم ما تبقى من مبانٍ في رفح، معلنة معظمها منطقة عازلة يحدّها شمالاً ممر موراغ العسكري الجديد، وهو محور تسيطر عليه إسرائيل يمتد من الشرق إلى الغرب عبر قطاع غزّة، ويعزل رفح عن خان يونس.
كان سلامة يتابع مصير منزله عبر صور أقمار صناعية يرسلها له صديق، ويقول: “بعد ثلاثة أشهر من مغادرتنا كان نصفه مدمّراً، وبعد شهر آخر مُسحت المنطقة بأكملها”. ويضيف بمرارة: “هذا ثمرة عمري ينهار. بنيته على مدى 12 سنة لأنني لم أتمكن من دفع تكلفته دفعة واحدة”. وعلى امتداد محيط القطاع، واصلت القوات الإسرائيلية تدمير منشآت مدنية داخل منطقة عازلة موسّعة بعمق يقارب كيلومتراً. كما أزيلت جميع المنشآت العمرانية في أربعة ممرات عسكرية عريضة على الأقل، بينها ممر موراغ، وذلك وفق ما أظهرته صور الأقمار الصناعية.
أما بيت لاهيا، المركز الزراعي في شمال القطاع والمتاخم لإسرائيل والبحر المتوسط، فقد أُدرجت بدورها ضمن منطقة عازلة ولم يعد بإمكان الفلسطينيين الوصول إليها. باتت المنطقة التي كانت تُعرف بالفراولة والحمضيات وأشجار الجميز القديمة اليوم خارج حدود المزارعين الذين ارتبطوا بها لعقود.
كان أشرف شُفَيعي وإخوته الأربعة يزرعون أراضي عائلتهم في بيت لاهيا حتى أجبرتهم الغارات وأوامر الإخلاء على الرحيل في الشهر الأول من الحرب. وعلى مدى عام كامل، حوّلوا الأموال لأقاربهم الذين قرّروا البقاء رغم المخاطر لشراء الوقود وتشغيل المزرعة. لكن عند عودتهم خلال وقف إطلاق النار، اكتشفوا أن منازل العائلة الخمسة قد سُوّيت بالأرض، فيما جُرّفت البساتين والحقول ودُمّرت المعدات الزراعية.
يقول شفيعي: “اجتاح الجيش أرضنا في تشرين الأول/أكتوبر 2024 واقتلع الأشجار. جرفوا أشجار التفاح اللّهواني المحلية والحمضيات التي زرعها أجدادنا. كل ما بقي واقفًا ذبُل بسبب انقطاع المياه. حاولنا إصلاح شبكة الري لكن الآبار دُمّرت”.
كما دمّرت القوات الإسرائيلية استثمار شقيقه هاني البالغ 8 ملايين دولار في مشروع زراعي على مساحة 24 فداناً كان يخطط لتصدير الفراولة منه إلى إسرائيل. ومن الولايات المتحدة، حيث يقيم منذ 44 عاماً، يقول هاني شُفَيعي إن حلمه كان خلق فرص عمل لأبناء بلده. ويضيف: “أنجزت آخر مرحلة من البيوت البلاستيكية قبل الحرب بعام، وزوّدت جميع المضخات بألواح شمسية، لكن كل شيء اختفى. لم يبقَ شجرة واحدة”.
نشرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في آب/أغسطس تقريراً استند إلى صور الأقمار الصناعية وُصفت نتائجه بـ”الواقع الصادم”، إذ أظهر أنه مع اقتراب شبح المجاعة في غزّة، فإن 98.5 بالمئة من الأراضي الزراعية إمّا متضررة أو لم يعد ممكنا الوصول إليها أو الاثنين معًا. ووفق بيانات الفاو، فقد كان قطاع غزّة يضم 15 ألف هكتار من الأراضي الزراعية قبل الحرب، لم يتبقَّ منها سوى 232 هكتاراً صالحة للزراعة. كما تضرر نحو 83 بالمئة من آبار الري، فيما تعرّضت الثروة الحيوانية لخسائر جسيمة.
يؤكّد نيل مارسلاند، كبير المسؤولين الفنيين في منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، أن تدمير الأراضي الزراعية في غزّة لا يقتصر على حرق المحاصيل واقتلاع الأشجار، بل يشمل أيضاً آثار القصف والتلوث الناجم عن تضرر شبكات الصرف الصحي. ويضيف أن تحركات الدبابات والأسلحة الثقيلة ألحقت أضرارًا بالغة بالتربة في بعض المناطق، ما جعل الإنتاج الزراعي أمراً مستحيلاً.
وتقدّر الأمم المتحدة أن كل متر مربع في غزّة يحتوي في المتوسط على 383 كيلوغراماً من الركام. ويقول مارسلاند: “من المؤكد أن النزاع لوّث التربة والمياه الجوفية، لكن أي عملية لإعادة تأهيل التربة والمياه لن تبدأ قبل إزالة هذا الركام”.
ورغم اعتماد سكان غزّة على المساعدات الغذائية حتى قبل الحرب، فإن نحو 15 بالمئة من السعرات الحرارية التي كانوا يحصلون عليها كانت تأتي من الإنتاج المحلي، لا سيما البروتين الحيواني من الثروة الحيوانية والدواجن والألبان. لكن الأرقام الحالية صادمة: لم ينجُ سوى 1.4 بالمئة من الدواجن، و3.8 بالمئة من الأبقار، و26 بالمئة من الأغنام. ويشرح مارسلاند أن “الزراعة لم تكن مجرد مصدر للغذاء، بل أيضاً ركيزة للمعيشة، حيث كان كثيرون يعتمدون عليها لكسب دخلهم”.
وتشير تقديرات الفاو إلى أن ربع سكان غزّة كانوا يعتمدون كلياً أو جزئياً على الزراعة والصيد قبل الحرب. وفي شباط/فبراير الماضي، قدّرت المنظمة تكلفة إعادة تعافي القطاع الزراعي بـ 7.4 مليار دولار، مع توقع أن تكون التكلفة الحالية أعلى. ويضيف مارسلاند: “قد نشهد بعد انتهاء النزاع عودة تدريجية للزراعة خلال العقد المقبل، لكن الوصول إلى تعافٍ كامل وآمن وواسع النطاق قد يستغرق عقوداً”.
فقَدَ الحاج أبو هاني، مزارع من بلدة القرارة شمال خان يونس، بدوره أرضه التي أُدرجت ضمن المنطقة العازلة. وبعد أن نزح خمس مرات منذ بداية الحرب، يعيش اليوم في خيمة بدير البلح. أرضه التي كانت تعيل أسرة من 48 فرداً أصبحت خارج متناوله منذ انتهاء وقف إطلاق النار في آذار/مارس. ويقول: “كان لدي أشجار زيتون و17 رأساً من الغنم وبقرتان، لكن لم يبقَ شيء. بعض الحيوانات قُتل في القصف، والبعض الآخر نفق جوعاً وعطشاً بعد مغادرتنا. هُدم المنزل وجُرفت الأرض”.
لا يواجه الفلسطينيون في غزّة مجرد صدمة متواصلة وجوع وانهيار لمجتمعهم، بل أيضاً غموضاً يحيط بمستقبل وجودهم في وطنهم المدمّر. فقد تبنّت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة خطة أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في شباط/فبراير تقضي بترحيل جماعي للسكان إلى مصر والأردن، وإعادة تطوير القطاع ليصبح “ريفييرا الشرق الأوسط”. لكن ترامب تراجع لاحقاً عن هذا الطرح، إذ نص مقترحه الأخير لوقف إطلاق النار على استبعاد الاحتلال أو الضم الإسرائيلي، وتضمّن بنوداً لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية. لكن الجداول الزمنية بقيت غامضة، بما في ذلك موعد انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، حيث تصر إسرائيل على الإبقاء على المنطقة العازلة حوله.
قبل إعلان خطة ترامب، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يكرر الحديث عن “الهجرة الطوعية” للفلسطينيين، وهاجم في الأسابيع الأخيرة مصر متهماً إياها بحرمان الغزيين من “حقهم الإنساني” في مغادرة منطقة حرب. وفي السياق ذاته، وصف وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش – الذي انتقد نتنياهو لقبوله اتفاق وقف إطلاق النار – غزّة بأنها قد تتحول إلى “فرصة عقارية كبرى” يمكن مشاركتها مع الولايات المتحدة. كما تعهّد نتنياهو بأن إسرائيل “ستُنهي المهمة” في غزّة إذا لم توافق حركة حماس على الاتفاق الذي تقوده الولايات المتحدة.
وسط هذا الدمار والضبابية، يبدو التفكير في المستقبل أمراً محبطاً للشباب الفلسطيني. وتذكر شهد غسان، طالبة في السنة الخامسة بكلية طب الأسنان: “علينا أن ننسى المستقبل الآن، فكل الطرق تبدو مسدودة”. وتوضح أنها تكافح منذ عامين بسبب ضعف الاتصال بالإنترنت لحضور محاضراتها الجامعية عبر الإنترنت، والتي تقتصر على المواد النظرية ولا تشمل التدريب العملي الضروري لممارسة المهنة. وتضيف: “في الظروف الطبيعية كنت سأتخرج هذا العام، لكن كل ما أريده الآن هو فرصة لمغادرة غزّة مع عائلتي والنجاة من هذه الإبادة”.
المصدر: فاينانشال تايمز