منذ بداياته، حمل المشروع الصهيوني في فلسطين منطق العقاب الجماعي كجزءٍ أصيلٍ من أدواته الاستعمارية، فسياسات الهدم والمصادرة والتهجير لم تكن استثناءات ظرفية، بل ممارسة ممنهجة تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين جماعيًا، ومعاقبة المجتمع بأسره على أفعال أفراده.
ومنذ لحظة احتلال الضفة الغربية عام 1967، لم تقتصر سياسات الاحتلال على العنف المباشر، بل وظَّفت البنى التحتية ذاتها كأداة عقاب جماعي؛ فالطرق الالتفافية، والحواجز، وجدار الفصل العنصري لم تُنشأ لتسهيل التنقُّل، بل لتفكيك الجغرافيا الفلسطينية وإعادة تشكيلها بما يخدم السيطرة الاستيطانية.
لقد أقام الاحتلال هذه البنى التحتية الاستعمارية في الضفة الغربية لتتجاوز وظيفتها التقنية، بحيث تُصبح أدوات سياسية واستراتيجية تُعمِّق العزلة المكانية، وتُفكك الروابط الاجتماعية والاقتصادية، وتُرسِّخ المستعمرات في قلب المشهد الاستيطاني. وقد تسارعت وتيرة هذا الاستخدام فيما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لتُصبح البنية التحتية نفسها وسيلة خنق يومي للمجتمع الفلسطيني.
يأتي هذا المقال بغرض تسليط الضوء على مظاهر البنية التحتية الاستعمارية في الضفة الغربية، ويعمل على تتبُّع تصاعد أدوارها الوظيفية في لحظة ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كما يستعرض الآليات القانونية الإسرائيلية التي منحت هذه البنى غطاءً تشريعيًا رسَّخ وجودها، وحوَّلها إلى جزءٍ من منظومة السيطرة الاستعمارية اليومية.
من السيطرة إلى التقطيع
منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، لم تتوقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عن إعادة إنتاج جغرافيتها بما يتلاءم مع اعتبارات السيطرة الأمنية والتوجهات الأيديولوجية لمشروعها الاستيطاني، حيث جرى استخدام ذرائع “الأغراض العامة” لاستباحة مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، وكان أبرز هذه الاستخدامات شق الطرق التي خُصِّصت لخدمة المستعمرات وربطها بالمراكز الحضرية داخل الخط الأخضر، أو وصلها ببعضها البعض على امتداد الضفة من الشمال إلى الجنوب. وبذلك، تحوَّلت مشاريع الطرق إلى أداة موازية للمصادرة والهدم، تهيِّئ الأرض لتوسيع المستعمرات وتمنع الفلسطينيين من تطوير فضائهم العمراني.
وقد ترافق إنشاء المستعمرات دومًا مع توسُّع سريع في شبكات الطرق والبنى التحتية المُكرَّسة لخدمتها، فبحلول عام 2013 بلغ طول شبكة الطرق الاستيطانية نحو 980 كيلومترًا، التهمت قرابة 294 ألف دونم من أراضي الضفة، أي ما يعادل أكثر من 5% من مساحتها. ومع تزايد النشاط الاستيطاني خلال العقد الأخير، ارتفع طول هذه الشبكة إلى نحو 1200 كيلومتر بحلول منتصف عام 2025، لتبتلع ما يقارب 7% من الضفة، هذا بالإضافة إلى آلاف الدونمات المحيطة بهذه الطرق، التي تحوَّلت إلى مناطق محظورة على الفلسطينيين، سواء للبناء أو للاستخدام الزراعي. ورغم أن بعض المقاطع تُفتح أمام حركة الفلسطينيين بشكل محدود، إلا أنها صُمِّمت أساسًا لتخدم المستعمرات وتقطع أوصال القرى والمدن الفلسطينية عن بعضها البعض.
وعلى خلاف المنطق الطبيعي لشبكات الطرق، التي تُشيَّد لربط التجمُّعات السكانية وتيسير الحركة بينها، جاءت الطرق الاستيطانية لتؤدي وظيفة معاكسة تمامًا، هي عزل التجمعات الفلسطينية، وتطويقها، ومنع تواصلها الجغرافي والديمغرافي.
لقد صُمِّمت هذه الشبكات باعتبارها “طرقات معادية”، تولِّد بيئة مكانية خانقة، وتبتلع أراضي الفلسطينيين بغضِّ النظر عن طبيعتها أو طوبوغرافيتها، بما يحول دون توسُّع العمران الفلسطيني ويضمن تفوُّق المستعمرات. وبذلك، أصبحت البنية التحتية الاستيطانية أداة مركزية لتقطيع أوصال الحيّز المكاني الفلسطيني وإعادة هندسته وفق مبدأ جوهري يقوم على أنَّ كل ما هو غير فلسطيني سيتحوَّل إلى إسرائيلي.
تسريع وتيرة الإغلاق والعزل
يشير الباحث أشرف أبو عرام في ورقته “بلمح البصر: البُنية التحتية وآليات الإغلاق السريع للضفة الغربية” إلى أن الإغلاق الشامل الذي فرضته “إسرائيل” عقب عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم يكن مجرد رد فعل ظرفي، بل تفعيلًا متكاملًا لبنية استعمارية مُركَّبة جرى إعدادها مسبقًا لتكون جاهزة للتشغيل الفوري. ففي غضون ساعات قليلة، أُعيد تنشيط شبكة الأدوات المادية كالطرق الالتفافية، والحواجز، والجدران، بالإضافة إلى الأدوات الرقمية وأنظمة التصاريح البيومترية، لتُغلق الضفة الغربية على نفسها، مُحوِّلة المدن والقرى الفلسطينية إلى فضاءات معزولة وشبه محصورة تحت السيطرة الكاملة.
ويلاحظ الباحث أن الحواجز العسكرية، وشبكة القواعد والمستعمرات، لعبت دورًا محوريًا بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إذ تم تحريك نحو 898 حاجزًا وتفعيل آلاف الكيلومترات من الطرق الالتفافية التي أتاحت تنقُّل المستوطنين والقوات الإسرائيلية بسرعة، بينما حُرم الفلسطينيون من الوصول إليها، ما زاد من عزلة التجمُّعات السكانية وقوَّض التواصل الاجتماعي والاقتصادي بينها.
إلى جانب ذلك، تُظهر مشاركة المستوطنين في عمليات الإغلاق نموذجًا هجينًا للسيادة، يجمع بين السلطة الرسمية للدولة والأدوار المحلية للمستوطنين، ويحوِّل السيطرة الاستعمارية إلى ممارسة يومية متكاملة، قابلة للتفعيل الفوري دون الحاجة إلى قرار مركزي.
كما تبرز مجموعة الأدوات الرقمية والقانونية، التي فُعِّلت في فضاء الضفة الغربية بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كآليات للتحكُّم الكامل في مستويات الحصار بما يتلاءم مع المزاج الاستعماري ورغباته في ممارسة سياسة العقاب الجماعي؛ من الجدار الفاصل الذي يحاصر الفلسطينيين داخل مساحات محددة، إلى نظام التصاريح البيومترية الذي يُحوِّل التنقُّل إلى إذلالٍ تحكُّمي، وأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تُصنِّف الأفراد وفق “درجة الخطر”، فضلًا عن المعابر الخارجية التي تُغلق لعزل الضفة عن العالم الخارجي.
تُشكِّل هذه الأدوات نظام سيطرة استعماريًّا متكاملًا تُديره الدولة والمستوطنون معًا، وتأتي لتُبرز الطبيعة المركَّبة للبنية التحتية الاستعمارية، المُصمَّمة لتكون جاهزة للتفعيل الفوري وفرض الإغلاق والعزل متى ما أراد الاحتلال ذلك.
الآليات القانونية ودورها في ترسيخ البنية التحتية الاستعمارية
منذ عام 1967، أقامت “إسرائيل” بنية قانونية متينة شكَّلت الأساس للسيطرة الاستعمارية، فقد أصدرت أوامر عسكرية وتشريعات مدنية منحت القائد العسكري سلطة مطلقة على الحركة والمكان والموارد، مع اعتماد سياسات مصادرة الأراضي تحت مسمَّيات متعددة مثل “أراضي دولة”. وقد أسَّس هذا النظام القانوني المزدوج، الذي يُطبِّق القانون المدني على المستوطنين والعسكري على الفلسطينيين، لتمييز مؤسساتي يُتيح فرض إجراءات طوارئ شاملة على المجتمع الفلسطيني، ويُهيِّئ الأرض لتقسيم جغرافي سريع يمكن تفعيله في حالات الإغلاق الطارئ.
منذ لحظة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، سرَّعت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة خطوات ترسيخ السيطرة على الضفة الغربية، فقد نقلت صلاحيات الإدارة المدنية إلى مؤسسات حكومية مدنية، وأعطت وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش سلطات واسعة على المستعمرات والبناء، مع تبسيط إجراءات الموافقة على البناء وتحصين مشاريع الاستيطان قانونيًا. كما صادق الكنيست على قوانين لتطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات، وتوسيع صلاحيات لجان القبول، وتمكين سلطة الآثار من فرض سيطرتها على المواقع الأثرية. كل ذلك خلق غطاءً قانونيًا قويًا لتوسيع الاستيطان ومصادرة الأراضي، وترسيخ البنية التحتية الاستعمارية على الأرض تدريجيًا.
ختامًا، يتضح أن البنية التحتية الاستعمارية في الضفة الغربية شكَّلت، منذ احتلالها عام 1967، أداةً محورية للسيطرة والفصل، حيث تُمثِّل شبكة الحواجز والطرق الالتفافية، إلى جانب الأدوات الرقمية والقانونية، وسيلةً لتجزئة الأرض والتحكُّم بالسكان. وقد كثَّف الاحتلال من الاعتماد عليها بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لتُصبح آلية مباشرة للعزل والإغلاق، مدعومة بإطار قانوني يُعزِّز الاستيطان وفرض السيادة، ما يُبرز دورها كرافعة يومية للعقاب الجماعي وإرساء الهيمنة على الأرض.
المراجع:
- مجدي المالكي وأحمد عز الدين أسعد، العنف الاستيطاني وتفكيك المكان: التمهيد لضمّ الضفة الغربية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، https://bit.ly/4o1oOpE
- أشرف أبو عرام، “بلمح البصر: البُنية التحتية وآليات الإغلاق السريع للضفة الغربية”، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، https://bit.ly/3Wkdyc7