حالة باسم يوسف دائمًا ما تثير الكثير من الزخم الذي يصاحبها، فمنذ أن كان الإعلامي الكوميدي الساخر يقدّم برنامجه “البرنامج” في مصر، انقسم حوله كثيرون؛ بين مناصرين رأوا فيه تعبيرًا عن المناخ الديمقراطي الليبرالي الذي شكّل مزاج الثوار عقب ثورة 25 يناير عام 2011، وبين مناهضين لكل ما يمثّله، خصوصًا أنصار جماعة الإخوان المسلمين الذين حمّلوه مسؤولية تمرير الانقلاب على الديمقراطية في مصر، رغم أنّ الرجل صرّح في أحاديث خاصة، بعيدة عن البرنامج، بأنه مع إكمال الرئيس مرسي فترته الرئاسية كاملة.
ملك مُتوّج على عرش الزخم
إن حالة الزخم والانقسام حول تقدير الموقف والرجل، ووصف “الأراجوز” تحديدًا، عادت لتلاحق باسم يوسف من جديد بعد عشر سنوات قضاها في المنفى الاختياري، عاش خلالها في الظل بعدما كان “رجل الساعة” ومركز المشهد في مصر، فباستثناء بعض المناسبات القليلة التي عاد فيها للظهور خلال العقد الأخير، لم يتجاوز حضوره واحتلاله للترند أكثر من ومضة عابرة.
إلا أن ما حدث بعد السابع من أكتوبر شكّل نقطة تحوّل جديدة في مسيرته، إذ عاد باسم يوسف ليكتشف طريقًا مختلفًا إلى النجومية وصدارة الشاشة، بعيدًا عن الشأن المصري الذي صنع شهرته الأولى، وذلك حين اختار أن يدافع بطريقته عن القضية الفلسطينية من خلال ظهوره المتكرر في برنامج “بيرس مورغن” الشهير. وعلى مدار سنة ونصف تقريبًا، تحوّل باسم من فترة إلى أخرى إلى بطلٍ شعبيٍّ لدى البعض، وعدوٍّ لدودٍ لدى آخرين.
كذلك، لم ينقطع ظهور باسم يوسف ضيفًا على عدد من برامج البودكاست التي تناقش القضية، وقد بادر بذاته إلى إنتاج كليب أغنية ساخرة، بالشراكة مع المغني أمجد النور، تحت عنوان “محاكمة النتن”، حقّق ما يقارب 2.5 مليون مشاهدة على اليوتيوب، وفيه كان يسخر من “نتنياهو” وموقف المجتمع الدولي من الإبادة، ومدى شكلانية القوانين والمبادئ التي تنادي بها الولايات المتحدة
لم يكن حضور باسم على الساحة طيلة الفترة الماضية خاليًا من الجدل الذي اعتادت حالته خلقه، فمنذ انضمامه إلى برنامج “آراب غوت تالنت”، صُعق الجميع، فالبرنامج الذي يُعرض على شبكات “إم بي سي” السعودية، التي كانت قبلها بوقت قليل قد استجلبت الكثير من الجدل والإدانة بسبب ذكر مقتل قائد حماس “يحيى السنوار” في سياق تقرير يتحدّث عن “قرن الخلاص من الإرهابيين”، الذي وضع أسامة بن لادن جنبًا إلى جنب مع إسماعيل هنية والسنوار. وبالإضافة إلى ذلك، يحصل البرنامج نفسه على حقوق الرعاية من خلال عدد من الشركات التي تدخل في إطار حملة المقاطعة للشركات التي تموّل الإبادة في فلسطين، وكان هذا كافيًا لإعادة توجيه الاتهامات لباسم حول كونه منتفعًا أو منافقًا وكالعادة “أراجوز”.
ومع انقضاء موجة الجدل حول “آراب غوت تالنت”، وابتعاد باسم قليلًا عن الأضواء، عاد مرة أخرى، ولكن هذه المرة بشكلٍ مدوٍّ، حين أعلنت قناة “أون”، التابعة لشركة المتحدة للإعلام – الذراع الإعلامية للمخابرات المصرية – عن عودة باسم يوسف إلى شاشتها في مصر. وهكذا، بدا وكأن النظام الذي نفى باسم بالأمس يمدّ له اليوم ذراعيه مرحّبًا، لتعود سلسلة الشكوك القديمة وتُبعث من جديد: هل باسم يوسف هو الساخر الحرّ الذي دفع ثمن كلمته، أم “الأراجوز” الذي لم يغادر المسرح قط؟ فمن هو حقًا؟
الدجاجة التي تبيض ذهبًا
لقد جلب الظهور مع بيرس مورغن الأضواء مرة أخرى، فعلى مدار سنتين من الحرب، حقّقت مداخلات باسم الخمس أكثر من 37 مليون مشاهدة على اليوتيوب، وإحداها أصبحت الأعلى في تاريخ المشاهدة على قناة بيرس على اليوتيوب. لقد أصبح باسم، بالنسبة لبيرس، دجاجةً تبيض ذهبًا، وبالعكس من ذلك، كان باسم مستفيدًا من تلك الأضواء. ولكن، هل استفادت القضية الفلسطينية؟
حينما يتعلّق الأمر بخطاب باسم يوسف، جادًّا كان أو هازلًا، فهو يحتوي على الكثير من المشكلات البنيوية التي تُعطي معرفة ذات عُوار عن القضية الفلسطينية ومفاهيمها، وهو ما يمكن للمرء أن يأخذه على صاحبه دون اتّهامه أو الخوض في نواياه.
حينما ننظر في مقابلة باسم الأولى مع بيرس مورغن في أكتوبر 2023، سنجد أن باسم ظل يتهرّب من سؤال بيرس المتكرّر، والذي أصبح إكليشيهيًا: “هل تُدين حماس؟”. لم يقدّم باسم إجابة واضحة، بالإدانة أو الموافقة، بل قدّم إجابة بذيئة جدًا في محاولة للهروب من السؤال، والتركيز بالأساس على قتل المدنيين العُزّل، حينما قال: “أنا لست المتحدث باسم حماس؟ أنا أكرههم أساسًا، *** حماس”.
إن تلك واحدة من الأزمات البنيوية في خطاب باسم يوسف الذي يقدّمه عن القضية الفلسطينية، وهي إدانة حماس، ليس كإدانة لمنهج سياسي ينطلق من خلاف حول حركة تحرر وطني والمسالك التي يمكن أن تسلكها أو لا تسلكها، بل إدانة قائمة على فكرة أن حماس، بالأساس، هي حركة إرهابية بالفعل طالما أنها ذات أيديولوجيا إسلامية، وهو الخطاب الذي تُروّج له دومًا الحكومات الإسرائيلية والأمريكية.
ذلك الأمر أكّده باسم بشكل ضمني في المقابلة الثانية، التي كان فيها أكثر جهوزية لأدائه المسرحي، حين جاء بلباس على شكل العلم الفلسطيني، وقدّم لبيرس هدية: زجاجة من زيت الزيتون الفلسطيني، في نوفمبر 2023. في تلك المقابلة، قال باسم: “الإرهاب فيروس، حينما يأتيك مريض بالإنفلونزا فأنت تعطيه اللازم لتقوية مناعته ضد الفيروس ليتخلّص منه، أما إسرائيل فقد أضعفت الجسد الفلسطيني، مما جعله غير قادر على التخلّص من التطرّف والكراهية، يجب على إسرائيل أن تعامل الفلسطينيين معاملة المريض بالإنفلونزا، وبالعكس، هي تقدّم الأموال إلى ذلك الذي يُبقي على المرض وتُبقيه في السلطة”.
لقد كان باسم يشير، بطبيعة الحال، إلى سماح نتنياهو بدخول الأموال القطرية إلى قطاع غزة عام 2018، في خطوةٍ هدفت أساسًا إلى إضعاف مسار الحوار الوطني الفلسطيني الذي انعقد في القاهرة عام 2017، إلا أنه، لو أراد تناول القضية بموضوعية، كان يمكنه أيضًا أن يتطرّق إلى مسألة الانقسام الفلسطيني الداخلي، ومدى ما سبّبه من إنهاك للحركة الوطنية الفلسطينية وإضعاف لموقفها السياسي، لكنه اختار الطريق الأسهل، مكرّرًا الطرح الشائع الذي يصنّف حركة حماس كتنظيمٍ إرهابي، ويعتبر أنّ “إسرائيل” سمحت لها بالنمو فقط من أجل تقويض المشروع العَلماني لمنظمة التحرير الفلسطينية.
هل تُجدي الكوميديا أم تُسخف الإبادة؟
بإمكان الكوميديا أن تُقدّم خدمات جليلة لأي سردية تريد قضية ما أن ترسّخها عن نفسها، ولن نذهب بعيدًا لنفتّش في التاريخ المسرحي والنظريات الأرسطية لإثبات ذلك، في حين أنه يمكننا أن نستدل بأمثلة من العصر الرقمي الذي نعيشه.
حينما ننظر إلى مسألة الهولوكوست والتعبير عنها سينمائيًّا بقوة وشهرة، منذ بداية التسعينيات وحتى يومنا هذا، سنجد حالتين: في البداية، عام 1993، كان هناك فيلم شديد القتامة لستيفن سبيلبرغ اسمه “قائمة شندلر”، وهو الفيلم الذي حاز 7 جوائز أوسكار وحقّق إيرادات حول العالم بلغت 320 مليون دولار. لقد أصبح “قائمة شندلر” رمزًا للمعاناة اليهودية أثناء الحرب العالمية الثانية، نظرًا لما يحويه من مشاهد القتل والتعذيب المعنوي والجسدي، حيث يقتل الضباط الألمان يهودًا من باب الترفيه والمزاج أحيانًا.
وفي عام 1997، قدّم المخرج الإيطالي “روبرتو بينيني” فيلمًا من بطولته، اسمه “الحياة حلوة”، وهو كذلك عن الهولوكوست. ورغم خلوّه من مشاهد العنف والقتل، استطاع الفيلم أن يحقّق 220 مليون دولار، ويحوز 3 جوائز أوسكار، وشعبيته توازي شعبية “قائمة شندلر” وفقًا لما تعرضه أعداد المشاهدات في مواقع قواعد بيانات الأفلام العديدة. لقد خدم العملان سردية الهولوكوست، مرة بطريقة مأساوية كما كانت، ومرة بطريقة كوميدية مستوحاة من قلب المأساة، ولم يكن أيٌّ منهما أقلّ وفاءً للذكرى، طالما أنه لم يقم بتسخيف الإبادة التي يُقدّسها العالم الغربي ويعاملها معاملة التابو.
يُعرّف موقع “اللجنة اليهودية الأمريكية” مصطلح “تسخيف الهولوكوست” بأنه يتعلّق بكل من يسخر من الهولوكوست، أو يلجأ إلى إسقاط أفعال أخرى على تلك المأساة، مثل أن نقول إن “غزة هي أوشفيتز العصر الحديث”، أو أن “نتنياهو يُشبه هتلر”.
يُعدّ نقد باسم يوسف من تلك الزاوية نقدًا يدور في نفس الأزمة البنيوية في خطاب باسم يوسف؛ فكما ينطلق باسم من السردية الغربية عن حماس، ينطلق النقد تجاهه من تلك الزاوية من فخ مصطلحات غربية كذلك، تتعلّق بأحداث معيّنة ومواقف محدّدة، وهي تبتعد كثيرًا عن خطاب باسم يوسف. فإذا كان من الصائب أن يُنتقد باسم بناءً على ذلك المصطلح، فسيكون الانتقاد صائبًا من موقع “اللجنة اليهودية الأمريكية” نفسه، حيث كان باسم يذكر كثيرًا في حواراته الهولوكوست ويشبّهه بما يحدث في غزة، وليس في خطابه ومواقفه بحدّ ذاتها فيما يخصّ فلسطين.
في كل الأحوال، لقد أفاد خطاب باسم يوسف المُمرَّر من خلال بيرس مورغن، رغم مشاكله، كثيرًا في ترويج القضية للسان الناطق بالإنجليزية، بل وفي تعريف عرب من الجيل الثالث والرابع في الغرب، ضعيفي الإلمام بقضايا الشرق الأوسط عمومًا.
علم باسم أن ظهوره مع بيرس مورغن، مثلما جعله بطل الشعب، صنع منه عدوًا كذلك، فلقد طالته ألسنة النقد كثيرًا. دافع باسم في تصريحه في منتدى الإعلام العربي في دبي، في يونيو 2024، قائلًا: “الكثير يتهمني بأنني أستفيد من الحروب والثورات، إذا تكلمت أُهاجم، وإن لُذت بالصمت سُأهاجم كذلك”.
في الواقع، لا يؤمن باسم يوسف بأن تقديمه الضحك في ظلّ المآسي شيء مشين أو جالب للعار، ففي أحد حواراته التي نُشرت مؤخرًا مع “هوليوود ريبورتر”، الجريدة السينمائية الشهيرة في الولايات المتحدة، قال باسم إن عودته للأضواء كانت بفضل القضية الفلسطينية، وهذا لا يتعارض مع تقديمه العروض المُضحكة وتناول القضية على رأس أولوياته من أجل كسب لقمة العيش.
ولكن، لماذا يختار بيرس مورغن، أو يختاره بيرس فيوافق هو على دعوته؟ لا يُمكننا أن نقرأ اختيار باسم المشاركة المستمرة مع بيرس مورغن إلا على ضوء تصريحاته هو، فالبينة على من ادعى، خاصة أن باسم هاجم في منتدى الإعلام العربي مورغن قائلًا إنه إعلامي يعتاش على الترند، ولا يهمّه على الإطلاق تغيير وجهة نظره، وهو يشارك فقط معه لأنه يستهدف القاعدة الجماهيرية العريضة التي تتابعه في الغرب.
ولكن، ظهور باسم مع بيرس في أكتوبر 2024، جعل الكثير يتّهمونه بالنفاق، ففي صورة حميمية جدًا التقطها الاثنان ترويجًا للحلقة المنتظرة بمناسبة مرور سنة على الحرب واندلاع الحرب في لبنان كذلك، بدا أن هناك نوعًا من العلاقة الحميمية الشخصية جدًا في علاقة باسم مع مورغن المتّهم بالانبطاح للسرديات الصهيونية. فما يظهر حقًّا أن باسم يحب بيرس كشخص، فبعد أن هاجمه في يونيو 2024، ها هو يعود للظهور معه مرة أخرى، وبكل ترحاب وحب، في أكتوبر 2024.
الحق لا يُعرف بالرجال
في العموم، إن كان الجمهور يرى باسم بطلًا للشعب أو عدوّه، فكيف يرى باسم نفسه، وكيف يرى جمهوره؟ إن هذا من اللازم الإطلاع عليه من أجل تقدير وتقييم الرسالة ومُرسِلها بشكل عادل في ذلك السياق.
هناك أزمة أخرى في مسألة باسم يوسف، تتعلّق بالجمهور؛ فيبدو أن الجمهور العربي المتفاعل والمتلقّي يتفاعل بحماس يفوق كثيرًا قدرات صاحب الرسالة، إذ يُدرك باسم يوسف أن قضية فلسطين قضية أكبر منه كثيرًا، وأنها قضية حق لمجرّد أنها قضية حق، وليس لأنه يتبنّاها، وهذا ما قاله ضمنيًا في أحد حواراته لجريدة “الغارديان” البريطانية:
“أنا ممثل كوميدي، أرفض تعريفي كناشط أو مناضل من أجل الحرية، فتلك ليست وظيفتي. إن تعريفي كناشط أمر يتعلّق بالمعجبين ولا يتعلّق بي. هناك الكثير من اليأس يجعل الناس يُلقون بثقلهم على أناس مثلي حين يخذلهم السياسيون والإعلاميون، وبذلك تتحوّل تلك التوقّعات إلى أماكن وأشخاص لا يجب أن تكون عليهم. أنا إنسان، ولي حدود، ولا يمكن أن أُمثّل قضية كبيرة بهذا الحجم، حيث في بعض الأحيان، بينما أحاول الالتزام قدر الإمكان، أجد أن الأمر فاق قدرتي”.
إن كلمات باسم يوسف وتقديره لحالة التفاعل مع رسالته ورؤيته لم تُجانب الصواب بالفعل، رغم أنها لا تُعفيه، في الوقت نفسه، من كونه يُروّج الكثير من السرديات الخاطئة ببلاهة ومسرحية ينتظر عليها التصفيق، وما يجعل باسم يوسف بطل الشعب وعدوّه، ويجعل حالته مُربكة على الدوام، وستظل، هو أن صراعًا يُخاض بين الجماهير المُحبطة التي تحاول أن تخلع عليه البُردة النبوية، بينما يتهرّب دومًا من لبسها.