طُرح خلال اجتماعٍ ضمّ عدّة وزاراتٍ سورية مقترحُ تقديمِ قروضٍ حسنةٍ بلا فوائد للمزارعين، على أن تُعدّ وزارة الزراعة دراسةً تفصيليةً تُعرض لاحقًا على الجهات المعنية، في وقتٍ تمر فيه البلاد بأسوأ موجةِ جفافٍ منذ 36 عامًا، ويُواجه المزارعون صعوباتٍ في تأمين تكلفة المحروقات والأسمدة والعمالة والنقل، وتراجعًا في الإنتاج.
عُقد الاجتماع برعاية الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية في 27 من سبتمبر/ أيلول الماضي، وضمّ وزراء الزراعة والمالية والطاقة، إلى جانب رئيس الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية، حيث ناقش المجتمعون استعداداتِ الموسم الزراعي الشتوي وسبلَ دعم المزارعين، وطُرح خلاله مقترحُ تقديمِ القرضِ الحسن، على أن تتولى وزارة الزراعة إعدادَ دراسةٍ تفصيليةٍ حول آليات التنفيذ والفئات المستفيدة، في حين أبدت وزارة المالية استعدادَها لتخصيص التمويل اللازم فور استلام هذه الدراسة.
يستعرض هذا التقرير مفهومَ القرضِ الحسن، ويعرض شهاداتِ مزارعين حول واقعهم الزراعي وموقفهم من المقترح، إلى جانب آراءِ خبراء لتقييم الإيجابيات والسلبيات، ومدى إمكانية اعتمادِ القرضِ الحسن كأداةٍ لتمويل الزراعة في سوريا.
القرض الحسن.. دعم بلا أرباح
يشير مصطلح القرض الحسن إلى شكلٍ من أشكال التمويل المُقدّم دون فرض أي فائدة أو أرباح على المقترض، ويُمنح عادةً بهدف التخفيف من الأعباء المالية الطارئة أو دعم الأنشطة الإنتاجية، خاصةً لدى الأفراد أو الفئات المتضررة اقتصاديًا.
ويُعاد سداد القرض في وقتٍ لاحقٍ وفق شروطٍ ميسّرة، دون أن يُحقق المُقرِض أي مكسبٍ مالي. كما يُعد القرض الحسن إحدى أدوات التمويل الاجتماعي في النظام المالي الإسلامي، ويهدف إلى تعزيز قيم التضامن والتكافل دون الدخول في معاملاتٍ ربحية.
وضمن تجربةٍ محلية، استخدمت حكومة “الإنقاذ” العاملة سابقًا في إدلب شمال غربي سوريا نموذج القرض الحسن بصيغة قرضٍ عينيٍ موسمي، لدعم محاصيل استراتيجية مثل القمح، إذ مُنح المزارعون مستلزماتِ الزراعةِ الأساسية كالبذار والأسمدة والمحروقات، دون فرض أي فوائد أو زياداتٍ مالية، مع شرط أن يتم السداد بعد الحصاد.
وتنتشر فكرة تقديم القرض الحسن في عدة دول، حيث يُقدَّم غالبًا من خلال بنوكٍ إسلامية ومنظماتٍ خيرية غير حكومية، ويستهدف الفئات الفقيرة والمزارعين على حدٍّ سواء. في باكستان، على سبيل المثال، أُعلن عام 2024 عن تقديم قروضٍ بلا فوائد بقيمة 300 مليار روبية (حوالي 1.2 مليار دولار أمريكي) لدعم المزارعين.
وفي الأردن، قدّمت المؤسسة العامة للإقراض الزراعي قروضًا حسنةً للمزارعين ومربي الثروة الحيوانية، حيث بلغ إجمالي قيمة القروض المصروفة من فرع المؤسسة في محافظة إربد، نحو 2.9 مليون دولار أمريكي، وذلك منذ مطلع عام 2025 حتى يونيو/ حزيران الماضي.
وفي سوريا، لا تزال تفاصيل القرض الحسن المرتقب غير واضحة، حيث اتفق الوزراء في ختام الاجتماع على عقد جلسة متابعة خلال أسبوعٍ لمراجعة تنفيذ التوصيات، وضمان التزام الوزارات المعنية بالإجراءات المتفق عليها. ومع ذلك، لم يُعلن حتى الآن عن موعدٍ محددٍ لهذه الجلسة أو نتائجها في حال انعقادها.
مزارعون يأملون بفترة سداد أطول وشمول محاصيل أكثر
خلال السنوات الـ14 الماضية، تدمرت النُظم الزراعية في سوريا، إذ تعرضت شبكات الري للتلف والضرر أو الدمار، ولا تزال مساحاتٌ زراعيةٌ واسعةٌ مليئةً بالألغام الأرضية ومخلفات الحرب، بينما يواجه المزارعون نقصًا حادًا في مستلزمات الإنتاج، والدعم الفني، وتصريف المحاصيل. كما تفاقمت هذه التحديات بفعل التصحر والصدّمات المناخية.
وفي هذا السياق، يحتاج نحو 16.7 مليون شخصٍ إلى مساعداتٍ إنسانية، ويعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، وفق تقديراتٍ أممية. أما القطاع الزراعي، الذي كان يُشكّل نحو 33% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2011، فتراجع إلى نحو 12%، كما انخفضت نسبة العاملين فيه من أكثر من 30% إلى ما دون 15%.
وشهدت محاصيل استراتيجية مثل القمح والقطن والزيتون تراجعًا كبيرًا في الإنتاج والمساحات المزروعة، بعدما كانت تمثل موردًا رئيسيًا للدخل المحلي. فعلى سبيل المثال، تجاوز متوسط إنتاج القمح بين عامي 1990 و2010 أربعة ملايين طن سنويًا، بينما لم يتجاوز الإنتاج الذي تسلّمته الجهات الرسمية في موسم 2025 نحو 673 ألف طن فقط، وهو أدنى مستوى يُسجَّل منذ عقود.
وخلال الأشهر الثلاثة الماضية، اندلعت حرائقُ واسعةٌ في عدة مناطقَ زراعيةٍ بسوريا، كان أبرزها في غابات الساحل مطلع يوليو/ تموز، حيث احترق أكثر من 15 ألف هكتارٍ من الأراضي الزراعية والحراجية، رغم تدخل فرق إطفاء من تركيا والأردن، بالإضافة إلى الدعم الجوي من طائراتٍ سوريةٍ وتركيةٍ وأردنيةٍ ولبنانية.
ففي ريف إدلب الشرقي، يشير المزارع أحمد الصطوف إلى أن أرضه كانت لسنواتٍ خط تماسٍ واشتباكاتٍ عسكرية، ولم تَعُد صالحةً للزراعة دون تأهيلٍ شاملٍ يشمل البئر، وشبكات الري، والأسمدة، والبذار، والمحروقات. وفي حال ربط القرض بسدادٍ فوريٍ بعد الحصاد قد لا يكون مفيدًا، نظرًا لاحتمال فشل الموسم أو ضعف الإنتاج، وهو ما قد يضعه في ضائقةٍ ماليةٍ جديدة. لذلك يأمل أن تكون مدة السداد أطول وأكثر مرونة.
أما في ريف حماة، فحالة مزارعي الزيتون والفستق الحلبي مختلفة، إذ تحتاج الأشجار إلى عدةِ سنواتٍ لتعود إلى الإنتاج، خاصةً بعد أن تعرضت مساحاتٌ واسعةٌ منها للقطع والتحطيب. وفي مثل هذه الحالات، تصبح شروط القرض غير مناسبة إذا لم تتضمن فتراتِ سماحٍ أطول، أو خططَ سدادٍ تمتدُّ لعدةِ أعوامٍ، بما يتناسب مع دورة حياة المحصول.
ويقول المزارع فضل العلي من مدينة مورك شمالي حماة إنه خسر نحو 120 شجرةَ فستقٍ حلبيٍّ (بعمر 16 عامًا لكل شجرة)، بعد أن اقتلعتها قوات النظام السابق بالكامل. ويضيف أن زرع أشجارٍ جديدةٍ يتطلب سنواتٍ طويلةً من الرعاية، إذ يحتاج الفستق إلى ما لا يقل عن 5 إلى 7 سنواتٍ ليبدأ بالإنتاج، ما يجعل القروضَ قصيرةَ الأجل غير مجديةٍ بالنسبة له ولحالاتٍ مشابهة.
من جانبه، يأمل المزارع حسين الرشام أن يتم تطبيق القرض الحسن في مدينة رأس العين شمال غربي الحسكة، حيث يملك أرضًا زراعيةً مساحتها 78 دونمًا، معتبرًا أن القرض يُوفّر السيولة اللازمة للمزارعين أو المستلزمات لمواصلة أعمالهم الزراعية.
ويقول لـ”نون بوست” إن المزارعين في المدينة لم يتلقوا أي دعمٍ من المصرف الزراعي التابع للحكومة السورية السابقة، ولا من أي جهةٍ أخرى منذ أكثر من 13 عامًا، مؤكدًا أن الواقع الزراعي يشهد تراجعًا كبيرًا، في ظل غياب الدعم الاقتصادي والزراعي، وعدم تبعية المنطقة بشكلٍ رسميٍ لحكومة دمشق حتى اليوم.
هل يحل القرض مشكلات الزراعة؟
مع تراكم الأزمات التي تواجه القطاع الزراعي في سوريا، من تدهور البنية التحتية وشُح الموارد، إلى غياب نُظم تمويلٍ مستدامة، تبقى مقترحات الدعم، ومنها القرض الحسن، إحدى الأدوات المطروحة في مواجهة هذا الواقع، في ظل الحاجة إلى حلولٍ شاملةٍ لا تقتصر على التمويل فقط.
المهندس الزراعي موسى البكر يقول لـ”نون بوست” إن القرض الحسن قد يكون دعمًا مهمًا أو عبئًا على المزارعين، حسب ظروفهم الزراعية، فبالنسبة للمزارعين الذين تتوفر لديهم مياهٌ كافيةٌ ومحاصيلُ جيدة، يُشكّل القرض دعمًا فعّالًا لتأمين مستلزمات الزراعة وتحسين الإنتاج، لكن في السنوات الأخيرة، شهدت المناطق تراجعًا في معدلات الأمطار وجفافًا في المياه الجوفية، ما تسبب في خسائر ماليةٍ إضافيةٍ على المزارعين عند سداد القروض.
ويُضيف البكر أن القروض التي تقتصر على تمويل حفر الآبار وتجهيز قنوات الري والبنى التحتية، حتى لو كانت بشكلٍ محدود، تُعتبر مفيدةً جدًا للأشجار المثمرة والبساتين طويلة الأمد. كما أن القرض الحسن، بفضل عدم احتوائه على فوائد، يُخفف العبء المالي على المزارعين.
ويُشير المهندس إلى أهمية توفير فترة سدادٍ مرنةٍ للقرض، بالنسبة لمزارعي الأشجار التي تعرضت للتحطيب أو القلع، مثل الزيتون الذي يحتاج من 5 إلى 6 سنواتٍ حتى يبدأ بالإنتاج، والفستق الحلبي الذي قد يستغرق من 8 إلى 10 سنوات، إضافة إلى التين الذي يحتاج من سنتين إلى 3 سنوات. مُعتبرًا أن هذه الفترات تُتيح للمزارعين فرصةً للتهيئة والزراعة بشكلٍ مناسبٍ دون ضغطٍ ماليٍّ فوري.
وترى الباحثة في الشأن الاقتصادي نجاح عبد الحليم أن القرض الحسن، كفكرة، يحمل طابعًا اجتماعيًا تضامنيًا، وهو وسيلةٌ مهمةٌ لتخفيف الأعباء التمويلية عن المزارعين في ظل غياب نظامٍ مصرفيٍّ فاعل، وصعوبة الوصول إلى القروض التجارية الاعتيادية. وتقول لـ”نون بوست” إن الإيجابية الأساسية فيه أنه يُوفّر سيولةً عاجلةً بدون فوائد، مما يساعد المزارع على تمويل مستلزمات الإنتاج في بداية الموسم، كما أن توجيهه نحو محاصيلَ استراتيجيةٍ يضمن نوعًا من الاستقرار الغذائي.
في المقابل، تُشير الباحثة إلى وجود مشكلاتٍ حقيقية، أولها أن القرض الحسن عادةً يكون قصير الأمد، بينما يحتاج جزءٌ كبيرٌ من المزارعين، خاصةً في المناطق المتضررة من النزاع أو التحطيب، إلى تمويلٍ طويل الأجل لإعادة تأهيل الأراضي أو زراعة محاصيلَ تحتاج لسنواتٍ قبل أن تُنتج، مثل الفستق الحلبي والزيتون. وثانيًا، غياب ضماناتٍ تسويقيةٍ واستقرار الأسعار يجعل السداد عبئًا حتى من دون فائدة. أما ثالثًا، فمن دون آليةٍ شفافةٍ لتحديد المستفيدين، قد تتحول القروض إلى أداةٍ زبائنية أو محاصصاتٍ مناطقية.
وتُؤكد نجاح عبد الحليم أن اعتماد القرض الحسن ممكنٌ كأداةٍ مساعدةٍ ضمن حزمة سياساتٍ أشمل، لكنه لا يكفي وحده لإنعاش القطاع الزراعي، فالمشكلة لا تقتصر على نقص التمويل، إنما تشمل مشكلاتٍ بنيويةً أعمق، مثل ضعف شبكات الري، وتراجع القدرة الشرائية للمزارعين، وغلاء المدخلات. لذلك، ترى أنه لا يمكن أن يؤدي القرض الحسن دوره إلا إذا ترافق مع خطةٍ متكاملةٍ تشمل إعادة تأهيل البنى التحتية الزراعية، وتثبيت أسعار المحاصيل، وتطوير أدوات التأمين الزراعي.
وتُشدد على أهمية تصميم القرض الحسن بشكلٍ مرن، كون البلاد تمر بظروفٍ استثنائية، وبما يتلاءم مع طبيعة المحصول ودورة إنتاجه، فالقرض السنوي لا يصلح لمحاصيل متعددة السنوات. كما ترى أن برامجه يجب أن تُدار عبر مؤسساتٍ ماليةٍ زراعيةٍ متخصصةٍ أو تعاونياتٍ محلية، لا عبر المؤسسات التقليدية، لتجنب الفساد والتسييس. وختمت الباحثة حديثها بأن القرض الحسن ممكنٌ ومفيد، لكنه أداةٌ جزئيةٌ لا تُعوّض غياب سياسةٍ زراعيةٍ وطنيةٍ مستدامة.
ووصفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO) الظروف المناخية القاسية التي شهدها الموسم الزراعي الحالي في سوريا، بالأسوأ منذ قرابة 60 عامًا. كما أعلنت في مارس/ آذار الماضي عن خطةِ طوارئٍ وإنعاشٍ مدتها ثلاث سنوات (2025–2027) في سوريا، تهدف إلى تعزيز الأمن الغذائي والتغذية.
وتقوم الخطة على تنفيذ مجموعةٍ من الأنشطة المترابطة، تشمل ترميم شبكات الري، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتوفير بذورٍ عالية الجودة ومدخلاتٍ وأدواتٍ لإنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية، إضافةً إلى تعزيز الوصول إلى الأسواق، وتحسين إدارة الموارد، وإجراء تحليلاتٍ قائمةٍ على الأدلة، وبناء قدرات المزارعين ونظرائهم المحليين، وتشجيع الممارسات الزراعية المراعية للمناخ.
ومن خلال هذه الخطة، تسعى المنظمة للوصول إلى نحو 9.8 مليون سوريٍّ من الفئات المستضعفة في المجتمعات الريفية، ومساعدتهم على تجاوز الاعتماد على المساعدات، واستعادة الإنتاج الزراعي وسبل العيش، وفق إعلانها.