في مثل هذا اليوم من كل عام، ومنذ نحو 52 عامًا، يعيش المصريون أجواء احتفالية استثنائية، حيث إحياء ذكرى حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973م، العاشر من رمضان 1393هـ، هذا الحدث الفارق في تاريخ مصر الحديث، والأبرز على الإطلاق منذ تحولها من الملكية إلى الجمهورية.
وقبيل الذكرى بأيام، تُعلن الدولة المصرية حالة الطوارئ القصوى استعدادًا للاحتفال، حيث يُجيّش الإعلام، الرسمي والخاص، كل أدواته ومنصاته لتسليط الضوء على بطولات الجيش المصري في تلك الحرب التي تمثل ركنًا أصيلًا في وجدان الشعب المصري، والملاذ الآمن الذي يركنون إليه هربًا من الإحباط الذي يعانونه في كثير من المستويات.
ورغم قيمة وأهمية هذا الحدث، الذي لا يجب التعامل معه باعتباره مجرد انتصار عسكري فحسب، بل كحدثٍ أعاد تشكيل الذات الوطنية بعد عقودٍ من الانكسار والوصاية، إلا أن سرديات الاحتفاء به، والتي لم تفارق مكانها لأكثر من خمسة عقود كاملة، حولته إلى موردٍ رمزيٍّ تُعيد الأنظمة العزف على أوتاره كلما ضاقت المسافة بينها وبين الناس، لتذكّرهم بأن الشرعية التي تتآكل جراء التحديات الداخلية والخارجية قد تُرمم من استدعاء رمزيات الماضي وانتصاراته حين يعجز الحاضر عن ذلك.
من حدث تاريخي إلى أداة سياسية
تحولت ذكرى حرب أكتوبر من نقطة تحول تاريخية يُفترض أن تنقل الدولة المصرية من مرحلة الانكسار إلى الانتصار، ومن الإحباط إلى الأمل، ومن التخندق داخل أقبية الهزيمة إلى الانفتاح على الرخاء والتنمية، إلى أداة ناجعة بأيدي الأنظمة لتحقيق أهداف سياسية وتعزيز شرعيتها في مواجهة أي هزّات من هنا أو هناك.
ومنذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، صاحب قرار الحرب، وحتى اليوم، تُوظَّف تلك المناسبة كأداة سياسية قوية في الخطاب السياسي المصري، كلٌّ نظام بطريقته، وحسب مقاسه الخاص، ووفق بوصلة أهدافه المنشودة.
فخلال حكمه الممتد قرابة عشرة أعوام (1970–1980)، قدّم السادات نفسه كبطل الحرب والسلام، والقيادي القادر على قراءة المشهد بلغة خاصة، لتعزيز شرعيته كنظام من جانب، وشرعية كل قراراته من جانب آخر، فربط بين انتصار 1973 وبين قراره بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، موظفًا تلك الذكرى لإقناع الشارع المصري بأن الجنرال الذي قاد الحرب وحقق الانتصار هو الأقدر على صنع السلام، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تخفيف حدة الجدل بشأن قرار التطبيع مع الكيان المحتل.
وعلى المستوى الاقتصادي، استند السادات إلى نصر أكتوبر لتبرير سياسة “الانفتاح الاقتصادي” التي أقرها، والتي لاقت حينها اعتراضات كبيرة من قبل الخبراء والتيار اليساري الموالي لعبد الناصر، حيث ربطها بضرورة التحول بعد النصر نحو التنمية كأحد التحولات الطبيعية بعد الحروب.
لم يختلف الأمر كثيرًا في عهد حسني مبارك (1981–2011)، حيث وظّف تلك الذكرى لتعزيز صورة النظام والاستقرار، بصفته قائدًا لسلاح الجو في الحرب، موظفًا هذا الحدث السنوي لتجديد التأكيد على دوره البطولي، حيث كانت الشوارع والميادين المصرية تعج بصوره وعباراته الشهيرة.
كما وظّفها مبارك كأداة تعبئة وطنية، مسلطًا الضوء على الجيش كمؤسسة وطنية فوق الخلافات، لتذكير الشعب بدور القوات المسلحة كرمز للوحدة والاستقرار، وعليه تحولت تلك المناسبة إلى وسيلة لتثبيت شرعية النظام وإبعاد أي معارضة تحت شعار الوطنية.
حتى بعد سقوط مبارك في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، استُخدم انتصار أكتوبر كرمزية سياسية بين القوى التي تنازعت فيما بينها لتوظيفها بما يخدم أهدافها، حيث سعى كلٌّ من الإخوان المسلمين والمجلس العسكري وقوى اليسار السياسي إلى التأكيد على شرعيته من خلال تلك النافذة، كلٌّ وفق رؤيته الخاصة؛ فالجماعة اعتبرت النصر دليلًا على قدرة الشعب المصري المؤمن على صنع المعجزات، في حين قدّم الجيش نفسه باعتباره الضامن الوحيد لاستمرار الدولة.
تفاقم التوظيف السياسي لتلك الحرب مع تولي عبد الفتاح السيسي السلطة عام 2014 وحتى اليوم، حيث استُخدمت لتأكيد فكرة أن الجيش المصري قادر على تحقيق “انتصارات جديدة” ضد الإرهاب أو التحديات الداخلية، وأنه المؤسسة الوحيدة في مصر القادرة على خرق المعادلة والحفاظ على أمن البلاد واستقرارها.
كما سعى إلى تحويل النصر إلى رمز للاستمرارية والشرعية السياسية الحالية، من خلال ترسيخ علاقة الجيش بالهوية الوطنية، والربط بين نصر أكتوبر والمشروعات القومية التي يقوم بها النظام (مثل قناة السويس الجديدة أو العاصمة الإدارية)، لتمريرها باعتبارها استكمالًا لمسار النهوض والتنمية التي يمتلك الرئيس ذو الخلفية العسكرية وحده الرؤية الشاملة لتحقيقها مهما كان حجم الاعتراضات والانتقادات الموجهة لها.
وحاولت كافة الأنظمة المتعاقبة على حرب أكتوبر توظيف هذا الحدث لتعزيز الوحدة الوطنية والاصطفاف، من خلال التركيز على أن الحرب كانت نتاج الوحدة والاصطفاف خلف القيادة، ومن ثم مطالبة الشعب بضرورة تكرار هذا الاصطفاف لدعم القيادة الحالية في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
التغطية على الفشل والأزمات الداخلية
إلى جانب التوظيف السياسي لذكرى انتصار أكتوبر، هناك توظيف آخر لا يقل أهمية، ذلك الذي تتبناه الأنظمة الحاكمة لصرف الانتباه عن التحديات والفشل الراهن، سواء كان ذلك فشلًا اقتصاديًا، أو أزمات سياسية داخلية، أو تراجعًا في المكانة الإقليمية.
ويحشد النظام لأجل هذا التوظيف جيشًا جرارًا من الآليات النفسية والإعلامية والسياسية التي يقوم كلٌّ منها بالدور المطلوب منه بدقة متناهية، يأتي على رأسها ما يُعرف بـ”الإحلال الرمزي”، حيث استبدال الحاضر الهش بالماضي القوي، وإبراز النصر والعبور كوسيلة لتحويل بؤرة الاهتمام الوطني من المشاكل المستعصية الحالية إلى إنجازٍ تاريخيٍّ لامع.
وبدلًا من الحديث عن الكوارث والأزمات الاقتصادية التي يعاني منها المصريون جراء السياسات الفاشلة والخاطئة، تُستغل تلك الذكرى لإعادة إحياء الشعور بالفخر الوطني العظيم، وتجاهل الأوضاع المتردية، وتصوير الانتصار كنقطة تحول تفتح الطريق أمام مستقبل مزدهر، ما يخلق نبراسًا ينير الطريق نحو المستقبل ويُخدّر المصريين بقادمٍ أفضل وأكثر تفاؤلًا.
كما يُستخدم الإجماع الوطني حول تلك الذكرى التاريخية العطرة لفرض حالة من الوحدة خلف القيادة بهدف تجنّب النقد السياسي، مع تصدير صورة مغالطة تذهب باتجاه تصوير أي نقد للسياسات الحالية على أنه تقويض لهذه الوحدة الوطنية، أو خيانة لتضحيات الماضي.
وفي بعض الأحيان، يتم استخدام ذكرى الانتصار لتبرير السياسات التقشفية الصعبة التي تتخذها الدولة ضد الشعب، حيث يتم تحويلها إلى دافعٍ لمزيد من العمل والتقدم، والحث على المثابرة في مواجهة التحديات، مع العزف على وتر تصوير النصر كرمزٍ لقوة الإرادة المصرية على عبور كافة المحن والصعوبات، والتي من بينها بطبيعة الحال التحديات الاقتصادية والسياسية الحالية.
وخلال السنوات الماضية، استغل النظام المصري التحديات الأمنية الخارجية التي تواجه الدولة من كافة الجهات — غزة شرقًا، والسودان جنوبًا، وليبيا غربًا — لترسيخ مسألة “بناء الحصانة الوطنية” وجعلها أولوية مطلقة، وذلك من أجل تبرير تركيز السلطات في يد القيادة، مع إعادة توجيه الخطاب من الحديث عن الإصلاح إلى ضرورة بناء جيش قادر على الردع وحماية الهوية في مواجهة المؤامرات التي تُحاك ضد أمن واستقرار الدولة.
ومن ثم، وفّرت ذكرى انتصار أكتوبر منصة مثالية للأنظمة لتمجيد قوة الدولة ومؤسساتها العسكرية، وإعادة تأكيد شرعيتها التاريخية في ذهن المواطن، واستغلال حالة الفخر الوطني الجماعي كـ”ترياقٍ مؤقت” يُسكت الانتقادات ويشتت الانتباه عن التدهور في الأوضاع المعيشية والسياسية الراهنة.
من الرمزية إلى جسر عبور جديد
تغدو ذكرى حرب أكتوبر المجيدة، في الوعي الجمعي المصري والعربي، أكثر من حدثٍ عسكريٍ منتصر، إنها لحظة انبثاق للكرامة من بين ركام الهزيمة، وتجسيدٌ حيٌّ لقدرة الإرادة على كسر الحتميات المفروضة، وتحويل المستحيل إلى واقعٍ ملموس، فهي ليست مجرد انتصار على عدو خارجي، معروف الهوية، بل انتصار على فكرة الضعف، وعلى وهم العجز التاريخي أمام القوة. ومن ثمّ، تبقى قيمها — من دقة التخطيط، ووحدة الصف، والتضحية في سبيل المبدأ — رأسمالًا معنويًا لا غنى عنه في مسيرة أي نهضة أو مشروع وطني حقيقي.
غير أنّ المعضلة الأقرب للمأساة تبدأ حين يتحول هذا الرأسمال الرمزي من طاقةٍ تحررية إلى أداةٍ سلطوية، حين تُختزل الذكرى في طقوسٍ احتفاليةٍ مكرّرة تُستدعى لتجميل الحاضر وتبرير السياسات، بدل أن تُستثمر لإلهام المستقبل، فالتاريخ، أيًا كانت حيوته ومجده ورمزيته، متى جُمّد في خطاب السلطة الوظيفي، يفقد حيويته ويتحوّل من ذاكرة مقاومة إلى سرديةٍ رسميةٍ تُكرّس الامتثال وتُفرغ الوعي من النقد.
لقد توارثت الأنظمة المصرية المتعاقبة، من السادات إلى السيسي، هذا التوظيف الرمزي، فاستُخدم النصر لتسويغ خيارات سياسية واقتصادية — من الانفتاح إلى السلام، ومن التهدئة إلى الاصطفاف — حتى باتت الحرب لغةً للشرعية، لا للتجديد، والأدهى من ذلك، أن تُستدعى بطولات أكتوبر اليوم في سياقات تُغلق باب النقد وتُشيطن السؤال، فيصبح التغني بالماضي إحلالًا رمزيًا عن مواجهة الأزمات الراهنة، ووسيلة لتسكين الألم الجمعي بدل علاجه.
إن الإفراط في استهلاك هذا الإرث البطولي كمخدّرٍ ومسكن سياسي لا يرمم الواقع، بل يكرّس القطيعة بين التاريخ المجيد والحاضر المؤلم، فالأمم لا تُبنى على الاستدعاء العاطفي لانتصاراتها، بل على قدرتها على إنتاج انتصارات جديدة في ميادين أخرى، في الاقتصاد، والعلم، والحرية، وحدها الشجاعة في الاعتراف بالفشل، والشفافية في إدارة القرار، هي ما يحوّل الذاكرة الوطنية من أداة احتكارٍ للشرعية إلى رافعةٍ للإصلاح والتجدد.
ويبقى السؤال: هل تستطيع الدولة المصرية وبعد 52 عامًا من هذا النصر الأسطوري أن تتحرر من أسر الرموز، لتجعل من ذاكرة أكتوبر جسرًا نحو عبورٍ جديد — عبورٍ من الشرعية الموروثة إلى شرعية الإنجاز، ومن تمجيد الماضي إلى صناعة المستقبل؟