ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدار عامين، تابع العالم بصمت كيف دمرت إسرائيل قطاع غزة بشكل ممنهج، وقتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتسببت في إصابة عدد لا يُحصى منهم. بنفس القدر من الخطورة، تواصل إسرائيل استهداف أنظمة الرعاية الصحية والتعليم والمياه والصرف الصحي بطريقة ممنهجة، لضمان عدم استئناف الحياة الطبيعية في القطاع.
تفاوتت ردود فعل الحكومات الغربية تجاه الممارسات الإسرائيلية خلال السنة الأولى من الهجوم على غزة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بين التشجيع والدعم غير المشروط، ثم صدرت بيانات تعبر عن القلق والتردد، وصولًا إلى التعبير عن الاستياء في الآونة الأخيرة والتهديدات الجوفاء بأن استمرار الهجمات الإسرائيلية قد يؤدي -في وقت غير محدد- إلى فرض حظر على الأسلحة أو تقييد العلاقات التجارية. وفي الأشهر الأخيرة، صدرت تصريحات -تم الاحتفاء بها كثيرا- حول الاعتراف المشروط بدولة فلسطينية. والمفارقة هنا عميقة، حيث جاء الاعتراف الفاتر بدولة فلسطين في الوقت الذي تُمحى فيه هي وشعبها بلا رحمة.
أثناء كتابة هذا المقال، يسود الغموض حول خطة دونالد ترامب لإنهاء الحرب، بينما تتصاعد الآمال بإتمام صفقة لتبادل الأسرى والمحتجزين. ورغم أن وقف القصف وإطلاق سراح الأسرى من الجانبين والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة قد يخفف من وطأة المشهد القاتم، إلا أن اعتبار هذه الخطة إنجازًا تاريخيًا لفلسطين سيكون خطأً جسيمًا. رؤية ترامب ليست سوى وصفة أمريكية إسرائيلية جديدة تم صياغتها دون أي مشاركة فلسطينية، وتضمن استمرار السيطرة الإسرائيلية الدائمة على مستقبل غزة.
لم يُصغِ العالم يومًا إلى أصوات الفلسطينيين، ولم يأخذ على محمل الجد التهديد الوجودي الذي تشكله إسرائيل على حياة الفلسطينيين، ولم يتغير هذا الواقع بشكل ملموس رغم تصاعد التعبير عن القلق بشكل استعراضي. على العكس من ذلك، أمضى الفلسطينيون ثلاثة أرباع قرن وهم يواجهون خطابًا عالميًا يضع ما تسميه إسرائيل “مخاوفها الأمنية” -كما تعرّفها هي- فوق حقوقهم وحياتهم. ونتيجة لذلك، يعيش الفلسطينيون تحت شكلين دائمين من أشكال العنف: العنف الإسرائيلي الذي يُمارس مباشرة على أجسادهم وأرضهم ومجتمعهم، والعنف الغربي الذي لا يكاد يرى إنسانيتهم إلا بعد أن تُمحى.
توصلت إلى هذا الاستنتاج بعد أن راقبت على مدى ربع قرن طريقة تفكير الغرب وتعامله مع القضية الفلسطينية. رغم مضي عامين على المجازر في غزة، وكل ما كشفته الأحداث عن النوايا الحقيقية لإسرائيل، فإن الغرب يكرر نفس النمط من التفكير، حيث تصطف القوى العالمية خلف مقترحات لا تضمن للفلسطينيين أي دور فعلي في تقرير مصيرهم.
لقد بات الخطاب المجرد من الأفعال هو السمة الثابتة للغرب منذ عقود، وكانت التكلفة كارثية.
حبة سحرية
في نهاية سبتمبر/ أيلول عام 2000، انضممت إلى الفريق الفلسطيني المفاوض كمحامية مشاركة في المفاوضات مع إسرائيل. كانت تلك خطوة مهمة في مسيرتي: فأنا ابنة فلسطينيين وُلدا قبل النكبة، أي قبل بدء التطهير العرقي في فلسطين. لم تهاجر عائلتا والديّ في عام 1948، على خلاف الغالبية العظمى من الفلسطينيين، وأصبحوا لاحقًا مواطنين إسرائيليين يعيشون في الناصرة، داخل دولة لم تكن ترغب بوجودهم. وفي عام 1967، قرروا الهجرة إلى كندا حيث وُلدت ونشأت وتلقيت تعليمي. لم أكن قد عشت في فلسطين قبل انضمامي إلى الفريق المفاوض، باستثناء فترات قصيرة لا تتجاوز بضعة أشهر. في تلك الفترة، التزمت بالبقاء في فلسطين لمدة عام. انضممت إلى الفريق كمحامية بعد أن أخبرني أحد الأصدقاء، وهو أيضًا عضو في الفريق القانوني، أن أحد عيوب “عملية السلام في أوسلو” يكمن في غموضها. كنت أؤمن بشكل ساذج أن الفريق قادر على معالجة تلك المعضلة.
كانت تلك ذروة ما سُمّي حينها بـ”عملية السلام”، التي بدأت في عهد الرئيس بيل كلينتون عام 1993 بالمصافحة التاريخية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. ومن خلال سلسلة من الاتفاقيات، تم إنشاء السلطة الفلسطينية، وأُعيد تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة، مع انتشار نقاط تفتيش إسرائيلية جديدة في كل مكان. أما القضايا الجوهرية مثل الحدود والمستوطنات وحقوق ملايين اللاجئين والقدس، فقد أُزيلت من جدول المفاوضات إلى أجل غير مسمى.
أصبحت كل هذه القضايا منذ ذلك الحين مسائل ثنائية بين إسرائيل والفلسطينيين، يُفترض أن يحلّوها فيما بينهم، بينما يقف باقي العالم نظريًا كمراقب محايد، لكنهم لم يكونوا محايدين، ولم يكن الطرفان أبدا متكافئين. الولايات المتحدة كانت ولا تزال حتى يومنا هذا أكبر مورد للأسلحة وأقوى داعم دبلوماسي لإسرائيل، وأوروبا هي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل. قبل الدخول في تلك المفاوضات، سعى الفلسطينيون للحصول على ضمانات، لا سيما من الولايات المتحدة، بأن يتم التعامل مع اختلال ميزان القوى. وقد قُدّمت تلك الضمانات بشكل ضمني، لكنها لم تُحترم قط، على مدار عقود من المفاوضات.
منذ أوائل التسعينيات، انهالت الإشادات العالمية بمحادثات السلام، لكن ما حدث فعليًا هو أن الدعوات المتكررة لـ”حل الدولتين”، التي تهربت من الاعتراف الصريح بحق الفلسطينيين في تقرير المصير والحرية، حلّت محل الدعوات لإنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي. تحوّلت “عملية السلام” إلى حبّة سحرية جعلت الاحتلال غير مرئي للغرب، وأخفت شكله المتفشّي والدائم والأكثر عنفًا من أي وقت مضى. أصبحت فلسطين مجرد موضوع “للتفاوض” يتطلب تقديم التنازلات، بينما جرى طمس التطهير العرقي الذي حدث عام 1948، كأنما ليُنسى إلى الأبد.
وبعد ابتلاع هذه “الحبّة السحرية”، استغلت إسرائيل غطاء “عملية السلام” لبناء وتوسيع المستوطنات، مدفوعة بقناعة راسخة بأن فرض الواقع على الأرض سيعزز موقفها على طاولة المفاوضات. ومع بناء المستوطنات، جاء المستوطنون وظهرت نقاط التفتيش، وبدأت سيطرة عسكرية واسعة أشبه بعبثية كافكا. بحلول عام 2000، أصبحت الضفة الغربية غير واضحة المعالم. بات الفلسطينيون يتنقلون داخل متاهة تتغير بشكل عشوائي يومًا بعد يوم، حيث أصبحت الضفة مقسمة إلى جزر صغيرة، تُدار بعض مناطقها من قبل السلطة الفلسطينية، بينما احتفظت إسرائيل بالسيطرة على الضفة بشكل عام.
عندما وصلت لتولي منصبي، كانت قد مرت بضعة أشهر على اجتماع كامب ديفيد في يوليو/ تموز 2000، الذي روّجت له الولايات المتحدة باعتباره محاولة للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين. وكان واضحًا لأي متابع لمسار المفاوضات، وما شابه من تأجيلات وتعقيدات لا تنتهي، أن هذا الاجتماع لن يحقق النتيجة التي كان يأملها الرئيس كلينتون. في الواقع، كانت البعثة الفلسطينية قد حذّرت الأمريكيين مسبقًا من ذلك الخطر قبل انعقاد الاجتماع. بحلول ذلك الوقت، كانت المستوطنات الإسرائيلية -التي تتناقض جوهريًا مع أي اتفاق- قد تضاعفت تقريبًا، ليصل عدد المستوطنين إلى نحو 400,000 في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. وقد مُنع الفلسطينيون من السفر إلى القدس، ومن التنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن الدخول إلى إسرائيل.
وعد الأمريكيون الوفد الفلسطيني بعدم إلقاء اللوم على أي طرف في حال فشل المفاوضات. لكن بسبب ما وُصف بـ”هشاشة” الائتلاف الحاكم لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، ألقى كلينتون باللوم على الفلسطينيين في فشل الاجتماع. لقد كانت عبارة “الائتلاف الهش” الذريعة التي استخدمها عدد لا يُحصى من الدبلوماسيين لمطالبة الفلسطينيين بقبول بناء المستوطنات والتحريض العنصري وعمليات الإغلاق الجماعي والاعتقالات، خشية أن يُفشل المتطرفون في الحكومة الإسرائيلية المفاوضات.
وصلتُ إلى فلسطين في 28 سبتمبر/ أيلول 2000. وفي اليوم نفسه، قام أرييل شارون، الذي كان حينها رئيس حزب الليكود، بزيارة استعراضية إلى باحة المسجد الأقصى في البلدة القديمة بالقدس، محاطًا بأكثر من ألف شرطي إسرائيلي مسلح، ليؤكد أن إسرائيل لن “تتنازل” عن القدس. وعندما خرج الفلسطينيون للتظاهر ضد هذا الاستفزاز السافر، فعلت الشرطة الإسرائيلية ما تفعله دائمًا: أطلقت النار فقتلت في ذلك اليوم ما لا يقل عن أربعة فلسطينيين، وأصابت نحو 200 آخرين.
بعد يومين، وثّق المصوّر الفلسطيني طلال أبو رحمة، مشهدًا مؤلمًا في غزة لجمال الدرة وابنه محمد، البالغ من العمر 12 عامًا، تحت نيران كثيفة في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة. حاول جمال يائسًا أن يحمي ابنه من الرصاص المنهمر، لكن دون جدوى. أُصيب محمد إصابة قاتلة وتوفي بعد وقت قصير. انتشرت صورة جمال وهو يحاول حماية ابنه انتشارًا واسعًا، وأشعلت موجة احتجاجات عارمة. وخلال خمسة أيام فقط، قتلت إسرائيل 47 فلسطينيًا. وهكذا بدأت الانتفاضة الثانية.
في هذا المناخ، بدأت أراقب عن كثب آليات الدبلوماسية الدولية والمفاوضات، من خلال سلسلة لا تنتهي من الاجتماعات مع مجموعة من السفراء والمنظمات الدولية ومثلي أقوى الحكومات في العالم.
للتوضيح، كانت عملية التفاوض معيبة منذ بدايتها: لم تكن مفاوضات بين دولتين متكافئتين يتمتع كلاهما بالسيادة، وتتفاوضان على حدود أو علاقات مستقبلية بينهما، بل كانت مفاوضات بين إسرائيل -التي تسيطر على كل جوانب الحياة الفلسطينية- وبين الشعب الذي تُفرض عليه هذه السيطرة، أي الفلسطينيين. لم تكن المسألة مجرد اختلال في ميزان القوى، بل كانت مسألة سيطرة كاملة.
كثيرًا ما طُلب مني أن أروي تفاصيل من المفاوضات تُجسّد هذا الخلل الهيكلي والجوهري، وهناك الكثير منها بالفعل، لكن هذا الطلب يُغفل جوهر القضية: بالنظر إلى أن الإسرائيليين سرقوا أرضنا وشرّدوا شعبنا، لم أكن أتوقع أن يغيّروا موقفهم فجأة ويعترفوا بأنهم ظلمونا. لقد جاءت الإهانة الأكبر من أولئك الذين وعدونا بأن هذه العملية ستقود إلى حريتنا، ثم اختاروا بدلًا من ذلك أن يُعطوا الأولوية لما يسمّى بـ”مخاوف إسرائيل الأمنية” و”القيود الداخلية”، على حساب الثقل الساحق للنظام القمعي المتصاعد الذي تقوم عليه منظومة التفوّق الإسرائيلية.
ومع استمرار الانتفاضة الثانية، ازدادت الأحداث دموية. ومع نهاية الانتفاضة في 2005، كان أكثر من 3,000 فلسطيني و650 مدنيًا إسرائيليًا قد قُتلوا، إلى جانب نحو 300 جندي إسرائيلي.
حين كان الفلسطينيون محاصرين ويُقتلون بالطائرات المروحية وطائرات إف-16 ومروحيات الأباتشي التي تطلق أكثر الأسلحة تطورًا في العالم على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، كان ياسر عرفات المحاصر في مكتبه، مطالبا بأن “يوقف العنف”، وكأن بيده مفتاحًا سحريا للسيطرة على الفلسطينيين المحرومين من أبسط حقوقهم. بشكل عبثي، كان يُتوقع ممن يعيشون تحت الاحتلال أن يوفّروا “الأمن” للمحتل.
كنت كثيرًا ما أرى دبابة إسرائيلية تقف خارج مكتبي في رام الله، في بعض الأحيان عندما كان من المفترض أن نكون في جلسة مفاوضات. وفي إحدى المرات، استولى الجيش الإسرائيلي على شقتي في رام الله تحت تهديد السلاح في منتصف الليل، وأجبرني على الخروج وسط اشتباك مسلح. ولم أتمكن من العودة إليها لمدة ثلاثة أيام.
بمرور الوقت، ومع تصاعد وحشية أساليب السيطرة الإسرائيلية، كان الدبلوماسيون الغربيون يطرحون على الفلسطينيين أسئلة مبتذلة من قبيل: ”أين غاندي الفلسطيني؟“. لم يجرؤ أحد على طرح السؤال: ”أين شارل ديغول الإسرائيلي؟“. كان يُطلب من الفلسطينيين باستمرار إدانة العنف الفلسطيني، ولكن نادراً ما كان يُطلب من إسرائيل إدانة عنفها، ولا يزال ها الواقع قائمًا حتى اليوم. هكذا أصبح العنف المتجذر في الاحتلال العسكري الإسرائيلي أمرًا عاديًا.
استغلت إسرائيل هذه الفترة مرة أخرى للاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية، لبناء وتوسيع المستوطنات التي أخذت تظهر تباعًا في أنحاء الضفة الغربية، دون أن تُستثنى أي منطقة. الهدف كان واضحًا: تقويض فكرة “حل الدولتين” مهما كانت صياغتها. تُعدّ هذه المستوطنات جرائم حرب بموجب القانون الدولي، وانتهاكًا للسياسات المعلنة من معظم حكومات العالم. ومع ذلك، سادت مجددًا “حبّة حل الدولتين السحرية”، التي حجبت واقعًا وحشيًا في ظل وعود ضبابية بهدف غير قابل للتحقيق.
ومن الأمثلة الصارخة على ذلك منطقة تُعرف اليوم باسم “جفعات آساف”، وتقع بمحاذاة الطريق السريع الرئيسي الذي يربط شمال الضفة بجنوبها، قرب رام الله ومستوطنة بيت إيل الإسرائيلية. تأسست “جفعات آساف” عام 2001 على يد مجموعة من المستوطنين المسلحين الذين قرروا في إحدى الليالي الاستيلاء على قطعة أرض فلسطينية انتقامًا لمقتل أحد المستوطنين. تم ذلك بشكل غير قانوني حتى وفقًا للقانون العسكري الإسرائيلي. ادّعت الحكومة الإسرائيلية حينها أنها عاجزة عن وقف هؤلاء المسلحين الذين استولوا على الأرض، وقيل لنا مجددا إنه “ائتلاف حكومي هش”.
في ذلك الوقت، كان الدبلوماسيون يمرّون عبر نقطة تفتيش خاصة ويجتازون “جفعات آساف” في كل مرة يدخلون إلى رام الله أو يغادرونها. أما بالنسبة للفلسطينيين، فقد كان وجود هذه البؤرة الاستيطانية الجديدة يعني ظهور نقطة تفتيش عشوائية جديدة، مخصصة للفلسطينيين فقط. كان الجيش الإسرائيلي يختطف الرجال الفلسطينيين من السيارات بشكل روتيني، فيما يُجبر آخرون على مغادرة مركباتهم بعنف، وغالبًا ما يُضربون ويُجبرون على الوقوف تحت الشمس الحارقة لساعات، بينما تمر السيارات الإسرائيلية من حولهم بسرعة. لاحقًا، استُبدلت الحواجز المؤقتة بحاجز دائم، ما تطلّب الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية لـ”حماية” المستوطنين غير الشرعيين. ومع مرور الوقت، توسعت البؤرة الاستيطانية، واستُبدلت المولدات الكهربائية بشبكة كهرباء رسمية بموافقة الحكومة. وفي أحد الأيام، تم افتتاح مطعم بيتزا. حتى اليوم، لا يزال المستوطنون موجودين هناك أمام أعين الدبلوماسيين الذين يمرون بسيارتهم، فيما تعمل الحكومة الإسرائيلية على “تقنين” وضع المستوطنة. يوجد اليوم أكثر من 750,000 مستوطن في الضفة الغربية، والعدد في تزايد مستمر.
في غضون ذلك، ملأت إسرائيل سجونها بالرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين، بمن فيهم نشطاء معروفون بنبذ العنف، حتى بلغ عدد المعتقلين في إحدى الفترات نحو 10,000 فلسطيني، كثير منهم احتُجز لأشهر دون تهم أو محاكمات. كان الدبلوماسيون يقولون لي: “هذا الأمر فظيع”. لكن رغم كل ما كانت تفعله إسرائيل بالفلسطينيين وأراضيهم ومنازلهم ومدارسهم وعياداتهم التي يموّلها هؤلاء الدبلوماسيون أنفسهم، لم يكن هناك ما يمكن أن يزعزع إيمانهم الراسخ بـ”الحبّة السحرية”. كان هاجسهم الوحيد هو ضمان أن تبقى ردود الأفعال الفلسطينية على الاحتلال الإسرائيلي العنيف سلمية.
لا أذكر شهرًا واحدًا خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية لم يُقتل فيه فلسطيني. ما لا يستطيع الدبلوماسيون وغيرهم إدراكه واستيعابه هو أن الاحتلال -في جوهره- لا يُمكن أن يصمد إلا من خلال العنف. قوبلت تحذيراتنا من تصاعد استخدام إسرائيل للقوة باللامبالاة، ولم تكن حياة الفلسطينيين مهمة، ولم تكن أصواتهم مسموعة، ولم تكن تجاربهم ذات قيمة.
قفص غزة
لكن لم تظهر عواقب تجاهل الفلسطينيين -ولم تكن أكثر فتكًا- مما كانت عليه في غزة. يعدّ قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، ويقطنه الفلسطينيون وأحفادهم الذين فرّوا من منازلهم في الأراضي التي أصبحت تُعرف باسم إسرائيل. بالنسبة لإسرائيل، لطالما كان قطاع غزة “مشكلة”، إذ يذكرها بعام 1948، لأن سكانه يطالبون بالعودة إلى منازلهم التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات. وقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين ذات مرة إن من الأفضل لو ابتلع البحر غزة.
لطالما سعت إسرائيل إلى السيطرة على غزة. ومن أجل ذلك، أنشأت 21 مستوطنة قطعت أوصال الشريط الضيق بين شماله وجنوبه. وبالإضافة إلى 7,000 مستوطن، أقامت إسرائيل مزارع غير عملية وغير ضرورية، استحوذت على 20 بالمائة من أراضي غزة، واستنزفت ما تبقى من موارده المائية الشحيحة.
وفي عام 2005، وضع شارون الذي كان حينها رئيسًا للوزراء، خطة لـ”فك الارتباط” عن قطاع غزة. تمت إزالة المستوطنات، لكن السيطرة الإسرائيلية لم تتوقف، بل زادت حدتها في كثير من النواحي.
في تلك الفترة، انتقلتُ إلى غزة للانضمام إلى الفريق الفلسطيني الذي يعمل على خطة ما بعد الانسحاب، وكانت الحياة هناك ساحرة وصعبة في آن واحد. كل من قابلتهم في غزة كانوا مضيافين ودودين. وبعيداً عن المساكن المكتظة، كانت غزة تضم بعضًاً من أقدم الكنائس والأديرة والمساجد في العالم. كان البحر متنفسا جميلا، لكنه لم يكن مكاناً يمكن استكشافه بشكل آمن. كانت هناك دائمًا سفن بحرية إسرائيلية جاهزة في الأفق لإطلاق النار على الصيادين الفلسطينيين الذين يجرؤون على تجاوز النقاط المتغيرة التي تفرضها إسرائيل. كان الفلسطينيون محاصرين بين البر والبحر، وفوقهم الطائرات الإسرائيلية تحلق دائماً في السماء. لم أر أبدا طائرة تجارية تحلق فوق غزة، بينما كانت الطائرات الإسرائيلية تكسر حاجز الصوت بانتظام.
قال لنا الإسرائيليون: “يمكنكم تحويل غزة إلى سنغافورة!”. وكأن لدينا القدرة على تطوير القطاع ليصبح مكانا حديثا ومزدهرا، وكأننا نرغب بذلك أصلا (لم يكونوا حينها قد أصبحوا مهووسين بدبي). لكن غزة عُزلت تمامًا عن العالم بعد الانسحاب، وواصلت إسرائيل السيطرة على المجال الجوي والمياه الإقليمية وجميع المعابر. لا شيء يمكن أن يدخل أو يخرج من غزة دون إذن من إسرائيل. كنا نضغط على الأمريكيين والأوروبيين وغيرهم للمطالبة بفتح غزة والسماح لها ببناء مطار وميناء بحري، وأن يُسمح لنا بالتنقل من الضفة الغربية وإليها، ونحو بقية أنحاء العالم.
قال لي الأمريكيون والأوروبيون عام 2005: “تعاونوا مع الإسرائيليين”.
قلت: “لكن إن لم تضغطوا على الإسرائيليين، فإن إسرائيل ستحوّل غزة إلى سجن مفتوح”.
قالوا: “لا نعتقد أنهم يريدون ذلك”.
قلت: “لكنهم قالوا إنهم لن يتخلوا عن أي سيطرة، وهذا يعني أن غزة ستتحول إلى سجن مفتوح. تخيلوا ما الذي سيحدث”.
قالوا: “نعتقد أن الحل الأفضل هو الحل الثنائي. لكننا سنكون هنا بالتأكيد لتقديم الدعم”.
كان من بين محاولات الدعم مشاركة مراقبين من منظمة دولية. ضم الاجتماع الذي سبق انسحاب إسرائيل من مستوطنات غزة ممثلين من وزارة الدفاع الإسرائيلية لمناقشة كيفية انتقال البضائع بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصر الإسرائيليون على أن يتم تفتيش جميع البضائع الداخلة والخارجة من غزة لأسباب “أمنية”.
قال ممثل المنظمة الدولية: “يمكننا توفير أجهزة مسح ضوئي”.
رد ممثل وزارة الدفاع الإسرائيلية: “لا، المواصفات التي لدينا لأجهزة المسح عالية جداً لدرجة أنه لا يوجد جهاز مسح ضوئي بهذه المواصفات”. ضحكت بصوت عالٍ.
سألته: “إذًا، لا يوجد شيء يلبي احتياجاتكم الأمنية؟”.
فأجاب بوجه جامد: “إلى الآن لا يوجد”.
في وقت لاحق من تلك الليلة، أكد لي ممثل المنظمة الدولية ودبلوماسي آخر أنه “من المهم أن تحاولوا العمل مع الإسرائيليين للتوصل إلى حل ما”.
أجبت: “ما الحافز الذي يدفع إسرائيل إلى السماح بانتقال البضائع والأشخاص بين الضفة وغزة؟”.
وجاء الرد الدبلوماسي المتوقع: “عليكم أن تتذكروا أنها حكومة هشة، لذلك فإن التصريحات التي يدلون بها علنًا لا تعكس ما يقصدونه فعلاً. لقد أخبرونا أنهم لا يريدون إغلاق غزة”.
أخلت إسرائيل مستوطناتها في أغسطس/ آب 2005، وفي 12 سبتمبر/ أيلول أغلق الجيش الإسرائيلي بوابة غزة حرفيًا. أصبحت غزة معزولة عن العالم: لا أحد ولا شيء يمكنه الدخول أو الخروج دون إذن من إسرائيل. اضطررت أنا أيضًا إلى المغادرة في يونيو/ حزيران 2006 بعد أن رفضت إسرائيل تجديد تصريح إقامتي في غزة.
ومع ذلك، سادت حالة من النشوة في ذلك اليوم. شعر الفلسطينيون في غزة بالحرية لأول مرة منذ عقود. استطعت أن أستقل سيارة أجرة من غزة إلى رفح دون المرور عبر حاجز أبو هولي (نسبة إلى عائلة أبو هولي التي أُقيم الحاجز على أرضها).
في اليوم الذي أخلت فيه إسرائيل القطاع، زرت والدة محمد الدرة، الطفل الذي قتلته إسرائيل قبلها بخمس سنوات. كانت تحمل طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها ستة أشهر. مثل كثيرين في غزة، كانت الأم تبحث عن شيء يدعوها للتفاؤل. قالت: “على الأقل ستكبر دون أن ترى الجيش الإسرائيلي”. لم أتمالك دموعي وأنا أفكر في ابنها المقتول وأخشى أن تكون توقعاتها خاطئة.
لكن النشوة لم تدم طويلاً، فبعد أيام –وقبل انتخاب حماس لحكم غزة– عادت إسرائيل إلى قتل الفلسطينيين وكسر حاجز الصوت. أطلق الفلسطينيون صواريخ بدائية على إسرائيل ردًا على تلك الهجمات، فردت إسرائيل بتضييق الخناق على غزة بشكل أكبر.
كان التأثير مدمرًا. لم يُسمح بإدخال أجهزة الأشعة اللازمة لعلاج السرطان إلى غزة بسبب “مخاوف أمنية”، ولم يُسمح للمرضى بالخروج بسهولة لتلقي العلاج في أماكن أخرى، أيضًا بسبب “مخاوف أمنية”. ومع فوز حماس في الانتخابات العامة في 2006، شددت إسرائيل القيود أكثر فأكثر. بدأ الجيش بحساب دقيق للاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية لسكان غزة.
لكن حملات القصف الإسرائيلية المتكررة على غزة لم تؤثر في إيمان الغرب الراسخ بـ”حل الدولتين” أو دعمه الثابت لـ”المخاوف الأمنية” الإسرائيلية. ولم ينبس الدبلوماسيون بكلمة بينما كان الإسرائيليون يتفاخرون بأنهم يقصفون غزة ويعيدونها إلى العصر الحجري.
نبذ المجتمع الدولي حماس، وبدأ البعض يشير إليها بـ”السلطة الفعلية” في غزة، رافضين استخدام اسمها. أصبحت حماس معزولة ومقطوعة تمامًا عن العالم، وكذلك غزة. وبينما كان الفلسطينيون يعانون في أكبر سجن مفتوح في العالم، ضاعفت الحركة من استراتيجيتها العسكرية، مما مهّد الطريق لهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
التاريخ يعيد نفسه
لكن بالنسبة للفلسطينيين، لا توجد حبة سحرية.
يواصل الغرب الترويج لمقترحات -مثل تلك المطروحة حالياً- تمنح إسرائيل الكلمة الأخيرة في مستقبل غزة. كيف يُعقل أن تُمنح الدولة التي ترتكب الإبادة الجماعية أي دور في تقرير مستقبل الشعب الذي ارتُكبت بحقه هذه الإبادة؟
لا توجد في الخطة الأخيرة أي ضمانات بأن يُسمح بدخول المساعدات إلى غزة، أو أن تتخلى إسرائيل عن السيطرة، أو تنسحب، أو أن يُعاد بناء غزة. وبدلاً من ذلك، إذا تخلى الفلسطينيون عن مطالبهم بمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب، فقد يحصلون على “مسار نحو تقرير المصير والدولة”. ليس دولة، بل “مسار”. يا له من كرم.
أجد نفسي أفكر في تجربتي على مر السنين، وأتساءل عما كان سيحدث لو كانت هناك محاولة حقيقية وجادة لإنهاء الحكم العسكري الإسرائيلي. ماذا لو فرض المجتمع الدولي عقوبات على إسرائيل بدلاً من غض الطرف عن جرائمها؟ ماذا لو اتخذت الدول الكبرى خطوات ملموسة لتحقيق “حل الدولتين” بدلاً من تكرار الحديث عن إيمانهم به؟
بعد مرور عامين على الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، نشهد تكرارًا متعمدًا لأخطاء الماضي. هذه المرة، اعترفت بعض الدول بـ”دولة” فلسطينية وسط صخب كبير، لكنها لا تفعل شيئًا لضمان أن تكون فلسطين حرة ومزدهرة، بل لا تستطيع حتى أن تضمن حماية حياة الفلسطينيين.
المصدر: الغارديان