ساهمت في إعداد هذا التقرير كاتبة أخرى طلبت حجب اسمها لدواعٍ أمنية.
في الساعات الأولى من صباح 7 أكتوبر 2023 عبر المقاومون من قطاع غزة الحدود إلى “غلاف غزة”، واستطاعوا فتح ثغرات في خطوط الاحتلال والسيطرة على مواقع، ما تلا ذلك أسر عشرات الجنود والمستوطنين واشتباكات عنيفة وصاروخية نحو شرق رفح. بعد عامين على ذلك اليوم، وفي ظل الاتفاق المعلن مؤخرًا لبدء المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار وتبادل أسرى، ما زال الغزيون يحصون خسائرهم الثقيلة، مع ارتقاء أكثر من 67 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين، وتدمير مناطق بكاملها.
وبينما يسود الهدوء الحذر في القطاع، تعود إلى الأذهان مشاهد الأيام الأولى للطوفان، محمّلة بذكريات الفخر والفقد والألم؛ ذلك اليوم الذي غير ملامح المنطقة وأعاد رسم خريطة الوعي الفلسطيني والدولي على حد سواء.
الأيام الأولى
رامي أبو سعدة (50 عامًا) يقول: “لن ننسى ما حدث في مثل هذا اليوم، يوم اختلطت فيه مشاعر الفرح بالفقد، والحزن بالفخر، حين ودعنا أحبة وسطرنا ملحمة من الصمود”. ويعبر عن اعتزازه بما قام به الشبان في ذلك اليوم، وبما قدّموه من تضحيات، بين من قضى عامين في الأسر ومن ارتقى شهيدًا فداءً للوطن. ويضيف أن الغزيين، رغم ما قدّموه من تضحيات جسام، لم ينسوا الفشل الاستخباراتي الذي هز جيش الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر.
ويختم بالقول إن ما جرى من دمار وشهداء في غزة يذكّر الجميع بأن طريق النصر لا يُعبّد إلا بالتضحيات، سواء في غزة أو في الضفة، “فالنصر وعدٌ من الله لعباده المؤمنين الصابرين”.
سهيلة كلاب (33 عامًا)، التي فقدت 30 فردًا من عائلتها، تصف هذه الحرب بأنها الأشد ألمًا في حياتها، لكن ذكرى طوفان الأقصى تمنحها قدرًا من الصبر والفخر بالمقاومة التي، كما تقول، “هزّت إسرائيل والعالم بأسره”.
تروي سهيلة لـ”نون بوست” أن المعركة كشفت نفاق العالمين العربي والغربي تجاه القضية الفلسطينية، بعدما التزموا الصمت حيال الجرائم المروّعة من قتل وتجويع ونزوح جماعي. وتؤكد أن الطوفان أثبت أن فلسطين لا يحميها سوى أبنائها، فهم وحدهم من يدافعون عن شرف الأمة وقضيتها.
وتختتم حديثها قائلة: “الحرب على غزة هذه المرة مختلفة تمامًا، كانت مرعبة بشكل لا يُصدق. فقدنا كل شيء في لحظة: بيوتنا، أعمالنا، وأحبابنا. حياتنا انقلبت رأسًا على عقب، نعيش كالموتى، الفرق الوحيد بيننا وبينهم هو أن أرواحنا ما زالت عالقة بأجسادنا”.
يقول عبد السلام أحمد (50 عامًا) لـ”نون بوست”: “يوم السابع من أكتوبر لا يزال عالقًا في الذاكرة، بكينا من الفرح، ظننا أن لحظة العودة إلى أراضينا قد اقتربت، كان يومًا استثنائيًا بكل معنى الكلمة، لكن فرحتنا سرعان ما تحولت إلى نكبة جديدة”. ويعبّر عبد السلام عن أمله بأن تكون عملية طوفان الأقصى بداية مسيرة الفلسطينيين نحو نيل حقوقهم، رغم ما خسره هو وغيره من أبناء القطاع من منازل وأراضٍ وممتلكات، مؤكدًا أنهم لم يفقدوا الأمل الذي وُلد في ذلك اليوم.
ويضيف: “السابع من أكتوبر كان يومًا أسود على إسرائيل، كشف فشلها الاستخباراتي والعسكري أمام مقاومة لم تكن تتوقعها، لكن ثمن هذا اليوم دفعه الغزيون أضعافًا من دمائهم وحياتهم”.
ويتابع بأسى: “كان ذلك اليوم أشبه بالعيد للفلسطينيين، غير أنه تحوّل إلى كارثة غيّرت حياتنا بالكامل، أعادتنا إلى العصر الحجري، نعيش حياة لا تشبهنا. الضريبة كانت قاسية جدًا، خصوصًا على الأطفال والنساء وكبار السن”.
رائد عيسى (45 عامًا) يقول لـ”نون بوست”: “المعركة كشفت حقيقة العالم تجاه غزة وقضية الأسرى؛ الجميع يتفرّج ويُدين، لكن لا أحد تجرّأ أن يقف في وجه إسرائيل. النتيجة كانت عكس ما تصوّروا”. ويضيف: “طوفان الأقصى يوم فخر للفلسطينيين. ارتُكبت جرائم فظيعة بحق مدنيين عزل: تجويع، تهجير، تدمير منازل… عشنا أهوال يوم القيامة”.
ويستذكر السابع من أكتوبر بالقول: “هذا حق كل فلسطيني بالدخول إلى أرضه. ما أُخذ منا بالقوة يجب أن نُستردّ بالقوة. اعتبروا المقاومين إرهابيين، لكنهم فخر للعالم؛ ضحّوا بأنفسهم من أجل وطنهم.”
أحلام محمد (اسم مستعار) تقول: “كنا نبتسم ونبكي في اللحظة نفسها؛ شعرنا أن شيئًا كبيرًا يحدث، لكننا كنا ندرك أن الثمن لن يكون بسيطًا. لم أتوقع أن تتحول النتيجة إلى حرب بهذه الشراسة والهمجية، وصُدمت من صمت العالم أمام المجازر التي لا تزال تُرتكب منذ عامين. ظننت أننا سندخل التاريخ من أوسع أبوابه وأن الحدث سيحرر المدن تباعًا، لكننا بِصدق حُذفنا من الجغرافيا، مدينةً بعد مدينة—من رفح وشمال القطاع، مرورًا بخانيونس، وحتى غزة المدينة”.
إيمان إبراهيم، من المناطق الشرقية في قطاع غزة، تقول لـ”نون بوست”: “مشاعري كانت متضاربة عندما رأيت المقاومين داخل أراضينا المحتلة كما انتشرت مشاهدهم على مواقع التواصل. شعرت بسعادة ممزوجة بخوف عميق، وكنت أعلم أننا مقبلون على حرب طويلة قد تمتد لسنوات، ليست كغيرها—ربما تشبه ما حدث في سوريا من استمرارية وصمود. خفت أن تنتهي الحروب في أماكن أخرى ويبقى لنا نار غزة مُشعلة”.
عدي حمدان (40 عامًا)، الذي عاش نزوحًا وجوعًا وخوفًا فقد خلال عامين الكثير من أقربائه وأصدقائه، يروي: “لحظات العبور الأولى لم أصدقها؛ كنت في حالة صدمة ولم أتمكن من الوصول إلى المناطق الحدودية. تابعت الفيديوهات والأخبار لحظة بلحظة، وكنت أصرخ وأهلل وأشارك المشاهد عبر حساباتي. لوهلة تخيلت أنني سأصلي فجرًا في المسجد الأقصى وأفطر عند بائع الكعك في باب العامود. أؤمن أن السابع من أكتوبر لن يكون حدثًا وحيدًا؛ ستولد أجيال تنتقم لكل قطرة دم، وسيبقى ذلك اليوم علامة تُستعاد لأجل الولد والأرض وكل ما دمر في غزة”.
ومع أن الهدنة الراهنة لا تعني نهاية الحرب تمامًا، إلا أنها تتيح للفلسطينيين لحظة لالتقاط الأنفاس، ولتذكّر أن السابع من أكتوبر لم يكن نهاية ولا بداية فقط، بل محطة فاصلة في رحلة نضالٍ ممتدة.