“يا شبابنا في الضفة الغربية،
يا كل أهلنا على اختلاف تنظيماتكم،
اليوم يومكم لتكنسوا هذا المحتل ومستوطناته عن كل أرضنا في الضفة الغربية، ولتجعلوه يدفع ثمن جرائمه طيلة السنوات العجاف الطوال. نظّموا هجماتكم على المستوطنات بكل ما يتاح لكم من وسائل وأدوات. اليوم، نعم، بدءًا من اليوم، ينتهي التنسيق الأمني وأجهزته، لتثبتوا أن وطنيّتكم وانتماءكم للأقصى والقدس وفلسطين أكبر من كل أوهام الاحتلال. اليوم، نعم اليوم، يستعيد شعبنا ثورته، ويصحّح مسيرته، ويعود لمشروع التحرير والعودة وإقامة الدولة، بالدم والشهادة.
يا أهلنا في القدس،
هبّوا لنصرة أقصاكم، واطردوا قوات الاحتلال والمستوطنين من قدسكم، واهدموا الجدران العازلة.
يا أهلنا في الداخل المحتل،
في النقب والجليل والمثلث، في يافا وحيفا وعكا واللد والرملة،
أشعلوا الأرض لهيبًا تحت أقدام المحتلين الغاصبين، قتلاً وحرقًا وتدميرًا وإغلاقًا للطرقات، وأفهموا هذا المحتل الجبان أن طوفان الأقصى أكبر مما يظن ويعتقد”.
شكلت هذه الدعوات جزءًا محوريًا من خطاب القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، محمد الضيف، حين أعلن انطلاق “طوفان الأقصى”، وذلك بعد نحو عشرين دقيقة من البدء بالهجوم الواسع على مواقع الاحتلال في ما يُعرف بغلاف غزة، بتاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
تكشف كلمة القائد العام أن رؤية حركة حماس لطوفان الأقصى كانت تتجاوز حدود فعل عسكري مخطط ومؤثر؛ إذ حملت في جوهرها نداءً سياسيًا لفتح مسارٍ ثوري يربط القدس بغزة والضفة والداخل، ويحوّل الضربة الميدانية إلى موجة شعبية قادرة على خلق وقائع جديدة تُعيد رسم معادلات الصراع وتضغط على الاحتلال لتقديم تنازلات جوهرية.
في الواقع، بينما نجحت العملية في غزة من ناحية الدقة والصدمة الميدانية، وهزّت أركان المنظومة الأمنية والحكومية الإسرائيلية، لم تنعكس هذه الصدمة بصورة مماثلة على باقي ساحات الفعل الفلسطيني التي كان من المفترض أن تشكّل امتدادًا حيويًا في متتالية النهوض. لقد اجتمعت سلسلة من العوائق: ضعف الاستجابة، التردد المؤسسي، حملات القمع الاستباقي، آليات الردع الموجهة، وعمليات كيّ الوعي التي هدفت إلى تثبيط الحراك الشعبي، ضمن مجموعة من العوامل التي حوّلت ما كان يمكن أن يكون طوفانًا جامعًا إلى واقع من التفاعل السلبي.
خصوصية الساحات.. من مبدأ تنظيمي إلى أداة تفكيك للفعل الوطني
على مدى عقود، ترسّخت في الوعي السياسي الفلسطيني فكرة “خصوصية الساحات” بوصفها نهجًا تنظيميًا يراعي تباين ظروف الفلسطينيين في أماكن وجودهم المختلفة، من الداخل المحتل إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والشتاتK غير أن هذا المبدأ الذي بدأ بنوايا واقعية – تراعي اختلاف البيئات القانونية والسياسية والاقتصادية – تحوّل تدريجيًا إلى مدخل لفك عُرى المشروع الوطني الجامع، ولتبرير الانعزال الميداني والبرامجي، حتى غدا كل مكوّن فلسطيني أسير “ساحته الخاصة” وعناوينه الفرعية.
في الجوهر، شكّلت هذه الفكرة غطاءً سياسيًا وثقافيًا لتطبيع واقع التجزئة الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي منذ النكبة، وساهمت في تعزيز سياسة “المعازل” التي استهدفت كسر وحدة الشعب الفلسطيني ومركزية قضيته.
وبدلًا من أن تكون “الخصوصية” وسيلة لتكييف أدوات النضال مع اختلاف الظروف، تحوّلت إلى أداة للهروب من مواجهة الإشكالات البنيوية في النظام السياسي الفلسطيني، وإلى مبرّر لتعطيل الفعل الجماعي وتراجع مفهوم الوحدة الوطنية إلى مجرد شعار احتفالي.
ومع اتفاق أوسلو، وجدت القيادة الفلسطينية في “خصوصية الساحات” مخرجًا سياسيًا من مأزق إدارة النضال الوطني، عبر حصر مسؤوليتها في إدارة سلطة الحكم الذاتي في الضفة وغزة، ومنح ما تبقى من المكونات الفلسطينية حرية الحركة ضمن حدود “خصوصيتها”.
حُمّل فلسطينيّو الداخل المحتل عبء اجتهادهم السياسي في انتخابات الكنيست التي استثمرت فيها السلطة الفلسطينية تحت ذريعة خدمة “معسكر السلام”، وأُهمل اللاجئون في الشتات باعتبارهم خارج دائرة الفعل المباشر، بينما تُركت غزة والضفة الغربية لتكون ميدانًا لتجارب “الخصوصية الأمنية” و”الخصوصية المعيشية”.
هكذا، وخصوصًا بعد انتهاء انتفاضة الأقصى، وحدوث الانقسام الفلسطيني الذي تحوّل إلى انقسام إداري وجغرافي، تتالت مجموعة من السرديات النضالية المتعددة والمجزّأة، كل منها يحمل “خصوصيته” في الخطاب والأهداف والأدوات، من “هبة القدس” إلى “انتفاضة السكاكين” إلى “مسيرات العودة”، دون أن تتبلور رؤية وطنية جامعة تعيد توحيد النضال الفلسطيني في سياق واحد متكامل. إذ لم تعد “الخصوصية” مجرد توصيف لحالة واقعية، بل تحوّلت إلى بنية فكرية ومؤسسية كرّست فتور الفعل الفلسطيني المشترك، وأضعفت إمكانية تجديد المشروع التحرري على أسس جامعة.
سيف القدس: كيف حاولت المقاومة إعادة توحيد الساحات؟
أمام حالة التفتيت التي كرّستها سنوات من الإيمان بـ”خصوصية الساحات”، جاء فعل المقاومة الفلسطينية في معركة سيف القدس كمحاولة واعية وجذرية لتجاوز هذا المنطق، وإعادة بناء وحدة الفعل الفلسطيني على قاعدة التلازم الميداني والمصير الواحد.
لم تكن المعركة حدثًا عابرًا أو رد فعل انفعاليًا على اعتداءات الاحتلال في القدس، بل كانت ترجمة عملية لرؤية استراتيجية تبلورت داخل أروقة المقاومة قبل اندلاع المواجهة بوقت طويل، هدفها كسر العزل الجغرافي والسياسي الذي فصل بين الساحات الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو. فقد كانت قيادة المقاومة، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، قد حددت مبكرًا أن استفراد الاحتلال بأي ساحة يجب أن يقابل بتفاعل جماعي من مجمل مكونات الشعب الفلسطيني.
ويظهر هذا التوجه بوضوح في تصريح الناطق العسكري باسم القسام أبو عبيدة بتاريخ 25 يونيو/حزيران 2020، حين قال إنّ “المقاومة تعتبر قرار إسرائيل ضمّ الضفة الغربية والأغوار إعلان حرب على الشعب الفلسطيني”. وهو ما شكل إعلانًا مبكرًا لمبدأ ربط الساحات، باعتبار أن المساس بأي جزء من الجغرافيا الفلسطينية يعني استهداف الكل، وأن الرد يجب أن يكون جماعيًا ومتعدد الأدوات.
وتكشف الوثائق التي عُرضت لاحقًا في برنامج “ما خفي أعظم” على قناة الجزيرة، عن عمق هذا التوجه داخل البنية التنظيمية للمقاومة، فقد تضمّن محضر اجتماع لقيادة أركان كتائب القسام المنعقد بتاريخ 7 يناير/كانون الثاني 2021، قبل شهور من اندلاع معركة سيف القدس، بنودًا صريحة تنصّ على “توسيع رقعة المقاومة في جميع مناطق الوطن، وتطوير قواعد الاشتباك، وإدخال القدس ضمن قواعد الاشتباك”، إضافة إلى بند آخر يربط بين الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأسرى وبين التصعيد العسكري. ولم تكن تلك الوثيقة مجرد توصية عملياتية، بل خارطة طريق سياسية وميدانية تعبّر عن إدراك مبكر لضرورة كسر التجزئة وإعادة توحيد الساحات تحت راية واحدة.
حين اندلعت المواجهة في أيار/مايو 2021، لم تكن الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه القدس تعبيرًا عن تضامن رمزي، بل ترجمة عملية لذلك القرار الاستراتيجي الذي ربط بين ما يجري في القدس وأي فعل عسكري في غزة. فالمعركة انطلقت استجابةً لنداءات المقدسيين في حي الشيخ جراح الرافضين للتهجير القسري، وللاعتداءات على المسجد الأقصى ومسيرات المستوطنين الاستفزازية في القدس، لتعلن المقاومة أن أي عدوان على المدينة المقدسة سيقابله رد من غزة، بما يعيد ترابط المشهد الفلسطيني في لحظة واحدة.
وبهذا الفعل، نجحت المقاومة في إعادة تعريف قواعد الاشتباك، إذ تحولت القدس إلى نقطة اشتعال وطنية مشتركة، وأصبح العدوان عليها اختبارًا لمعادلة الردع مع غزة. كما أعادت المعركة إحياء الشعور الوطني الجمعي؛ فالجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية، والداخل المحتل عام 1948، والشتات، خرجت في مشهد متزامن يؤكد وحدة الشعب والقضية.
لم تقتصر آثار سيف القدس على الميدان العسكري، بل تمددت لتصوغ وعيًا سياسيًا جديدًا انعكس لاحقًا في تشكّل مجموعات المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، مثل عرين الأسود في نابلس، التي جسّدت امتداد الفكرة نفسها: أن مقاومة الاحتلال لا تُحاصر في جغرافيا، وأن وحدة الساحات ليست شعارًا بل نهجًا عمليًا متجددًا.
لقد أُريد من “سيف القدس” أن تُشكل إعلانًا صريحًا عن نهاية مرحلة التجزئة التي سادت تحت عنوان “خصوصية الساحات”، وبداية مسار جديد تعمل فيه المقاومة على إعادة توحيد الجغرافيا الفلسطينية في معادلة واحدة، تؤكد أن القدس هي المركز، وغزة قلب الفعل، والضفة رئته، والداخل عمقه الذي لا يمكن عزله أو تهميشه.
إعادة هندسة الوعي: استراتيجية القمع والردع المسبق
بعد أن فجّرت معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021 لحظة نادرة من الوحدة الوطنية الفلسطينية، أدركت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن ما جرى لم يكن حدثًا عابرًا، بل تحولًا نوعيًا في الوعي الجمعي الفلسطيني، حيث تجاورت الجغرافيا والسياسة والهوية في مشهد واحد.
بالنسبة للاحتلال، مثل هذا التحول خطرًا استراتيجيًا لا يقل عن الخطر العسكري، إذ هزَّ أساس سيطرته القائمة على تفتيت الساحات وتباعد الفلسطينيين عن بعضهم، لذلك سارع إلى بناء منظومة ردع جديدة هدفها إجهاض إمكانية تكرار المشهد ذاته، و”كيّ الوعي” الشعبي عبر سياسة طويلة الأمد من القمع الممنهج.
بدأت تلك السياسة مباشرة بعد وقف إطلاق النار، بحملة اعتقالات واسعة غير مسبوقة شملت آلاف الفلسطينيين، استهدفت المشاركين في التظاهرات داخل تجمعات الفلسطينيين في أراضي 1948، والمخيمات والمناطق المحتلة في الضفة الغربية، وحتى شبكات التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى أدوات تعبئة خلال المعركة.
سعت الأجهزة الإسرائيلية إلى معاقبة كل من شارك أو حرّض أو حتى عبّر عن دعم للمقاومة، وأصدرت أحكامًا ردعية قاسية هدفت إلى زرع الخوف ومنع أي تكرار لنموذج سيف القدس في التفاعل الجماهيري.
وتعاملت الشرطة الإسرائيلية والشاباك مع الحراك الشعبي الواسع الذي شهدته مدن مثل اللد وأم الفحم وحيفا والناصرة بوصفه تمردًا على “النظام العام”، ونُفّذت حملات ملاحقة وتضييق واعتقالات طالت المئات من الشباب الفلسطيني، في إطار عملية وصفتها الصحافة العبرية حينها بأنها “الأوسع منذ عقود لضبط العرب في إسرائيل”.
ترافقت هذه الإجراءات مع تفعيل أدوات قانونية وتشريعية هدفت لتجريم النشاط السياسي الفلسطيني تحت ذرائع “التحريض” و”الإرهاب الداخلي”، وأُدخلت تعديلات صامتة على أنظمة الرقابة والملاحقة الرقمية لزيادة السيطرة على الفضاء الإلكتروني الفلسطيني.
وفي الوقت نفسه، وجد الاحتلال في خطاب بعض النخب السياسية الفلسطينية داخل أراضي 1948 فرصة لتفكيك آثار سيف القدس فكريًا ومعنويًا، ففي مارس/آذار 2022، قال رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة في مقابلة مع قناة “كان” الإسرائيلية: “ليس من دور الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة الغربية تحية أو إدانة الهجمات الإرهابية التي تستهدف العرب المواطنين في إسرائيل… نحن نرفض تسليح شبابنا، طريقنا هو النضال الشعبي المثابر، ولهذا أتوجه للفصائل الفلسطينية مباشرة بأن لا يصدروا بيانات ترحيب بالأعمال المسلحة التي يقوم بها فلسطينيون حملة الجنسية الإسرائيلية”.
استخدمت المؤسسة الإسرائيلية هذا الخطاب لتثبيت معادلة “العرب الجيدين” في الداخل مقابل “المقاومين الخارجين عن النظام”، في محاولة لفصل الداخل عن امتداده الوطني والسياسي، وتطبيع الانقسام في الوعي العام الفلسطيني.
أما في الضفة الغربية، فقد كان الجهد الإسرائيلي الأمني أكثر تركيزًا ودقة، إذ عملت تل أبيب على محاصرة مجموعات المقاومة الوليدة ومنعها من تجاوز جغرافيا مخيمات الشمال مثل جنين ونابلس.
تزامن ذلك مع تعزيز التنسيق الأمني مع أجهزة السلطة الفلسطينية، بحيث أصبح الهدف المعلن هو منع “تكرار تجربة غزة” في الضفة، وتم توظيف أدوات المتابعة والاستخبارات والاعتقال الإداري، وإغلاق المناطق، وتنفيذ عمليات اغتيال مركزة ضد النوى الأولى للمجموعات المسلحة. وبذلك، سعى الاحتلال إلى خلق حالة من “الاختناق الأمني” تمنع تبلور أي جبهة موازية أو تفاعل متسلسل مع الأحداث في غزة أو القدس.
هذه المنظومة الشاملة من الإجراءات الأمنية والقانونية والنفسية لم تكن تهدف فقط إلى الرد على ما جرى في سيف القدس، بل إلى إعادة هندسة الوعي الفلسطيني وضمان أن لا تتكرر ظاهرة التفاعل الجماهيري العابر للساحات التي أربكت الاحتلال في 2021. فتمّ تحويل القمع إلى أداة “وقائية”، تُستبق أي انتفاضة أو موجة تضامن، من خلال الردع المسبق، والمراقبة، والاعتقال، وتشويه الخطاب المقاوم.
الهجوم الوقائي: معركة استباقية في أول أيام “طوفان الأقصى”
متسقًا مع ذات الاستراتيجية القمعية، وكخطوة عملية تترجم سياسات كيّ الوعي و”الردع المسبق” بعد تجربة سيف القدس، أطلق الاحتلال في الأيام والأسابيع الأولى من طوفان الأقصى هجومًا وقائيًا واسع النطاق هدفه الأولي والمعلن منع أي إمكانية لنشوء تفاعل فلسطيني حقيقي وواسع الامتداد مع دعوات المقاومة لتحويل الطوفان إلى حالة ثورية عامة. ولم يكن هذا الهجوم مجرّد عمليات عسكرية متناثرة، بل حزمة إجراءات متزامنة: أمنية، تشريعية، اقتصادية، واستعمارية، صُمِّمت لشلّ القدرة المجتمعية على التعبئة والخروج إلى الشارع.
أول مؤشر على حجم وحشية هذا الهجوم الوقائي هو حملات الاعتقال الموسعة، إذ وُثق في الشهرين الأولين بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر تضاعف عدد السجناء الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، ووصل في مرحلةٍ ما إلى أكثر من 10,000 سجين؛ ومن بينهم 3,600 معتقل إداري بلا تهمة أو محاكمة مقابل نحو 1,300 معتقل إداري قبل الحرب.
وكان لحملات الاعتقال هدف واضح، وهو تفريغ الشارع من صانعي التحرك وقواه الحية – قادة المجتمع المحلي، نشطاء المجتمع المدني، صحفيون وأكاديميون – وترك الساحة فارغة من صانعي القرار الشعبي.
داخل السجون نفسها كشفت شهادات المفرج عنهم وتقارير حقوقية عن مستويات غير مسبوقة من الإذلال والتنكيل والتعذيب، ما مثّل امتدادًا لسياسة القتل والاعتقال إلى فضاء لا تظهره الشوارع؛ تصويرٌ متعمد للتكتيك النفسي يستهدف كسر القدرة المعنوية على المقاومة خارج الجدران.
كما وردت شهادات بأن الاعتقالات استهدفت بشكل ممنهج “الأفراد ذوي القدرة على التحريك”، وهو ما أكده مسؤول حقوقي حين وصف الحملة بأنها تصفية ممنهجة لفاعلي المجتمع المدني والإعلامي والحقوقي.
في الداخل المحتل كان المشهد أقسى من مجرد قمع احتجاجات؛ فقد باشرت أجهزة الاحتلال حملة ترهيب تشريعية وإدارية بالغة، بدأ بإعلان واقع دولة في حالة حرب الذي أدى إلى توظيف قوانين انتدابية وصيغ مكافحة “الإرهاب” لتمرير ملاحقات واسعة، سنّ تشريعات لملاحقة “التحريض” على وسائل التواصل، توقيف طلاب وموظفين وفصلهم عن الدراسة أو العمل، التلويح بسحب الجنسية عن من يُعدّون “متماهيين مع غزة”، وإغلاق محلات وفرض قيود اقتصادية. كما رُفعت أصوات تحريضية رسمية وشعبوية تقودها قيادة سياسية وأمنية تشير إلى أن الداخل يمثل “جبهة” يجب قمعها.
وترافق خطاب القمع هذا مع إجراءات تنفيذية: ترسانة شرطة مزودة (إعلان شراء 10,000 بندقية رشاش لتوزيعها على ما سمّي “وحدات الحماية“)، تشكيل فوج ميداني لتنظيم وحدات مكافحة مدنية، ونشر فيديوهات تهديدية من قيادات شرطية تُحذّر المواطنين من الاحتجاج وتعدُّهم بالعقاب الشامل، كما استُغلّت موجة الخوف لفرض رقابة إلكترونية وملاحقة المنشورات التي تُعبّر حتى عن ألم أو دعاء أو آية قرآنية يُفهم منها تضامن مع غزة.
سياسيًا واجتماعيًا، صُمِّمت هذه الإجراءات لتفكيك شبكات الثقة بين الساحات، عبر تفكيك القيادات المحلية واغتيال القدرة التنظيمية في شمال الضفة عبر عملية “السور الحديدي” التي ارتفعت فيها وتيرة المداهمات والوجود العسكري الباقي طويل الأمد داخل مخيمات الشمال، وعمليات تهجير وإعادة هيكلة تهدف لانتزاع الطبيعة الاجتماعية للمخيمات وتحويلها إلى فراغ أمني ومجتمعي، وذلك بهدف تحويل فعل المقاومة إلى عبء على المجتمع المحلي. وصارت المخيمات نفسها ميدانًا للمعاناة والضغط بدلًا من أن تكون قاعدة لانطلاق فعل منظم.
النتيجة المركّبة لهذه الحزمة الوقائية كانت فاعلة للغاية، إذ شلّت قدرات التعبئة بسرعة، وقطعت خطوط الاتصال بين قوى الحركة الشعبية والمراكز المدنية، وخلّفت أثرًا نفسيًا جماعيًا مبطّنًا، جوهره الشعور بالخوف من الكلفة العالية للمشاركة.
لذلك، حين دعت بيانات المقاومة وقائد كتائب القسام إلى تحويل “طوفان الأقصى” إلى حالة ثورية عارمة، اصطدمت الدعوات بجدارٍ من الاعتقالات والاختفاءات والتشريعات وحملات التحريض والعنف الاستيطاني، ضمن سلوك مصمَّم لمنع تحوّل الغضب إلى فعلٍ جماهيري مستدام.
فشلٌ مركّب: بين القمع الإسرائيلي والتكلّس الفلسطيني
رغم إدراك حجم الإجراءات القمعية التي انتهجها الاحتلال خلال الأشهر الأولى من طوفان الأقصى، فإن التجربة الفلسطينية التاريخية تُظهر أن القمع وحده لم يكن يومًا كفيلًا بإخماد جذوة الفعل الوطني. فالشعب الفلسطيني واجه على مدى عقودٍ سياسات القتل والتدمير والاجتياح، ومع ذلك لم تتوقف انتفاضاته ولا أشكال مقاومته.
لكن الفارق هذه المرة لم يكن في مستوى القمع، بل في مستوى الجهوزية الفلسطينية، وغياب الإرادة المؤسسية والشعبية للانخراط في مسار انتفاضي جديد بحجم الطوفان.
لقد تضافرت عوامل داخلية وخارجية لتُنتج حالة من الجمود والشلل السياسي والاجتماعي، جعلت الساحات الفلسطينية عاجزة عن استثمار لحظة تاريخية كانت قادرة على إعادة تعريف المعادلة مع الاحتلال.
وعلى الرغم من نجاح الاحتلال في “كيّ الوعي” عبر منظومة الردع الممنهج، إلا أن هذا الكيّ لم يقتصر على الجمهور العريض، بل امتد إلى النخب والقوى الفلسطينية الفاعلة، التي وجدت نفسها أمام جدار من الخوف والارتباك، وفضّلت المراقبة بدل المبادرة.
تجليات الفشل على المستوى الكفاحي والجماهيري
تجلى هذا التراجع في أكثر من مستوى، فعلى المستوى الكفاحي، كانت مجموعات المقاومة المنظمة والمبادرات الفردية هي الأكثر تقدمًا مقارنة ببقية أشكال الفعل الفلسطيني، إذ حاولت رغم الإمكانيات المحدودة تنفيذ عمليات نوعية في الضفة الغربية إسنادًا لغزة، وقد دفعت ثمنًا باهظًا لذلك. ومع ذلك، بقي هذا الفعل استثنائيًا وغير متّصل بحالة جماهيرية شاملة، بعدما فُصلت عنه البيئة الشعبية بفعل القمع والردع والخوف.
أما في المستويات الجماهيرية والسياسية، فقد بدا الانكفاء أعمق وأشدّ. النقابات والاتحادات الطلابية والمجالس الجماهيرية وقطاعات الشباب والمرأة، جميعها غابت عن المشهد أو بقيت في إطار التعبير الرمزي الخافت.
ولم تكن السلطة الفلسطينية بعيدة عن هذا السياق، بل كانت أحد العوامل الحاسمة في ترسيخ حالة الركود، إذ مارست دورًا ردعيًا مباشرًا تجاه أي محاولة للتحرك الجماهيري في الضفة الغربية. فأطلقت أجهزتها النار على مسيرات التضامن، واعتقلت متظاهرين، وضيّقت حتى على طلاب المدارس، في مشهد يعكس تماهياً تامًا مع أهداف الاحتلال في منع أي تفاعل شعبي واسع مع المقاومة في غزة.
العوامل المؤثرة في التحولات السياسية والميدانية
في الداخل المحتل، اختارت القوى الوطنية والتمثيلية الفلسطينية الانكفاء والتراجع إلى الخلف، تحت وطأة القمع الإسرائيلي الهائل الذي جرى تفصيله سابقًا. فحجم القمع تحوّل إلى “وعي نافذ” لدى القيادات، أي قناعة بأن أي تحرك مهما كان رمزيًا سيقابَل بردّ عنيف لا طاقة لهم باحتماله. وبذلك انتقل الرعب من مستوى الفعل الميداني إلى مستوى الإدراك الجمعي، فبات الصمت نوعًا من الحذر الإستراتيجي لا الموقف السياسي.
الأخطر من ذلك أن هذه القوى، رغم ما تملكه من إرثٍ نضالي وتجربة طويلة في تجاوز حالات المنع والحصار، لم تبادر إلى ابتكار أدوات فعل جديدة تواكب طبيعة الظرف الأمني الراهن، كما فعلت في الانتفاضتين الأولى والثانية حين خلقت أطرًا للعمل التطوعي والنقابي والطلابي لتجاوز القيد الأمني، بل بقيت رهينة أدواتٍ تقليدية لم تعد فاعلة، وانتظرت انفراجًا خارجيًا بدل أن تصنعه.
عوامل الفشل المركب
إن الفشل المركب الذي تكشف عنه مرحلة ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول هو نتاج تداخل عاملين رئيسيين:
-
الأول، نجاح الاحتلال في تفكيك الساحات الفلسطينية وتعزيز الردع عبر إجراءات متراكمة وقمع شامل، شكّل سقفًا نفسيًا يصعب تجاوزه؛
-
والثاني، تكلّس البنية الفلسطينية سياسيًا ومجتمعيًا وتنظيميًا، بما جعلها غير قادرة على استيعاب حدث بحجم “طوفان الأقصى” أو تحويل زخمه إلى مشروع وطني متجدد.
لقد نجحت المقاومة في قطاع غزة في كسر المعادلات العسكرية الإسرائيلية، لكنها فشلت في تحريك المعادلات السياسية الفلسطينية بالقدر نفسه، وبينما تمكن الاحتلال من بناء جدارٍ من الردع حول كل ساحة فلسطينية، فشل الفلسطينيون -بمستوياتهم المختلفة- في بناء جدارٍ من الوعي الجمعي القادر على تجاوز الخوف واستعادة روح المواجهة. وهكذا، تحوّل الطوفان من فرصة تاريخية لإحياء الفعل الوطني إلى اختبارٍ مؤلمٍ لمدى ما أصاب البنية الفلسطينية من وهنٍ وتآكلٍ في الإرادة والقدرة معًا.