لم يكن سليمان خاطر مجرد جندي مصري ضغط على زناد بندقيته في لحظة توتر عابرة على الحدود المصرية الإسرائيلية عام 1985، بل كان تجسيدًا مكثفًا لعصرٍ كامل من التحولات السياسية التي أعقبت اتفاقية ومعاهدة كامب ديفيد (1978-1979)، ولأسئلة الهوية والوطنية والطاعة التي انشقت في وعي المصريين بعد أن تحوّل العدوّ إلى “جارٍ” والصحراء التي هي حق للمصريين إلى منطقةٍ عازلةٍ للسلام. بين طلقةٍ أطلقتها أصابعه، وجثةٍ خرجت من السجن في كفنٍ غامض، تَحوّل خاطر إلى رمزٍ يطلّ من ثقب الذاكرة الوطنية، نصفه بطلٌ شعبي، ونصفه ضحية دولةٍ خافت من البطولة.
في هذا المقال، سنتناول، بإيجاز، سيرة سليمان خاطر من زوايا متعددة: خلفيته الاجتماعية والعسكرية التي شكّلت وعيه، ملابسات الحادثة كما رُويت رسميًا وشعبيًا، ثم الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع قضيته ومحاكمته، قبل الانتقال إلى تحليل موقعه في الذاكرة الجماعية اليوم، وكيف أعادت الأجيال اللاحقة توظيف صورته بين رمز للبطولة ودرس في القمع.
النشأة وبذور الوعي
وُلد سليمان محمد عبد الحميد خاطر عام 1961 في قرية إكياد البحرية بمحافظة الشرقية، في أسرةٍ ريفية بسيطة تضم خمسة أبناء. لم تكن طفولته عادية؛ ففي التاسعة من عمره شهد قصف الطيران الإسرائيلي لمدرسة بحر البقر الابتدائية في عام 1970، خلال أعوام الاستنزاف، حيث قُتل أكثر من ثلاثين طفلًا مصريًا أثناء جلوسهم على مقاعد الدراسة. في تلك الليلة، عاد الطفل الصغير إلى بيته مصدومًا، تلاحقه صور الأجساد الصغيرة المحترقة، والتي كانت الشرارة الأولى لتكوّن وعيٍ وطنيّ غاضب في داخله.
حين شبّ عن الطوق، التحق بكلية الحقوق بجامعة الزقازيق، وواصل في الوقت نفسه خدمته الإلزامية في قوات الأمن المركزي. كان قارئًا نهمًا في القانون والسياسة، وصاحب حسّ نقدي تجاه ما يراه “تفريطًا في الكرامة الوطنية” بعد معاهدة السلام. من هنا، لم يكن جنديًا من أولئك الذين يتعاملون مع البنادق كروتين، بل كان يرى السلاح امتدادًا لجسد الوطن نفسه، وأن حراسته ليست وظيفة، بل تكليفًا أخلاقيًا وإنسانيًا.
حدودٌ جديدة وعدوّ غامض
في منتصف الثمانينيات، كانت الدولة المصرية تعيش تناقضًا حادًا؛ معاهدة سلامٍ تُلزِمها بطمأنة الجبهة الشرقية، وشعبٌ لا يزال يرى “إسرائيل” عدوًا زرع الهزائم في ذاكرته، واستباح دماء أهله، بل ولا زال يحتل مناطق عربية أخرى كالجولان السوري، ناهيك عن احتلاله لفلسطين وإذلال شعبها.
وسط كل هذا الغضب، كان الجندي المصري يُدرّب على حماية “حدود السلام”، لا خطوط المواجهة، بينما لا تزال الأرض نفسها تحمل رائحة المعارك القديمة، رائحة الدماء. هناك، في رأس برقة جنوب سيناء، حيث تتعانق الرمال مع البحر، خدم خاطر ضمن قوة حراسةٍ صغيرة. كان يشعر أن واجبه هو حماية الحدود لا مراقبتها فقط، وأن “السلام” لا يعني أن تُفتح الأرض لمن قتلوا تلاميذ بحر البقر قبل خمسة عشر عامًا.
في صباح الخامس من أكتوبر 1985، وأثناء نوبة حراسته، شاهد خاطر مجموعة من السياح الإسرائيليين – بينهم نساء وأطفال – يصعدون التلة التي كانت ضمن المنطقة العسكرية المحظورة. أنذرهم أكثر من مرة بالتوقف، باللغة الإنجليزية: “Stop! No passing!”، لكنهم لم يستجيبوا، فأطلق رصاصتين تحذيريتين في الهواء، ثم، وفقًا لروايته، “وجدهم يتقدمون نحوه”، ففتح النار على أجسادهم. سبعة إسرائيليين سقطوا قتلى، بينهم أربعة أطفال وثلاثة بالغين، ونجت طفلة واحدة بعد أن احتمت بجسد والدتها.
بعدها سلّم نفسه بهدوء إلى زملائه في النقطة، دون مقاومة أو محاولة فرار. في التحقيق، حين سُئل عن السبب، قال عبارته الشهيرة: “أنا لم أقتل أطفالًا، أنا قتلت من اخترق حدودي. من يحب سلاحه يحب وطنه، ومن يهمل سلاحه فقد أهمل وطنه”.

المحاكمة والقدر المغلق
أُحيل خاطر إلى محكمة عسكرية استثنائية بقرارٍ من رئيس الجمهورية، رغم مطالبات المحامين بمحاكمته أمام القضاء المدني. فيما تعاملت الصحف الرسمية مع الحادثة باعتبارها “خللًا نفسيًا” من جندي فقد السيطرة على اتزانه العقلي، فيما وصفته المعارضة بـ“بطل لم يحتمل أن يرى العدوّ على أرضه”.
وفي 28 ديسمبر 1985، أصدرت المحكمة حكمها بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، كرسالةٍ سياسية بقدر ما كانت حكمًا قضائيًا. داخل السجن الحربي، ظل خاطر هادئًا يقرأ ويصلي، ويكتب رسائل لأسرته، يطالبهم فيها بالصبر، ويؤكد أنه “لم يندم على ما فعل”.
لكن، بعد أقل من أسبوعين من محاكمته، تحديدا في 7 يناير 1986، أعلنت السلطات أنه “انتحر شنقًا” داخل زنزانته بقطعة قماش من غطاء سريره. رفضت أسرته الرواية، وقالت أمه للصحفيين: “ابني ما ينتحرش، ابني اتقتل عشان يرضوا إسرائيل”. ومن بعدها، لم يُسمح بتشريح الجثة بشكل مستقل، ودفن بسرعة تحت حراسة أمنية مشددة.
في الشارع المصري، لم يصدّق أحد قصة الانتحار. بل وخرجت مظاهرات طلابية غاضبة في القاهرة وعين شمس والزقازيق، تهتف “البطل لا ينتحر” و“حسبنا الله في من خانوا الوطن”. من هنا، كان موته إعلانًا آخر عن المسافة المتزايدة بين الشعب والنظام الذي عقد السلام مع إسرائيل، بين ما يراه الناس بطولة وما تعتبره السلطة خرقًا للأوامر.
بين الأسطورة والرقابة
تحوّل سليمان خاطر بعد موته إلى أسطورةٍ شعبية، تُروى في المقاهي والأغاني، وتُستعاد كلما تكررت الأزمات على الحدود في سيناء. في إيران، طُبعت أظرف بريدية تحمل صورته ولقبته “شهيد سيناء”، وسُمي أحد شوارع طهران باسمه. أما في مصر، فقد حُذف اسمه من الكتب والمناهج، وتحوّل إلى منطقةٍ محرّمة في الذاكرة الرسمية.
في يناير من كل عام، تُبعث قصته من جديد في وسائل الإعلام المعارضة لسرديات النظام التي تحاول تدجين العقول ناحية التطبيع والسلام مع إسرائيل، وتشتعل على المنصات الرقمية.
في عام 2023، حين قُتل مجند مصري بإطلاق نار على الحدود، امتلأت مواقع التواصل بوسم “#سليمان_خاطر_الجديد”، في استعادةٍ رمزيةٍ لصورة الجندي الذي لم يقبل أن يكون “حارس سلامٍ بارد”. لكن، ظلَّ النظام يرى في إحياء ذكرى خاطر خطرًا على “الانضباط الوطني”. أما في 2018، اعتُقل عددٌ من الفنانين الشباب بعد تقديمهم مسرحيةً عنوانها باسمه، وتستلهم قصته، بتهمة “إهانة المؤسسة الأمنية”. كأن الدولة لم تكتفِ بإعدام جسده، فقررت إعدام صورته أيضًا ومحو أي أعمال فنية قد تُجسد قصته.
الضمير الوطني وحدود الطاعة
في الحكاية الوجيزة لسليمان خاطر تختبئ أسئلةٌ كبرى عن معنى الوطنية، وحدود الطاعة، وأين يقف الضمير حين تتقاطع الأوامر مع الإيمان الداخلي بالحق. فماذا يفعل الجندي حين يجد نفسه ممزقًا بين واجبه العسكري ونداء ضميره الوطني؟ هل يطيع السلطة التي منحته السلاح، أم يحمي الأرض التي منحت السلاح معناه؟
إن الدولة، بعقدها الاجتماعي الحديث، كما وصفها هيغل، “الروح الأخلاقية العليا” التي تتجسد فيها غايات المجتمع، تُطالب مواطنيها بالولاء الكامل، وتعتبر الطاعة جزءًا من نظامها الأخلاقي. لكن كامو، في المقابل، يرى أن الإنسان حين يشعر أن العدالة تُهان، فإن العصيان يصبح شكلاً من أشكال الوفاء للحقيقة. بين هذين الحدّين وقف خاطر وحيدًا، دون تنظيرٍ فلسفي أو خلفيةٍ أيديولوجية، بل ببداهة الفطرة وحدها، ليجسّد الصدام الأبدي بين القانون والضمير، بين السلطة والمعنى.
لم يكن تمرده سياسيًا، بل وجدانيًا، أشبه بصرخةٍ تخرج من عمق التاريخ أكثر مما تخرج من فم الجندي. لم يكتب بيانًا، ولم يسعَ إلى شهرةٍ أو مجد، بل تصرّف كما لو أن العدالة كائنٌ حيّ يسكنه، لا يستطيع خيانته. ولهذا تحديدًا صار خطرًا على النظام؛ لأن الفعل الفردي النابع من الضمير، في دولةٍ تُؤسَّس على الخضوع، يُعدّ تهديدًا لا يقل خطورة عن الثورة. فالنظام يمكنه أن يحاصر التنظيمات والأحزاب، لكنه يعجز أمام شخصٍ واحد يتصرف بدافعٍ داخلي لا يخضع لمعادلات الخوف أو المنفعة. ومن هنا تحوّل خاطر إلى استعارةٍ كاشفة: إنّ الطاعة بلا ضمير ليست فضيلة، وإنّ الوطنية بلا سؤالٍ عن العدالة ليست سوى قناعٍ يُخفي الخضوع.
نهاية، لم يكن سليمان خاطر يريد أن يكون بطلًا، لكنه أصبح كذلك رغمًا عنه. فحين يُقتل البريء باسم الوطن، وحين يُدان المخلص باسم القانون، يتحول الموت إلى لغةٍ أخرى للقول. بعد أربعين عامًا تقريبًا، ما زال اسمه يطفو كلما تجدد الجدل حول معنى الوطنية في زمنٍ يختلط فيه السلام بالهزيمة.
قصة خاطر ليست حكاية عن جندي أطلق النار، بل عن وطنٍ انقسم بين من رأى في الفعل جريمة، وهم قلّة تابعة للسُلطوية وسردياتِها، ومن رآه إنقاذًا للكرامة. وإلى الآن، لا أحد يعرف إن كان قد مات منتحرًا أم مقتولًا، لكن المؤكد أن النظام الذي سجنه لم ينجح في حبس فكرته. ففكرة أن الوطنية قد تكون أحيانًا فعل تمرّد، لا تزال تنبض في ضمير المصريين، أبرزهم الشاب المصري والمجنّد الوطني محمد صلاح، كلما وقفوا أمام سؤالٍ قديمٍ ومتجدد: من نحرس؟ ومن نُطيع؟ وإلى من نوجّه بنادقنا؟