تتفاقم مؤشرات التوتر بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والحكومة السورية في شمال وشرق البلاد، وسط تطورات ميدانية متسارعة تنذر بتصعيد وشيك، وقد بلغ هذا التوتر ذروته ليلة أمس، عندما اندلعت اشتباكات عنيفة بين الجانبين على أطراف حيّي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، في مواجهة تُعدّ الأعنف منذ توقيع اتفاق آذار، الذي يُفترض أن ينظم العلاقة بين الطرفين.
صباح اليوم وصل وفد من قسد إلى دمشق للقاء مسؤولي الحكومة، ويعقد الاجتماع بحضور الرئيس أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني إضافة لحضور مظلوم عبدي وإلهام أحمد من قوات “قسد” فيما يحضر مسؤولون أمريكيون في محاولة للتوصل لاتفاق أو ترميم اتفاق آذار.
في موازاة ذلك، تُواصل “قسد” تعزيز مواقعها في الرقة ودير الزور والحسكة، من خلال حملات تجنيد إجباري، وحفر خنادق، وتحصين خطوط التماس، في وقت شهد فيه ريف حلب الشرقي جولات متكررة من المواجهات المحدودة، عاكسةً هشاشة التفاهمات الميدانية القائمة.
اشتباكات عنيفة في حلب بين قوات الأمن الداخلي وميليشيا “قسد” تلاه اتفاق تهدئة.. ما الذي حصل في مدينة حلب ليلة البارحة؟ pic.twitter.com/YSCYcveUS9
— نون سوريا (@NoonPostSY) October 7, 2025
فهل نحن أمام مواجهة مفتوحة تلوح في الأفق؟ أم أن المشهد برمّته لا يتجاوز حدود استعراض القوة بانتظار جولة تفاوض جديدة تحدد مستقبل العلاقة بين دمشق وقسد؟
تصعيد متسارع واشتباكات دامية
في تطور هو الأعنف منذ توقيع اتفاق آذار الماضي، اندلعت مساء أمس الإثنين اشتباكات عنيفة بين الجيش السوري وقوات قسد في محيط حيّي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، وسط توتر متصاعد منذ أيام في المنطقة.
وشهدت المواجهات استخدامًا للأسلحة المتوسطة والثقيلة، بالتزامن مع قصف نفذته قسد طال الأحياء السكنية المجاورة، من بينها سيف الدولة والميدان وبستان الباشا والسريان، ما أسفر عن مقتل مدني واحد وإصابة نحو 25 شخصًا، غالبيتهم من المدنيين، إضافة إلى مقتل عنصر من قوى الأمن الداخلي وإصابة ثلاثة آخرين، بحسب مصادر رسمية.
في السياق ذاته، أكد المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، أن “قسد” تقوم بـ”تحريض السكان” وفتح “ممرات تهريب” للأسلحة والممنوعات، محمّلاً التيار الانفصالي داخل قسد مسؤولية عرقلة تنفيذ الاتفاق، ومؤكدًا التزام الحكومة السورية بخفض التصعيد وحقن الدماء.
تأتي هذه الاشتباكات بعد تعزيزات عسكرية دفع بها الجيش السوري وقوى الأمن الداخلي إلى مداخل الحيين، وذلك عقب حادثة سابقة قُتل فيها عنصر من الجيش وأصيب اثنان آخران، ما زاد من حدّة التوتر القائم بين الجانبين.
View this post on Instagram
في المقابل، حمّلت “قوات سوريا الديمقراطية” الحكومة السورية المسؤولية الكاملة عن ما تشهده الأحياء من تصعيد، نافية وجود قواتها في المنطقة منذ انسحابها بموجب تفاهم 1 نيسان.
وفي بيان له، ذكر المركز الإعلامي لـ”قسد” أن ما يجري في حلب هو “نتيجة مباشرة لاستفزازات فصائل حكومة دمشق ومحاولاتها التوغل بالدبابات”، مؤكدًا أن “الاتهامات بشأن استهداف حواجز حكومية عارية عن الصحة تمامًا.”
تصعيد متكرر في جبهات ريف حلب الشرقي
في موازاة أحداث حلب، تتواصل منذ أسابيع حالة التصعيد العسكري في جبهات دير حافر وريف حلب الشرقي، حيث شهدت المنطقة مواجهات متقطعة بين الجيش السوري وقسد، ما ألقى بظلال من الشك على مدى صمود التفاهمات الميدانية التي رعتها أطراف دولية خلال الأشهر الماضية.
ففي 11 أيلول/سبتمبر الماضي، أعلنت وزارة الدفاع السورية مقتل مدنيين اثنين وإصابة ثلاثة آخرين جراء قصف مدفعي نفذته قسد من محيط مطار الجراح العسكري، مستهدفةً قرى الكيارية، رسم الأحمر، وحبوبة كبير، واصفةً الهجوم بأنه “تصرف مفاجئ وغير مسؤول”.
كما اندلعت اشتباكات عنيفة على محور دير حافر في 5 تشرين الأول/أكتوبر، استخدم خلالها الطرفان المدفعية الثقيلة. ووفقًا لوكالة “سانا”، فإن قسد استهدفت قريتي حميمة والكيطة، ما دفع الجيش السوري للرد بقصف مواقعها.
وردّت قسد ببيان اتهمت فيه القوات الحكومية بـ”ارتكاب انتهاكات”، وأشارت إلى قصف بطائرات مسيرة استهدف إحدى مركباتها، ما أسفر عن إصابة ثلاثة من مقاتليها.
تجنيد قسري واعتقالات تعسفية
تصاعدت في الأسابيع الأخيرة حملات التجنيد الإجباري والاعتقالات الواسعة التي تنفذها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مناطق سيطرتها شمال شرقي سوريا، تحت مسمى “واجب الدفاع الذاتي”.
وفي وقت تتزايد فيه حالة الاحتقان الشعبي والرفض المجتمعي لهذه الإجراءات في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، شنت الشرطة العسكرية التابعة لقسد حملات دهم واعتقال طالت مئات الشبان، وسط انتشار مكثف للحواجز داخل المدن والبلدات، ما دفع الأهالي إلى تحذير أبنائهم من مغادرة المنازل إلا للضرورة القصوى.
ووفق شبكات إخبارية محلية فقد تجاوز عدد المعتقلين في مدينة الرقة وريفها خلال أواخر أيلول/سبتمبر الماضي 500 حالة اعتقال عشوائية، شملت قاصرين وكبار سن، فيما شهدت قرية المويلح غربي الرقة حملة مشابهة أسفرت عن اعتقال أكثر من خمسين شخصًا، بينهم أطفال.
وخلال مداهمة نفذتها قسد في حي الوهب بمدينة الطبقة في 22 أيلول/سبتمبر، قُتل شابان هما زهير النمشة وميمون (لم يُذكر اسم عائلته)، بينما تم توقيف أكثر من 15 شخصًا دون توضيح التهم أو أماكن الاحتجاز، بحسب مراسل شبكة “مراسل الشرقية” المحلية.
وفي سياق موازٍ وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها الصادر في 2 أيلول/سبتمبر استمرار قسد في تنفيذ عمليات دهم جماعية واحتجاز مدنيين، بينهم أطفال، بذريعة ملاحقة خلايا تنظيم داعش، مؤكدة أن العديد من هذه الحالات هدفت إلى سوق الشبان قسرًا إلى معسكرات التدريب.
View this post on Instagram
وفي المقابل نفت قسد هذه الاعتقالات وقالت في بيان، صدر في 1 من تشرين الأول الحالي، إن ما جرى “إجراء أمني روتيني للتحقق من الهويات الشخصية وضمان سلامة الوثائق التعريفية”، مشيرة إلى أن هذه الخطوة جاءت بهدف “الحفاظ على استقرار المنطقة وأمنها من أي خروقات”.
تصعيد قسد.. بين هاجس البقاء ورغبة التأثير في المشهد المقبل
لا تبدو التحركات الميدانية المتزايدة لقوات قسد عشوائية، بل هي مكوّن من استراتيجية مدروسة تهدف إلى تعزيز قدراتها العسكرية وتأمين مواقع النفوذ في وجه أي تصعيد مستقبلي مع الحكومة السورية، في سياق صراع على الشرعية والتأثير على الأرض.
وفي هذا السياق يرى الباحث سمير العبد الله، مدير وحدة الدراسات في المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، أن التطورات الميدانية والسياسية الأخيرة تكشف عن مؤشرات قوية لتصاعد التوتر بين قسد والحكومة السورية، قد تتهيّأ معه مواجهة عسكرية محدودة أو تصعيدٌ ميداني محسوب.
ويضيف العبد الله لموقع “نون بوست” أن قسد خلال الفترة الأخيرة كثّفت حملات التجنيد الإجباري التي طالت الشباب وأحيانًا الأطفال، كجزء من سعيها إلى تعزيز القدرات البشرية والعسكرية تحسبًا لأي تطور مفاجئ، وفي الوقت نفسه، واصلت حفر الخنادق والتحصينات على خطوط التماس كدلالة واضحة على استعداد دفاعي لصد هجمات محتملة أو لمحاولات تقدم من القوات الحكومية.
ويرى العبد الله أن تكرار جولات التصعيد المحلية في الريف الشرقي لحلب، وإن كانت لم تأتِ بمعارك واسعة، فهو بمثابة اختبار متكرر للحدود الميدانية بين الطرفين.
من ناحيته يرى الباحث في مركز الحوار السوري، عامر المثقال، أن قسد تتحرك بدافع الخشية من عمل عسكري محتمل ضدها، سواء كان واسع النطاق أو محدودًا للضغط عليها من أجل تنفيذ اتفاقية 10 آذار، ولذلك تسعى إلى زيادة عديد قواتها وتعزيز جاهزيتها الميدانية تحسبًا لأي تطورات مفاجئة.
ويضيف المثقال في حديثه لنون بوست أن هذه الإجراءات، في حال فشل التفاهمات مع دمشق، لن تحقق تأثيرًا فعليًا، لأن معظم العناصر الذين يتم تجنيدهم يفتقرون إلى التدريب الكافي على خوض المعارك، الأمر الذي يجعل احتمالات الانشقاق أو الفرار بين المنتمين إليها من المكون العربي واردة في صفوفهم عند اندلاع أي مواجهة.
وفي سياق متصل قالت إلهام أحمد الناطقة باسم الإدارة الذاتية، في مقابلة صحفية “المجلة” بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر الفائت، إن “عدد أفراد قسد وقوات الأمن يُقدَّر بحوالي مئة ألف عنصر”، مشيرة إلى أن هناك “تفاهمات لتشكيل قوى مشتركة ضمن الجيش السوري الجديد”، وهو ما يُفهم منه أن قسد تسعى عبر هذا التصعيد إلى ترسيخ موقعها الميداني والسياسي، واستباق أي ترتيبات قد تُفقدها نفوذها القائم في شمال وشرق سوريا.
موقف دمشق من هذا التصعيد
تتعامل الحكومة السورية مع التصعيد المتكرر من جانب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بقدر كبير من الهدوء الحذر، في ظل محاولات واضحة لاحتواء الموقف وتجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة، مع التمسك في الوقت نفسه بثوابت السيادة ورفض الإملاءات الخارجية.
وفي هذا السياق، نقلت قناة الإخبارية السورية عن مصدر رسمي أنه تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في حيّي الشيخ مقصود والأشرفية بمدينة حلب، وذلك بعد اشتباكات عنيفة شهدتها المنطقة مساء الإثنين، هي الأعنف منذ توقيع اتفاق آذار بين الجانبين.
ووفق مصادر متطابقة، توقفت المواجهات بعد جلسة مفاوضات ميدانية بين ممثلين عن قسد وآخرين عن الحكومة السورية، نُظمت على أطراف الحيين بعد منتصف الليل.
في المقابل، يبرز موقف دمشق في التعامل مع هذا التصعيد من خلال تصريحات رسمية وشبه رسمية تشير إلى تفريق واضح بين الجناح السياسي لقسد وبعض التيارات المتشددة داخلها.
ففي مقابلة مع صحيفة “ملييت” التركية بتاريخ 19 أيلول/سبتمبر، قال أحمد الشرع إن “أجنحة متطرفة داخل قسد وحزب العمال الكردستاني عطّلت تنفيذ اتفاق آذار، وتحاول إعادة التموضع سياسيًا على الأرض”، في محاولة لفرض وقائع جديدة قبل العودة إلى طاولة الحوار.
وفيما نفت الخارجية السورية ما أشيع حول رفض الوزير أسعد الشيباني لقاء إلهام أحمد، أوضحت أن الوفد الكردي وصل دون تنسيق، بينما أرجعت مصادر دبلوماسية الرفض إلى ترتيبات أميركية موازية حاولت واشنطن فرضها على مسار التفاوض، وهو ما رفضته دمشق بشكل قاطع باعتباره انتهاكًا لسيادتها.
ويرى الباحث مثقال العيسى أن الحكومة السورية تتفادى في هذه المرحلة الانجرار إلى صدام مباشر مع قسد، إلا أن استمرار الخروقات وتباطؤ تنفيذ اتفاق 10 آذار قد يدفع دمشق إلى توجيه رسائل ميدانية محسوبة، من خلال عمليات محدودة في مناطق مثل محيط دير حافر وشرق الرقة، حيث لا وجود فعليًا لقوات التحالف الدولي.
قسد بين ضغوط واشنطن وتهديدات أنقرة
تحاول الولايات المتحدة، عبر مبعوثها الخاص إلى سوريا توم براك، أن تدفع نحو تسريع عملية الاندماج بين الحكومة السورية و”الإدارة الذاتية” باعتبارها المسار الأنسب لاستقرار شمال شرقي البلاد.
وأجرى المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك، زيارة إلى شمال شرق سوريا، حيث التقى قائد قسد مظلوم عبدي في مدينة الحسكة.
وأوضح باراك في منشور على منصة “إكس” أنه زار شمال شرق سوريا برفقة قائد القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM) الأدميرال كوبر، وأجرى “محادثات معمقة” مع مظلوم عبدي وقيادة “قسد”.
وقال عبدي: نريد أن نتيح للسوريين فرصة للاتحاد مع جميع السوريين وبذل جهود متجددة من أجل السلام والتعاون والازدهار. لقد أعطينا دفعة جديدة لرؤية الرئيس ترامب المتمثلة في “أعطوا سوريا فرصة”.
أما تركيا فتبدي موقفًا أكثر صرامة، إذ تصرّ على إبقاء ورقة التهديد العسكري جاهزة في مواجهة أي تسويف أو مماطلة من جانب “قسد”، معتبرة أن تحركات الأخيرة تشكل خطرًا مباشرًا على أمنها القومي.
وقد أكّد الرئيس السوري أحمد الشرع أنه تمكن خلال الأشهر الماضية من إقناع أنقرة بتأجيل أي عمل عسكري ضد قسد، لإتاحة الفرصة أمام المسار التفاوضي، لكنه حذّر في لقائه مع صحيفة “ملييت” التركية من أنه “إذا لم تتحقق عملية التكامل بحلول كانون الأول/ديسمبر المقبل، فقد تتخذ تركيا إجراءً عسكريًا”.
ويرى الباحث في الشأن الكردي عبدالله كدو أن كلمة الرئيس الشرع الأخيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة عمّقت الفجوة بين الحكومة وقسد، وأدت إلى تصاعد الخطاب الإعلامي المتبادل، بالتوازي مع تشدد تركي متزايد يرى في اندماج قسد ضمن الجيش السوري امتدادًا لمشروع سياسي يرتبط بزعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، الذي دعا سابقًا إلى حل الحزب وإلقاء السلاح.
وأوضح كدو في حديثه لنون بوست هذا التباين الثلاثي في المواقف، يبدو أن القرار النهائي لا يزال بيد واشنطن التي تحتفظ بوجود عسكري في شمال شرقي سوريا، وتدير قنوات اتصال موازية مع كل من دمشق وأنقرة، ما يجعلها الطرف القادر على ترجيح كفة التفاهم أو المواجهة في المرحلة المقبلة.