بكل فخر، تحدث مركز الأبحاث الإسرائيلي اليميني “معهد القدس للاستراتيجية والأمن” عن أن نمو وازدهار الصناعات العسكرية الإسرائيلية يمثل قصة نجاح لا يمكن فصلها عن تاريخ “دولة إسرائيل” والمشروع الصهيوني بأكمله، إذ تُعدّ الصناعات العسكرية الإسرائيلية مصدر فخر قومي بحق، فلما تأسست لأول مرة قبل 70 عامًا، شكّلت عبئًا ماليًا على الاقتصاد الوطني، أما اليوم (نُشرت المقالة عام 2018) فقد تحولت إلى مصدر لا يتوقف عن إدرار المال. ففي عام 2016، سجلت كل شركة سلاح إسرائيلية أرباحًا بعد الضرائب، وبلغت مبيعات قطاع الأسلحة 9 مليارات دولار، نمت إلى 11.5 مليارًا عام 2017، جاء ثلاثة أرباعها من الصادرات، وهذا يدل على المساهمة القوية للصناعات الدفاعية في الاقتصاد الوطني، علاوة على دورها في تعزيز أمن “إسرائيل”.
تبدو تلك الحالة غريبة، فعلى العكس تمامًا من روسيا، التي انخفضت صادراتها من الأسلحة بنسبة 92% منذ اندلاع الحرب مع أوكرانيا، تُعزز الحرب صادرات الأسلحة الإسرائيلية وتدفعها إلى كسر أرقام مبيعات قياسية واحدًا تلو الآخر. نحن بحاجة إلى ترجمة تلك الأرقام القياسية إلى أسواق ودول وعلاقات، دأبت “إسرائيل” على تعزيزها من خلال شراكات في أوجه عسكرية عدة، لنبدأ إذن من الإتحاد الأوروبي.
الشريك المثالي
في كتابه “مختبر فلسطين: كيف تصدر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم” يذكر الكاتب أنتوني لوينشتاين، أن “إسرائيل” هي لاعبٌ أساسي في معركة الاتحاد الأوروبي من أجل عسكرة حدوده ومنع الوافدين الجدد منذ عام 2015، حيث تشاركت الكثير من الشركات العسكرية الإسرائيلية مع الاتحاد الأوروبي، من خلال تصدير طائراتها المسيّرة، صاحبة سنوات الخبرة الطويلة في فلسطين. في سنة 2020، أعلن الاتحاد الأوروبي شراكات بلغت قيمتها 100 مليون يورو مع شركات إيرباص الفرنسية، وشركتيّن إسرائيليتين منهم شركة حكومية، لتقدم تلك الشركات خدماتها في المحافظة على تواجد مستمر للطائرات المسيّرة فوق البحر المتوسط.
قدمت الشركات الإسرائيلية، طائرتيّ “هيرمس” من شركة إلبيت، والطائرة “هيرون” من شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، وهما صاحبتا باع طويل في قصف قطاع غزة منذ عام 2008. في الواقع، رغم المنافسة الشديدة للطائرات المسيّرة التركية، ظلت الطائرات الإسرائيلية هي النماذج المفضلة للإتحاد الأوروبي والعالم، ففي سنة 2017، حظيت الصناعة الإسرائيلية للطائرات المسيّرة على 60% من مبيعات ذلك السوق على مدى العقود الثلاثة السابقة.
في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة 2021، حطمت “إسرائيل”رقمها القياسي في مبيعات الأسلحة وسجلت رقمًا جديدًا بلغ 11.3 مليار دولارًا. وفي عام 2023 بلغت صادرات “إسرائيل” أكثر من 13 مليار دولار لتكسر الرقم القياسي السابق، في ذاك العام، كانت نصف صفقات السلاح الإسرائيلية في آسيا والمحيط الهادئ، ولم تكن حصة الإتحاد الأوروبي سوى 35% من الصادرات الإسرائيلية من السلاح. لكن هذا المُعطى سرعان ما سيتغير في العام التالي.
“لا تشتروا الأسلحة من إسرائيل”.. متظاهرون متضامنون مع فلسطين يحتجّون أمام وزارة الدفاع اليابانية تنديدًا بشراء الجيش الياباني طائرات دون طيار من الاحتلال#غزة_تحت_القصف pic.twitter.com/9GmVQ28zBZ
— نون بوست (@NoonPost) April 4, 2024
حيث في عام 2024، حطمت “إسرائيل” رقمها مجددًا، للمرة الثانية، حيث باعت أسلحة بما يقارب 15 مليار دولارًا، كان نصيب الدول الأوروبية منها 54% مستغلة استعار الحرب التي لا تقف بين روسيا وأوكرانيا.
تجاوز السوق الأوروبي، السوق الأسيوي والمحيط الهادي كالأسواق الأكبر للسلاح الإسرائيلي في هذا العام، وهذا على الرغم من تعطيل بعض الدول الأوروبية صفقات ومنع الشركات الإسرائيلية من المشاركة في معارض سلاح احتجاجًا على المأساة الإنسانية في غزة. وفي ذاك العام أيضًا، وقعت “إسرائيل” اتفاقيًة بقيمة 3.8 مليار دولارًا مع ألمانيا لشراء نظام الدفاع الصاروخي “حيتس 3″، لتُسجل الصفقة الأكبر في تاريخ “إسرائيل”. في العموم، ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، استحوذت “إسرائيل” خلال الفترة من 2020 إلى 2024 على 13% من واردات ألمانيا من الأسلحة و7% من واردات المملكة المتحدة. وإلى جانب هؤلاء، يوجد ل،”إسرائيل” أصدقاء آخرون لم يتخلوا عنها بعد سنتيّن من الحرب على غزة.
الذين لم يديروا ظهرهم لـ”إسرائيل”
يمكننا الاعتماد على دراسة نشرها مركز النمسا للدراسات الأوروبية العسكرية والأمنية لنرى مدى عمق الشراكة والعلاقة التي تجمع “إسرائيل” باليونان كشريك أساسي ورئيسي في السوق الأوروبية. يرى الباحث يوجين كوجان أن تلك العلاقة مردها الأساسي هو تدهور علاقة أخرى، تلك التي بين “إسرائيل” وتركيا منذ حادثة سفينة مافي مرمرة، وتحت مبدأ عدو عدوي التقليدي، التقت مصالح اليونان و”إسرائيل” كثيرًا في السنوات الأخيرة، حيث اشترك البلدان في العديد من التدريبات الميدانية المشتركة.
بدايًة تعاقدت اليونان مع “إٍسرائيل” على ترقية طائرات “الأباتشي” مقابل 34 مليون دولار، وفي عام 2021، وقعت اليونان صفقة دفاعية كبرى مع “إسرائيل”تتولى مسؤوليتها شركة “إلبيت” مقابل 1.65 مليار دولار، حيث ستقوم إلبيت بتوفير طائرات من نوع M-346 وستقوم بصيانة أسطول التدريب الجوي بالكامل لمدة عشرين عامًا، وستوفر أجدد أنظمة الرادارات وأنظمة الطيران المتقدمة المدمجة (EVA).
حتى في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر 2023، كانت اليونان على استعداد لدفع كلفة دعمها “إسرائيل” واتخاذها موقفًا مخالفًا لأغلب الدول الأوروبية الكبرى، لصالح الحفاظ على موقعها الاستراتيجي في شرق البحر المتوسط وتأمين الوصول إلى شركات الطاقة والدفاع لموازنة القوة التركية.
أدت إلى استشـ،ـهاد ما يزيد عن 35 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال.. الطبيب الفلسطيني، غسان أبو ستة، يتحدث عن أنواع الأسلـ،ـحة الوحشية المستخدمة في الحرب الحالية على #غزة #رفح pic.twitter.com/t7syc1TyBR
— نون بوست (@NoonPost) May 18, 2024
في نهاية أكتوبر 2023 ذاته، صادق المجلس الحكومي اليوناني للشؤون الخارجية والدفاعية على شراء أنظمة إسرائيلية الصنع من شركة “رافائيل” تشمل صواريخ رامبيج وسبايس. وفي ديسمبر، وقعت اليونان صفقة بقيمة 400 مليون دولارًا لشراء صواريخ سبايك بحرية وجوية وبرية. وفي عام 2024، بدأ البلدان محادثات لتطوير نظام دفاع مضاد للطائرات بقيمة 2.11 مليار دولار على غرار القبة الحديدية في اليونان، وإلى أن وصلنا لديسمبر من نفس العام، وصلت اليونان إلى المراحل النهائية من الموافقة على شراء 40 قاذفة صواريخ متعددة من طرار “بلس” من شركة “إلبيت” في صفقة وصلت قيمتها إلى 700 مليون يورو. وفي أبريل من عام 2025، أعلنت اليونان عن مبادرة دفاع جوي متعددة الطبقات تحت اسم “درع أخيل” بقيمة 2.8 مليار يورو، كان الشريك الرئيسي فيها هي شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) لشراء أنظمة الدفاع الجوي متوسطة المدى من طراز باراك إم إكس.
كذلك فتحت “إسرائيل” سوقًا جديدًا في رومانيا، في يوليو 2025، أعلنت رومانيا توقيع اتفاقية مع شركة إسرائيلية لشراء أنظمة أسلحة متكاملة من طراز “شوراد-فشوراد” بقيمة تقارب 2.3 مليار دولار، جاءت تلك الصفقة حسب رويترز بضغوط من الرئيس دونالد ترامب على رومانيا التي تحتفظ بشريط حدودي طويل مع أوكرانيا.
آسيا.. والوطن العربي!
لدى “إسرائيل” شركاء مهمون ذوي علاقة خاصة أيضًا في آسيا، الهند والفلبين. وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، بين عاميّ 2019 و 2023، كانت الفلبين في المرتبة الثانية على مستوى العالم من حيث مشتريات الأسلحة من “إسرائيل”، بنسبة 12%، وجاءت الهند في المرتبة الأولى بنسبة 37%.
تُعد الهند وفقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، ثاني أكبر مستورد للأسلحة في العالم خلال الفترة من 2020 إلى 2024 بعد أوكرانيا، وكانت “إسرائيل” ثالث أكبر مُصدر للأسلحة إلى الهند بعد روسيا وفرنسا، حيث زودت “إسرائيل”الهند بـ 13% من إجمالي وارداتها من الأسلحة خلال هذه الفترة. كما أن الشرطة الإسرائيلية تقوم بعمليات تدريب للشرطة الهندية المتواجدة في إقليم كشمير المتُنازع عليه منذ عام 2018. من ناحية أخرى زودت “إسرائيل” الفلبين بـ 27% من صادرات أسلحتها خلال الأعوام الأخيرة. لكن أمرًا ما هامًا طرأ على علاقة “إسرائيل”بالفلبين في سبتمبر 2025 يستحق الذكر، حيث أعلنت الفلبين تعليق وارداتها من السلاح الإسرائيلي بسبب المأساة الإنسانية في غزة.
ناشط أمريكي أثناء زيارته لجناح “إسرائيل” في معرض للصناعات الدفاعية: سمعنا أن هذا هو قسم قتـ.ل الأطفال، نبحث عن تقنية حديثة لقـ.ـتل الأطفال! pic.twitter.com/qYu94y0end
— نون بوست (@NoonPost) October 16, 2024
ارتفعت صادرات “إسرائيل” من السلاح إلى الدول العربية في عام 2024 إلى نسبة 12%، المُلفت في هذا الرقم، أنه في عام 2023 كانت النسبة 3% فقط، أي أن الصادرات الإسرائيلية للدول العربية زادت في ظل الإبادة في قطاع غزة.
اشترت الإمارات والبحرين والمغرب والسودان سلاحًا من “إسرائيل” بـ 1.8 مليار دولار أمريكي، وكان للمغرب نصيب من صفقة مدافع هاوتزر من شركة “إلبيت” بقيمة تتراوح بين 150 و 200 مليون يورو، وتعد المغرب واحد من أكبر الأسواق ل”إسرائيل”في منطقة الشرق الأوسط شمال إفريقيا، فقد سبق لها وأن اشترت نظام صواريخ “بلس” من نفس الشركة، وحصلت على نظام “باراك إم إكس” من شركة (IAI). نُلاحظ وفقًا لإحصائيات معهد ستوكهولم، أن “إسرائيل” زادت صادراتها إلى منطقة الشرق الأوسط عمومًا بين عاميّ 2020-2024 بنسبة 187% كنتيجة لاتفاقات أبراهام التي بدأت منذ العام 2020.
“إسرائيل”كتاجر حرب دولي
في فيلم “أمير حرب”، نرى كيف خرج يوري أورلوف، ذاك المهاجر الأوكراني المُعدم من مجتمع الهامش في نيويورك إلى مجتمع الثراء والنفوذ، من خلال تجارة الموت. كان أورلوف فردًا لا مؤسسة، وكان دخوله وسط حيتان التجارة غريبًا ومستهجنًا في البداية إلى أن سيطر عليها بالتدريج من خلال انتهاز الفرص وحسب، وركن الانحيازات جانبًا. لقد كان تاجر سلاح “قذر” ولا ينال الإحترام من زملائه أصحاب التقاليد.
إنه لمن المدهش كم التشابه الذي يجمع أورلوف بـ”إسرائيل”، تلك الدولة الطفيّلية التي جاءت فجأة من مكان غريب إلى محيط يكرهها وينبذها، والتي لا تحكمها أية انحيازات، فعلى الرغم من أن شرعيّتها تقوم على أنها أرض للناجين من الإبادة، وجدناها تساهم في إبادة مجتمعات ليسوا أعداء لوجود “إسرائيل” مثل (التوتسي في رواندا، الروهينجا في بورما، وعزل السود في جنوب إفريقيا زمن الفصل العنصري) تلك الانتهازية ساعدت في تحول “إسرائيل” رغم حجمها الصغير، وشرعيّتها الدولية الهشة. من خلال خيالها الجامح بنت “إسرائيل” اقتصادها وقوتها على تصدير التقنية العسكرية والأمنية والتي حولتها إلى واحدة من أهم مهندسي الأمن، ليس في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل في العالم كله.
في الوقت الحالي، استطاعت “إسرائيل” بين عاميّ 2020-2024 أن تستحوذ على أكثر من نصف صادرات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنسبة 52% ولا يليها إلا تركيا بنسبة 28%. لا تبدو تلك النسبة الأكثر لفتًا للنظر، في تنامي حجم الدور الذي تلعبه “إسرائيل” في هندسة الأمن في العالم، يبدو الأكثر دلالة أن نرى “إسرائيل” هي ثامن أكبر مصدر للأسلحة في العالم بين عاميّ 2020-2024 مستحوذة على حجم 3.1% من سوق صادرات السلاح في العالم.
