تشهد القضية الفلسطينية تطورات مهمة في مسار الصراع بالتزامن مع الذكرى الثانية لطوفان الأقصى وحرب الإبادة بدأت بالاعتراف الدولي بدولة فلسطين ثم المفاوضات الجارية في مصر حالياً لإنهاء الحرب، وكأننا على أعتاب مرحلة جديدة يخوضها الفلسطينيون هي مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر.
التقينا عبر الإنترنت في اليوم التالي لذكرى الطوفان صوتاً فلسطينياً مستقلاً هو الدكتور صالح عبد الجواد، المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية بجامعة بيرزيت. تحدّثنا معه عن الطوفان، وعن حل الصراع، وعن مسارات المقاومة، وعن محاسبة “إسرائيل” قانونياً، وعن الإنجاز الإعلامي للسردية الفلسطينية المُوثقة، وعن مجازر غزة التي يصفها بالاستثنائية لأن الإبادة تحدث ولأول مرة على الهواء مباشرة دون أن يتدخل الغرب لوقف الطرف المعتدِ بل يتدخل لدعمه.
طوّر عبد الجواد مفهوماً مختلفاً للعنصرية التي تمارسها “إسرائيل” في الأراضي المحتلة وأسماها “سوسيوسايد”. مَرَدّ رأيه أن هذه السياسة تنطوي على تدمير المجتمع الفلسطيني وتفريغ الأرض كلياً من السكان، وهو بذلك يرفض المصطلح الشائع الذي يصف الخصوصية الفلسطينية في التجربة بالفصل العنصري أو “الأبارتايد”. وقد درس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ثم واصل الدراسات العليا بفرنسا، كما قضى عدة سنوات في جامعات هارفارد وجورج تاون ومن قبلهما فيلانوفا. ويصدر له قبل نهاية العام كتاب سِيَريّ عن أبيه السياسي الفلسطيني عبد الجواد صالح الذي تقلّد عدة مناصب سياسية وأبعدته “إسرائيل” إلى الأردن قبل أن يعود إلى موطنه ثم يرحل عن دنيانا الشهر الماضي وهو في التسعينات من العمر.
بدأت المقاومة الفلسطينية قومية وصارت يسارية وانتهت بأوسلو، وغدت بعدها إسلامية حتى الطوفان. هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة في مسار المقاومة ما بعد الطوفان؟
صحيح أن المقاومة بدأت قومية عام 1919، ولكن سرعان ما انكفأ التوجه القومي مع سقوط حكومة فيصل العربية في دمشق، ودعينا نقول أنها بقيادة الحاج أمين الحسيني أصبحت حركة وطنية فلسطينية. بالطبع المقاومة كانت دائماً في طليعة الحركة الوطنية الفلسطينية، ولكن أصبحت ذو بعد قومي. نكبة 1948 حولتها من جديد وبشكل عميق نحو الاتجاه القومي خصوصاً مع صعود عبد الناصر وحزب البعث وحركة القوميين العرب حتى عام 1967. هزيمة 1967 كانت ضربة للاتجاه القومي، ولكن أنا لا أستطيع القول إنها أصبحت يسارية. بالتأكيد بعد عام 1967 ظهرت تنظيمات يسارية وحتى ماركسية مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، ولكن المكون الرئيسي للمقاومة كان بقيادة فتح وهي خط فلسطيني بعيد عن الاتجاه اليساري. ومع تراجع أداء منظمة التحرير الفلسطينية مع انتصار الثورة الإيرانية سنة 79 حدث نمو تدريجي للاتجاهات الدينية وخصوصاً مع ولادة حركة حماس في 14 ديسمبر 1987. ومنذ ذلك الحين أصبح هناك مُكوّنان للمقاومة والحركة الوطنية الفلسطينية؛ مُكوّن ديني بقيادة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، ومُكوّن وطني بقيادة فتح. الحركات اليسارية في هذه الفترة تراجعت مع انهيار الاتحاد السوفيتي ولأسباب أخرى فمنذ منتصف الثمانينيات كان هناك انحسار لليسار من ناحية اقتصادية وثقافية.
الشق الثاني من سؤالك إن كنا نشهد تحولاً جديداً في مسار المقاومة كما شهدنا مع كل حدث جديد يُشكّل هزّة مثل النكبة أو 67 أو سقوط الحكومة العربية في دمشق عام 1920. هناك شبه إجماع واتفاق على أن ما قبل السابع من أكتوبر يختلف عما بعده، ولكن حتى الآن لم يُحسم موضوع السابع من أكتوبر. هذه نقطة مهمة جدا. ما زال هناك سجال حول النتائج لأن النتائج مشوشة. بالتأكيد سيحصل تغير لكن الحديث عن شكل هذا التغيير ومقوماته من السابق لأوانه لأنه لم يُحسم بعد.
لستَ من المؤمنين بحل الدولتين ولا بحل الدولة الواحدة فأي مصير ينتظر الضفة وغزة اليوم وأي حل للصراع ترى؟
كلامك دقيق. أنا منذ عام 1980 صرتُ متشائماً بشأن فرص قيام دولة فلسطينية حتى من قبل مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية. حجم الاستيطان الضخم وشعوري بأن “إسرائيل” حتى لو أراد البعض فيها أن يقوم بعمل تسوية تاريخية فلن ينجح. لن ينجح الانسحاب من الضفة الغربية بسبب أهمية ومكانة الضفة الغربية بالنسبة للإسرائيليين والرموز الدينية المرتبطة بهذا الوضع والعدد الكبير نسبياً من المستوطنين. حتى عندما فكر إسحاق رابين بعمل تسوية تاريخية مع دولة فلسطينية هزيلة منزوعة السلاح مقطعة الأوصال تم اغتياله. طبعا حل الدولتين انتهى بشكل كامل وأُسدل الستار عليه نهائياً مع قانون القومية وهو بمثابة قانون أساسي للدولة العبرية. أقرّ الكنيست بأغلبية كبيرة هذا القانون في 19 تموز/يوليو 2018 وحدد بشكل نهائي أن حق تقرير المصير على الأرض هو فقط حصراً للشعب اليهودي. أما أنا فكنتُ متشائماً حتى من قبل. ولم أنتقد فقط من يتصور إمكانية وجود دولة واحدة أو دولتين، وإنما أيضاً تقييمي لمجمل السياسات الإسرائيلية جعلني أطور مفهوم “سوسيوسايد” وهو جوهر هذا القانون. نحن لا نتكلم عن حالة “أبارتايد” أو فصل عنصري يمكن معها الانتصار أو الوصول إلى حل من خلال تبني استراتيجية مقاومة مماثلة لما جرى في جنوب إفريقيا. هذا نوع من الخداع وغريب جدا أن يتبنى مثقفون فلسطينيون كبار ومثقفون غربيون هذا الأمر. ما يحصل هو سوسيوسايد بمعنى أن هناك طرف يحاول تدمير المجتمع الفلسطيني من أجل الحصول على الأرض وتفريغها كلياً من السكان. التشخيص الصحيح أمر مهم جداً.
أنا بعد انطلاق طوفان الأقصى بثلاثة أيام كتبت أنه من الضروري الانتباه إلى موضوع التهجير. الفكرة كانت موجودة عندي بعد دقائق من معرفة الأخبار يوم السابع من أكتوبر. بالطبع المقاتلين الفلسطينيين الذين اقتحموا منطقة غلاف غزة قاموا بعمل لا يمكن لأحد أن يتخيله. مجموعة من 1400 مقاتل من قوات النخبة معهم 700 آخرون مثلا يعني 2000 مقاتل استطاعوا الدخول لعمق 25 كم والتغلب على فرقة إسرائيلية كاملة هي فرقة غزة واحتلوا مستوطنات. مع ذلك، في رأيي، فالهدف الإسرائيلي الرئيسي لنتنياهو هو تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ومن الضفة الغربية. نحن في الضفة نتعرض يومياً لأعمال تنكيل فظيعة رغم أن موقف السلطة يحاول ألا يصطدم مع اسرائيل. لذلك بالنسبة لي لن يقود الوضع الحالي إلى دولتين مهما كان شكل هذه الدولة وإن كانت دولة مخففة يعني بدون سلاح أو تخضع لنوع من السيطرة الإسرائيلية. موضوع الدولة نفسه ليس مطروحاً عند هؤلاء. ورغم أن السلطة تحاول إبداء حسن نيتها وتقول نحن مستعدون لحكم غزة، لكن هناك رفض كامل للفكرة.
ومع ذلك لم ينشأ عندي رد فعل يرى أن الحل في الدولة الواحدة. هذا الموضوع أساسا أصعب بكثير من موضوع الدولتين. أنا منذ 40 سنة وإلى الآن أقول لدينا حل واحد إلى أن تتغير الظروف وهو حل بناء القوة. بمعنى أن تقوى جامعاتنا، ونظامنا الصحي، نقوى ثقافياً، ونعود إلى أرضنا ونصمد عليها. الأجيال الجديدة لم تعد لها علاقة بالأرض لأن “إسرائيل” نجحت بشكل كبير من خلال تشغيل العمال في عمالة يومية أو موسمية على فك هذه العلاقة. باعتقادي أنه رغم كل الخسارة الفادحة في الأرواح وفي البنية التحتية وفي المأساة الانسانية الاستثنائية في تاريخ البشرية كلها، ولكن أرجو ألا ينجح الإسرائيليون في تهجير سكان غزة لأن ذلك سيعني أنهم فشلوا فشلاً كبيراً في أهم أهداف استمرار الحرب لسنتين. الأمر لا علاقة له بالرهائن، ولا القضاء على حماس، أو نزع سلاحها. الهدف من البداية هو تدمير مدينة غزة وارسال الناس للجنوب وعمل ظرف يضطر الدول العربية لإنقاذ الفلسطينيين عبر فتح الحدود.
لكن هذا الصمود هو طريقة للمجابهة وليس حلاً. ربما لا ترى حلاً..؟
لا أرى حلاً على الإطلاق. أساس الصراع أو القضية الفلسطينية بالنسبة لي إذا ما أتينا إلى تحقيبها أو تزمينها يرجع إلى عام 1878 عندما دُشنت “بِتاح تِكْفا” أول مستوطنة صهيونية على أرض فلسطينية عربية وأصبحت الآن مدينة. أما القرية العربية فكان اسمها “مِلَبِّس”. ما يعني أننا نتكلم عن 150 سنة من الصراع. مهم أن نسأل لماذا كل هذه المدة دون حل. تقع الكثير من الأزمات العالمية والأطراف تتوصل إلى تسويات تاريخية. يمكنك القول إن هذه أقدم مشكلة سياسية موجودة، وذلك لأنها عصية على الحل. لو كان هناك حل لكان حصل منذ زمن بعيد.
هناك طريقان للحل أحدهما أن يصبح السكان الأصليين، وهم الفلسطينيون في هذه الحالة، أقوى من الطرف الاستيطاني الإحلالي فينتهي الموضوع. الثاني أن تحصل تسوية تاريخية وهي بالتأكيد لن تكون عادلة، ولكن فلنقل أنها تسوية تضمن الحدود الدنيا من المطالب الفلسطينية كما حدث في أوسلو. في الحل الثاني، الإسرائيليون والحركة الصهيونية غير موافقين. وحتى أوسلو حين رضي الطرف الفلسطيني بالحد الأدنى جدا، اغتالوا رابين واجتاحوا المدن الفلسطينية، وكان المفترض أن نصل إلى حل نهائي بنهاية إعلان المبادئ عام 1999 ولم يحدث. ولذلك تاريخياً، الحل لم يكن ممكناً في الماضي لا في زمن الانتداب البريطاني، ولا بعد 67، ولا بعد أوسلو، واليوم غير ممكن على الإطلاق. الحل هو أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، أو من خلال تسوية تاريخية، وكلاهما غير متوفر. الحل هو أن نبني قوتنا ونبقى على أرضنا إلى أن يأتي يوم آخر جديد.
هل ترى في حرب الإبادة المستمرة لحظة مفصلية في مسار محاسبة “إسرائيل” قانونيا؟
السابع من أكتوبر لحظة مفصلية تاريخية ليس على صعيد الشعب الفلسطيني فقط، وإنما في رأيي حتى على صعيد العالم العربي، وحتى عالمياً، وهو ما يجعلنا نفهم السبب وراء تبني عشرات الملايين من الشباب في العالم لقضية فلسطين اليوم. هناك تعاطف مع الفلسطينيين ومع كونهم الضحية. ولكن هم يعرفون أن للموضوع أيضاً أبعاد دولية فيما يتعلق بالعدالة والظلم بتغول نظام العولمة الرأسمال الليبرالي الجديد. نحن أمام نظام دولي فاسد ولا يمكن فهم أن واحداً مثل ترامب الساقط أخلاقياً يصل لرئاسة أقوى دولة عظمى في العالم. فيما يتعلق بالمستوى الرسمي والقانون الدولي، ما زال التقدم أقل بكثير. كان عندي مقالة على مدونة مجلة الدراسات الفلسطينية لما محكمة العدل العليا في لاهاي أصدرت حكمها الأول فكتبت وقتها مقالة عنوانها “شاهد كأنه ماشافش حاجة” من وحي مسرحية عادل إمام. يعني بمعنى أن الإبادة لا تحتاج أدلة فهي تُبث بشكل مباشر أمام الجميع يراها ويسمعها بدون أي لبس. لكن النظام القانوني الدولي لا يتفاعل بقدر أهمية الحدث. الجانب الثاني أن الولايات المتحدة في النظام الدولي هي القوة المسيطرة والإسرائيليين أيضاً، وهذا أمر مهم الانتباه له وأن نعرف أنهم يستخدمون أساليب غريبة.
هم من اغتالوا الكونت برنادوت الذي حاول أن يوجِد حلاً. المدهش في الموضوع أن القتل هنا كان لشخص أنقذ عشرات الآلاف من اليهود من المحرقة، وأنه ينتمي للأسرة السويدية المالكة يعني من النبلاء، ومع ذلك قتلوه من دون أي عقوبة. انظري مثلاً لقصف السفينة ليبرتي في حزيران/يونيو 67 وهي سفينة تجسس أمريكية يقصفها سلاح الجو الإسرائيلي ويقتل أربعة وثلاثين بحارًا. فنعم هناك تغيّر ملحوظ في المواقف ولكنه غير مرضى ودائما يتم إجهاضه، ولذلك لا أعول كثيراً بشكل شخصي على موضوع فرض عقوبات على “إسرائيل” من قِبَل دول غربية مهمة مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا.
كيف تقرأ الاعتراف الدولي بدولة فلسطين بما فيهم بريطانيا صاحبة وعد بلفور الذي وعد اليهود بوطن قومي في أرض فلسطين؟
اعتراف دولة مثل إسبانيا مهم، ولكن اعتراف بريطانيا الذي يأتي بعد أكثر من مئة عام على صدور وعد بلفور لا يهمني كثيراً وهو نوع من القوة الرمزية فالرأي العام البريطاني شهد تحولاً كبيراً في السنتين الماضيتين والحكومة تحاول التماشي مع الموضوع. بريطانيا كان لها دور كبير في التجسس على غزة بالطائرات، وفي تحديد أماكن القادة وإلى آخره للقضاء عليهم، فما أهمية أن يعترف بك من يُقطّع في جسمك ويُضعف كل مقوّمات بقائك؟ ما يهمني من بريطانيا أن توقف شحنات السلاح، وتقف مع الشعب الفلسطيني، وتقطع العلاقات مع إسرائيل. هذا ما أعتبره تصرفاً معقولاً.
بالأمس حصل تحول نوعي واقتحمت القوات الإسرائيلية مدينة البيرة من عدة أماكن وفرضت نوعاً من الخوف فلم يخرج الناس من بيوتهم. ما فائدة الاعتراف وأنت تارك آلة القمع الوحشية الإسرائيلية والمستوطنين -دعينا نقول- في حالة انفلات على السكان دائماً؟ لهذا السبب توصلت لموضوع الـ”سوسيوسايد” ومن البداية رفضت “الأبارتايد”. لأن كل ما هو على الأرض يقول إن هذا ليس فصل عنصري. الفصل العنصري كان من اللحظة الأولى التي بُنيت فيها أول مستوطنة قبل 150 سنة. وأنت لم تقل فصل عنصري إلا بعد بناء الجدار. مدينة تل أبيب تأسست بدايةً عام 1909 تحت حكم وعهد إسلامي هو حكم الدولة العثمانية، ومع ذلك كان ممنوعاً على أي عربي مسلم أو حتى مسيحي دخول المدينة، أو السكن فيها، أو يكون له متجر أو حانوت فالفصل العنصري هذا من البداية. ولذلك أنا ما يهمني هو ما يجري على الأرض، وهذا الاعتراف لا يُغيّر شيئاً إطلاقاً. لكن “إسرائيل” تحججت بموضوع الاعتراف لزيادة العقوبات، وهذا لم يحدث مثلاً في جنوب إفريقيا. لم يحدث أن انتُقد نظام جنوب إفريقيا في المحافل الدولية ثم يعود النظام لتشديد وطأة الفصل العنصري.
هذا كله جزء من الأجواء التي نعيشها منذ عام 67. دائماً يوهموك أن هناك حلول سياسية وتفاوض وأنا لا أهتم بهذا كله. ما أهتم به هو قطع العلاقات، أن تأخذ إجراءات عملية بدايةً من وقف تصدير الأسلحة.
هل ترى أن مسألة قطع العلاقات بين الدول الغربية و”إسرائيل” أمر ممكن أو تدخلهم لوقف الوحشية التي تمارسها؟
نعم، ممكن من بعض الدول، ولكن ليس من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة فعلاقتهم قوية جداً. لديّ أيضاً اجتهاد يرى أن جزء مما يحصل ليس متسقاً مع المصالح الاستعمارية لهذه الدول، وإنما أيضاً يأتي في سياق القدرات الاستخبارية والاختراقات التي توظفها “إسرائيل” في الصراع كما رأينا مع حزب الله وفي إيران وحتى في ضرب قطر. لستُ ممن يتبنون نظرية المؤامرة مع إن سايكس بيكو وكل تقسيم الشرق الأوسط بدأ بمؤامرة. لهذا موقف بعض الساسة الأوروبيين لا يمكن تفسيره فقط من موضوع المصالح. أعطيكِ مثال بسيط. حتى في قتال الولايات المتحدة ضد داعش لم تستهدف نساءهم وأطفالهم. حتى نوعية القنابل المستخدمة في الموصل وفي الرقّة كانت قنابل معظمها من وزن حوالي نصف طن أو 250 كجم. الإسرائيليون يستخدمون أكثر من ذلك يعني يُسمح “لإسرائيل” بالقيام بأشياء الولايات المتحدة لا تسمح لنفسها بالقيام بها. ما لفت انتباهي فيما يخص الدمار الظاهر في صور الأقمار الصناعية بعد أسبوعين من أحداث السابع من أكتوبر هو دمار بناية كاملة والبناية المجاورة لها مباشرة لا إصابة واحدة بها. واستنتجت أن البناية المدمرة فيها عائلات قادة ومقاتلين من حماس. يعني غزة تشهد نوعاً من الإبادة لاتجاه أو حزب سياسي وهذا يحدث لأول مرة في التاريخ. إبادة للعائلة بشكل كامل؛ الأم، الأبناء، الأصهار شيء مذهل. حتى إذا نجحت عائلة من العائلات في الوصول لمنطقة المواصي ولجأت لخيمة صغيرة فإنهم يقتلون كل أفراد العائلة. حتى بريطانيا لم تقدر على فعل هذا، حتى في ثورة 36، ولا الأمريكان في أفغانستان. لا أقول إنهم لم يرتكبوا جرائم حرب، لكن أقول إن هذه الدولة لديها وضع أفضل من الولايات المتحدة نفسها لأن هناك سيطرة حتى سيطرة شخصية على بعض القيادات.
كيف ترى المقارنة بين الفلسطينيين والسكان الأصليين لأمريكا الشمالية؟
هناك تشابه كبير. زُرتُ معازل الهنود الحُمر أثناء تواجدي في أمريكا. طبعاً في الحالتين هناك إنسان أبيض يمارس الاستيطان الإحلالي بهدف التخلص من المجتمع القائم. كانت التقديرات في عام 1492 وقت وصول كريستوفر كولومبس تصل إلى 13 مليوناً من السكان الأصليين، واليوم بعد أكثر من 500 سنة، أصبح العدد مليونين وأكثر. هذا يبين حجم القضاء على هذا المجتمع. ومع ذلك توجد فروق كبيرة بيننا وبينهم. أولاً نحن جزء من عالم عربي يعني لحسن الحظ لدينا عُمق. أيضاً العالم اختلف. الإبادة الجماعية ضد الهنود الحُمر تمت بالأساس من خلال الحرب البيولوجية بمعنى أنهم كسكان لم تكن لديهم مناعة ضد الأمراض الوافدة من أوروبا خصوصاً الأمراض الجنسية التي كانت لديهم حساسية تجاهها. وهنا أحب أشير لأعمال الكاتب السوري الرائع منير عكش الذي كتب عدة كتب ولم يكتفِ بالدراسات في هذا الموضوع. نقطة أخرى هي درجة تطور الإنسان الفلسطيني، وذلك مع احترامي للسكان الأصليين الذين اكتشفت أنهم لم يكونوا رعاة أغنام فقط بل بعضهم لديهم مدن جميلة ومتقدمة.
نحن اليوم نعيش عصر مختلف. هناك وسائل إعلام ووسائل تواصل اجتماعي. يمكنك نقل الصورة والخبر. هذا لم يُتح للمساكين السكان الأصليين في أمريكا الشمالية الذين كانوا متفرقين وكل مجموعة صغيرة تُسمي نفسها “نيشن” (شعب) وكذا. في التجربة الأمريكية، هناك شيئ ممكن نعتبره “إيجابي” مقارنة بالتجربة الإسرائيلية وهي أنهم أعطوهم أرض وفي بعض الأحيان يمنحوهم امتيازات مثل فتح كازينوهات القمار. أما المشكلة مع اسرائيل فهي أن ما اتُفق عليه يتم قضمه، ولا يوجد قاع للتنازلات أو قاع للظلم.
الحديث عن الإعلام الآن وإمكانية نقل الخبر لم يتوفر في حالة الإبادة في البوسنة والهرسك مثلا وربما لهذا وقع مؤرخون عرب في فخ العاطفة والخطاب التعبوي عند توثيق ما يحدث هناك. إلى أي مدى اختلف هذا في غزة؟ وهل نشهد انهيارا للرواية الاسرائيلية للعالم في مقابل تطور السردية الفلسطينية منذ النكبة وحتى اليوم؟
انظري للمعلومات التي تصدرها وزارة الصحة الفلسطينية وهي معلومات دقيقة جدا. أول أمس كان هناك إحصائيات عن عدد القتلى، ونسبة الأطفال، ونسبة النساء، ونسبة الإعاقات، وحتى عدد العائلات التي ابيضّت تماماً من السجل المدني، والعائلات التي ظل منها فرد واحد، وتفاصيل كثيرة. فنحن أمام شيء مختلف يتميز بالدقة. الآن السردية الاسرائيلية باعتقادي ولحسن الحظ هي أهم ضحية لما جرى في السابع من أكتوبر بمعنى أنها ضُربت، وسيتم ذلك بأثر رجعي ليس فقط فيما يخص السابع من أكتوبر بل سيمتد إلى ما وراءه وحتى 1948. ولكن أريد أن أنبه إلى ضرورة الانتباه. هذا الإنجاز الإعلامي فيما يخص السردية حصل فيه تفوق هائل للطرف الفلسطيني وينبغي الحفاظ عليه. هذا يجب أن يكون أحد أهدافنا الرئيسية.
أنا ممن يضع حساب لهؤلاء الناس لأنهم خطرين. عندهم هوليوود ورأس مال هائل لتوظيف شركات علاقات عامة، وشراء محطات تليفزيونية، يحاولون شراء تيك توك، ولذلك ليس علينا أن نقنع بما تم من إنجاز بل علينا أن ندرك أننا أمام عدو يحظى بدعم قوة عظمى مثل الولايات المتحدة. أنت تعرفين وكالات الأنباء العالمية الكبرى كلها وكالات أجنبية؛ أمريكية بريطانية فرنسية، ولذلك يجب أن نرى هذا الإنجاز ونبني عليه. هذا مهم جدا. السردية بالتأكيد نحن فزنا بها ولكن يجب المحافظة على الاستمرارية.
قبل يومين كان هناك تقرير للبي بي سي عن إحصائيات إسرائيلية تقول إن عدد اليهود المغادرين لـ”إسرائيل” يفوق ولأول مرة منذ عقود عدد الوافدين. ماذا غير الطوفان في القضية؟ وهل نشهد انهيار وتفكك اسرائيل وفق نبوءة الشيخ أحمد ياسين لعام ٢٠٢٧؟
الإسرائيليين دقيقين. كل عام في رأس السنة العبرية يعلنوا إحصائيات عن عدد السكان. هذا العام زاد سكان اسرائيل عن 10 مليون لأول مرة منهم 21.4% من العرب، والباقي ليس كله من اليهود بل هناك ديانات أخرى. هم فقط يفصلون العرب. نعم هناك هجرة مضادة، ولكن الأرقام كما قرأتها ليس بها تحول نوعي يعني لا يوجد رقم لفت انتباهي. لكن الإسرائيليين دائماً يعطوا معلومات خاطئة. على سبيل المثال عندما هاجمهم صدام في عام 1991 بالصواريخ، اعترفوا بمقتل شخص واحد مسن بعد إصابته بجلطة دماغية. لكن قبل عدة سنوات فقط كُشف النقاب أن الصواريخ قتلت 14 شخصاً ما يعني أن العدد الحقيقي 14 ضعف ما أعلنوه في البداية. فقد تكون أرقام مركز الإحصاء الإسرائيلي ملعوباً فيها للحفاظ على الروح المعنوية.
هناك مؤشرات أخرى ينبغي النظر لها غير مؤشر الهجرة كمؤشر الاقتصاد وتباطؤ النمو فيه. أيضاً جنود الاحتياط الذين خدموا لفترات طويلة، والضربات التي تعرضت لها اسرائيل من إيران في حرب الإثنى عشر يوماً كانت مذهلة. بالطبع ليس كالدمار الذي لحق بإيران لكنها ضربات أحدثت صدمة. حتى الآن لا أستطيع القول أن نبوءة الشيخ أحمد ياسين -الله يرحمه- قابلة للتحقق بغضون سنة 2027.
أنت درستَ في الخارج ومع ذلك كانت وصية الوالد المناضل السياسي عبد الجواد صالح قبل رحيله الشهر الماضي -رحمة الله عليه- لبني شعبه ألا يخرجوا من هذا الوطن. ألهذا السبب لم تغادر حتى والحصار يضيق على الضفة الغربية حيث تقيم بل حيث تجري إبادة بطيئة كما أسميتها؟
والدي طبعاً شخص محب لوطنه متمسك بأرضه. لما خاض انتخابات المجلس التشريعي سنة 96 وحصل على أعلى نسبة أصوات في الضفة الغربية مثله مثل حيدر عبد الشافي في غزة، اخترنا الشعار: ليس لنا غير هذا الوطن. أحد مآثر ما حصل في السنتين الماضيتين أنها دمرت السردية الإسرائيلية وأظهرت كذب ادعاء الاحتلال الليبرالي لإسرائيل. ظهر أيضاً مدى حب الفلسطيني لأرضه ووطنه. أنا باعتقادي أنه لا يوجد شعب في التاريخ قاتل من أجل أرضه وقاوم بهذا الشكل كما الشعب الفلسطيني ولا حتى في ستالينجراد. الناس فهموا درس النكبة في 1948. هل ستذهب للعيش في مخيم بحمام عام لكل 80 عائلة وتأكل قرف هذا النظام العربي أو ذاك؟ نحن سنموت هنا. شعارنا ليس لنا غير هذا الوطن.
ما المشاريع التي تعمل عليها حاليا بعد تقاعدك هذا العام عن العمل كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة بيرزيت؟
قبل شهر أنهيت كتاب هو سيرة عن الوالد أعدتُ فيها بناء سيرة عن شخص كان قد بلغ 91 عاماً وبدأ يفقد ذاكرته. اطلع هو على بعض الفصول وكان يريدها سيرة بالشكل التقليدي، لكني عملتُ عليها كسيرة تتكلم عن الحركة الوطنية الفلسطينية وبالسنوات حينما كان يشغل منصب عمدة مدينة البيرة قبل أن يُبعده الإسرائيليون. أردتُها بهذا الشكل كمدخل لفهم البلد فنحن عندما نقرأ ثلاثية نجيب محفوظ نفهم مصر على مدار الأجيال. ويصدر الكتاب قريباً من تركيا.
ومنذ أن أنهيتها أعمل على كتاب ثانٍ عن نزع الأسطورة عن معركة الكرامة وهو ليس عملاً عن الماضي بل عن المستقبل. كيف يقع حدثٌ ما ونفهمه بطريقة تؤدي إلى كوارث لأن فهمنا مبني على معلومات خاطئة. اعتمدت على مصادر أولية وأخرى ثانوية، لكن الأهم هو شهادات أشخاص شاركوا أو عاصروا المعركة وهي شهادات سجلتها قبل حوالي 40 سنة أثناء تحضيري لرسالة الدكتوراه فالمادة عندي ولستُ بحاجة إلى مقابلات أو غيره. أحتاج فقط إلى تفريغها.