في قاعة قمة كونكورديا التي انعقدت على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بدا المشهد أشبه بلقطة خارج السياق: الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي عرف الزنازين الأمريكية عن قرب في العراق قبل عقدين، وكان يومًا ما مطاردًا على قوائمها السوداء، يجلس على طاولة حوار واحدة إلى جانب الجنرال الأمريكي السابق ديفيد بتريوس الذي كان قائدًا للقوات الأمريكية في العراق، ومسؤولًا عن تلك السجون، قبل أن يتسلم قيادة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، التي أعلنت تحت إدارته ذات يوم مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يأتي برأس أبو محمد الجولاني (اسم الشرع السابق).
في أهم منتدى عالمي، وفي موسم السياسة العالمية، بدا المشهد للوهلة الأولى دبلوماسيًا عابرًا: ابتسامات متبادلة وعدسات تلتقط صورًا لخصمي الأمس في ساحات الحروب، في مشهد يطرح أسئلة عن دلالاته ورمزيته. لكن ما خلف الصور الرسمية يروي تاريخًا طويلًا من الاستراتيجيات العسكرية المثيرة للجدل والمفارقات الكبرى التي تتجاوز ثقل أي ابتسامة. فالرجلان لم يجتمعا على أرضية واحدة في الماضي، أحدهما خبر قسوة السجون والتصنيفات السياسية، والآخر صنع شخصيته من ركام الحروب، وصاغ خططًا عسكرية غيّرت وجه المنطقة بالدمار والتهجير خلال العقدين الأخيرين.
اللقاء مع الشرع بكل ما فيه من تفاصيل وأبعاد سياسية وتاريخية بدا أكثر من جلسة بروتوكولية عابرة. إنه تذكير بإرث جنرال متقاعد، امتد حضوره من شوارع بغداد إلى جبال أفغانستان، ومن مكاتب “سي آي إيه” إلى دوائر النقاش حول سوريا وغزة. فمن يكون هذا الرجل؟ وكيف تحوّل من قائد عسكري إلى رمز لوصفة واحدة تُعاد وتُفرض على شعوب المنطقة؟ وهل ما زالت وصفته هذه قادرة على صياغة الغد، أم أن ما يحمله إلى الطاولة ليس سوى ظل الماضي الثقيل؟
سيرة جنرال صنعت سمعته حروب الشرق الأوسط
لا يمكن فهم بتريوس إلا من خلال سيرته العسكرية الطويلة، تلك التي جعلت منه أحد أبرز وجوه البنتاغون في العقدين الأخيرين.
وُلد في ولاية نيويورك عام 1952، لوالدين من أصول هولندية، وبدأ مسيرته العسكرية مبكرًا بالتحاقه بالأكاديمية العسكرية، وتخرج فيها عام 1974، وواصل تعليمه العسكري حتى نال شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة برنستون.
تدرّج داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية حتى وصل إلى رتبة جنرال رباعي النجوم، لكن صعوده الحقيقي لم يبدأ إلا مع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، حين دخلت أمريكا في سلسلة حروب مفتوحة من أفغانستان إلى العراق.
بخلاف كثير من الجنرالات الذين خدموا في حقبة ما بعد 11 سبتمبر، امتلك بتريوس قدرة خاصة على تسويق نفسه إعلاميًا وسياسيًا، ولم يكن ضابطًا صامتًا، بل رجل يعرف كيف يروي قصته للصحافة والكونغرس.

بعض الصحف لم تتردد في وصفه بأنه “أكثر الجنرالات انخراطًا في السياسة منذ دوغلاس ماك آرثر”، الجنرال الذي كان يومًا مرشحًا جمهوريًا محتملاً في انتخابات 1952 التي فاز بها أيزنهاور، فيما ذهبت مجلة “نيوزويك” الأمريكية أبعد حين منحته غلافها في منتصف 2004، ممهورًا بسؤال مباشر ومثير: “هل يستطيع هذا الرجل إنقاذ العراق؟”.
صنع بتريوس لنفسه صورة الجنرال “المفكر” الذي لا يكتفي بالبندقية بل يطرح “نظرية”، حتى لُقّب بـ”جنرال المثقفين” لاهتمامه بالتنظير العسكري إلى جانب خبرته الميدانية، وقدّم نفسه كأحد أبرز منظّري ما عُرف بـ”الحرب المضادة للتمرد” من العراق إلى أفغانستان، وهي مقاربة تجمع بين العمل العسكري وأدوات القوة الناعمة، لكنها في الممارسة الميدانية انزلقت إلى مشروع قمع واسع تحت غطاء “إعادة الاستقرار”.
في ساحات الحروب، بدا الجنرال وكأنه يحمل وصفة جاهزة: تعزيز الوجود العسكري وسط السكان، وتشديد السيطرة والاحتواء بالقوة، و”تطهير” مناطق ثم إعادة بنائها تحت إشراف أمني. غير أن النتيجة على الأرض كانت عكس الوعود: المزيد من الدمار الذي طال مدنًا بأكملها، وتهجير مئات الآلاف، وتعميق الانقسامات التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم.
ومع ذلك، واصل بتريوس الترويج لعقيدته العسكرية باعتبارها “حلاً استراتيجيًا” حتى بعد تقاعده، متجاهلاً أن ما صُوِّر كإنجاز في عيون قادته لم يكن في نظر ضحايا الحروب التي شارك فيها سوى موت وخراب، وأن نجاحه العسكري المزعوم لم يترك وراءه إلا هزيمة إنسانية وأخلاقية عميقة، تمتد آثارها إلى ما بعد المعارك بسنوات طويلة.
العراق.. مختبر عسكري لتجارب بتريوس
بدأت قصة ظهور بتريوس مع العراق مخطِّطًا ثم قائدًا ميدانيًا، قبل أن يتولى قيادة الجيش الأمريكي هناك. ففي عام 2003، قاد فرقة اللواء 101 المحمولة جوًا التي دخلت بغداد بأوامر من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بذريعة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل تشكّل تهديدًا للسلام الدولي.
سقط نظام صدام حسين سريعًا، وأُعلن انتهاء العمليات العسكرية مع بسط الجيش الأمريكي سلطته في البلاد، لكن ما تلا ذلك كان انهيارًا كاملًا للدولة، وفوضى أمنية، وتصاعدًا غير مسبوق للعنف الطائفي، وصعود تنظيمات متطرفة فجّرت البلاد بموجات من الانتحاريين والتفجيرات.
وسط هذا المشهد، صعد نجم بتريوس مجددًا في يناير/كانون الثاني 2007 عندما عُيّن قائدًا أعلى للقوات الأمريكية والتحالف في العراق، مقدّمًا نفسه باعتباره “الرجل الذي يملك الحل” لإنقاذ واشنطن من المستنقع العراقي.
ذلك الحل عُرف باسم “برنامج التصعيد”، تلك الاستراتيجية التي روّج لها لتثبيت الأمن وخفض مستوى العنف الطائفي عبر إقناع إدارة بوش الابن بزيادة عدد القوات الأمريكية في العراق بنحو 30 ألف جندي، مع تركيز خاص على بغداد ومحافظة الأنبار.
أثارت هذه الاستراتيجية التي لازمت اسمه جدلاً واسعًا، ونُسب إليها لاحقًا تخفيف مستويات العنف في أحياء عراقية محددة، لكن على الأرض حمل تطبيقها كلفة بشرية ومادية باهظة، ليس أقلها سقوط آلاف الضحايا المدنيين، وتحويل أحياء كاملة إلى أنقاض، وموجات تهجير داخلية. أما الحياة اليومية، فاختنقت بالحواجز الأمنية وحظر التجول والمداهمات المتكررة، ما ولّد شعورًا عميقًا بالسخط الشعبي تجاه الاحتلال وكل ما مثّله.
ويُحمَّل بتريوس مسؤولية تبنّي استراتيجية أخرى محفوفة بالمخاطر، تمثلت في استمالة بعض العشائر السنية لمقاتلة “القاعدة” عبر إنشاء وحدات عُرفت لاحقًا بـ”الصحوات”، وضمّت مقاتلين محليين معظمهم من العرب السنَّة، مع الدفع في الوقت نفسه لممارسة ضغط عسكري على “جيش المهدي” التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر، والذي وصفته واشنطن نفسها بأنه “أكبر تهديد منفرد للسلام في العراق”.
هذه المقاربة التي رُوِّج لها باعتبارها “نجاحًا عسكريًا”، لم تكن سوى هدنة قصيرة على أنقاض بشرية هائلة، ووصفة لخلخلة التوازن الطائفي الهش، وفي الوقت نفسه عمّقت الانقسام الداخلي، وعززت منطق “إدارة الحرب عبر الوكلاء”، إذ جعلت من بعض العشائر أدوات مؤقتة في يد الجيش الأمريكي، فيما هدد الضغط على “جيش المهدي” بإشعال نزاع أهلي واسع، ما كشف تناقضًا بنيويًا في نهج بتريوس تمثل في البحث عن انتصارات تكتيكية قصيرة الأمد ولو على حساب استقرار العراق ومستقبله السياسي.
هذا التناقض كان فاضحًا، لكنه لم يمنع صعود أسطورة بتريوس. فقد لعب الإعلام الأمريكي دورًا أساسيًا في تضخيم صورته، فقدَّمه للرأي العام باعتباره الجنرال الذي أنقذ العراق من الانهيار التام، وفي الكونغرس، كان خطابه عن “خفض العنف” يُستقبل بالتصفيق، فيما كانت شاشات التلفزة الأمريكية تعرض صورًا من شوارع بغداد المحروقة.

بعد قيادته القوات الأمريكية في العراق، سلّم بتريوس مهامه في سبتمبر/أيلول 2008 إلى نائبه ريموند أوديرنو، أحد أبرز مؤيدي خطة زيادة القوات، لكن مهمته لم تنتهِ، إذ تولى بعدها قيادة القيادة المركزية الأمريكية، المسؤولة عن منطقة تمتد من آسيا الوسطى إلى القرن الإفريقي، خلفًا للأميرال وليام فالون الذي استقال بعد اعتباره معارضًا لسياسة الرئيس بوش بشأن إيران.
وتزامنًا مع توجه الجيش الأمريكي لتخفيض قواته في العراق مطلع العام التالي، ونقل جزء منها إلى أفغانستان، ترك بتريوس خلفه إرثًا معقدًا في العراق، من ملف “الصحوات” وإشكالية دمجها في قوات الأمن، والعنف المستمر الذي لم يهدأ رغم إعلان نجاح “التصعيد”، إلى ملف “الجماعات الخاصة” المتهمة بتلقي دعم مباشر من إيران، إلى جانب الانقسامات الحادة بين السياسيين العراقيين.
لاحقًا، أقرَّ بتريوس بأن بلاده ارتكبت أخطاء جسيمة خلال حربها في العراق، معظمها كانت عسكرية بالأساس، وفي مقال نشرته مجلة “بوليتيكو“، اعترف صراحةً بأن “مصداقية أمريكا عالميًا، وثقة الأمريكيين بمؤسساتهم داخليًا، تعرضت لضربة قاسية بسبب الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل، وبفعل الأفعال المروعة التي ارتُكبت في سجن أبو غريب”. ومع ذلك، ما زال يرى أن واشنطن يجب أن تحافظ على وجودها العسكري هناك، وكأن تكرار الحضور سيعالج كلفة السياسات التي فجّرت الأزمات من الأساس.
وجاء هذا التقييم في وقت كانت فيه الحرب قد كلّفت واشنطن أكثر من 8 آلاف قتيل من جنودها، فيما تشير تقديرات مستقلة إلى سقوط ما يزيد على 300 ألف مدني عراقي، إلى جانب نزوح وتهجير ما يقارب 5 ملايين شخص، وهو الثمن الإنساني والسياسي الذي سيظل يلاحقها لعقود.
أفغانستان.. الوصفة القديمة ذاتها
لم يكن العراق نهاية المطاف، بل بداية سردية كررها الجنرال في كل ساحة صراع مرَّ بها. فعندما انتقل إلى أفغانستان لتولي قيادة القوات الأمريكية هناك، بدا أنه يحمل معه “حقيبة أدوات” لم يتردد في استخدامها مجددًا، ليتضح أنه لا يملك سوى النهج نفسه بعدما اُعتبر نجاحًا نسبيًا لاستراتيجية “التصعيد” التي خلَّفت إرثًا من الدمار والانقسام ما زالت بغداد ومدن العراق تعانيه حتى اليوم.
من ساحات بغداد إلى تلال كابول، لم تتغير الأدوات ولا المقاربة، بل تغيّر فقط مسرح العمليات، وكان الهدف المعلن “محاربة الإرهاب” والرد على هجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 عبر إضعاف حركة طالبان وتفكيكها، لكن كما حدث في العراق، بدا واضحًا أن المكاسب الأمنية المؤقتة لا تُعوّض فقدان الحل السياسي.

أشرف بتريوس على إرسال عشرات الآلاف من الجنود في محاولة لفرض منطق “مكافحة تمرد طالبان” الذي استمر لسنوات، ورغم إعلانه تحقيق بعض التقدم، كانت النتيجة انتقالًا مؤقتًا في مؤشرات العنف، لكنه لم يُترجم إلى حل سياسي شامل. وبسرعة نسبية، عادت الفوضى أو تحولت لصراعات جديدة عند تقليص الوجود الخارجي أو عند استنزاف الدعم السياسي.
كما أخفق بتريوس في استنساخ تجربة “الصحوة القبلية” التي لعبت دورًا مؤقتًا في خفض العنف بالعراق، ومع توليه إدارة وكالة الاستخبارات المركزية اضطر لترك الساحة الأفغانية والعودة إلى واشنطن، ليُعلن لاحقًا انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وهو القرار الذي فجَّر موجة واسعة من الانتقادات، باعتباره تتويجًا لفشل استراتيجي امتد لعقدين من الحرب دون تحقيق أهداف واضحة.
سوريا.. أدوات مكررة في فضاءات متغيرة
من موقعه على رأس وكالة الاستخبارات المركزية، نقل بتريوس وصفاته القديمة إلى الملف السوري، حيث بدا حضوره أوضح في صياغة مقاربات واشنطن السياسية والأمنية أكثر من قيادته الميدانية المباشرة، لكن النتيجة كانت مضاعفة خطورة الأزمة مع احتدام الصراع الداخلي وتشابك التدخلات الإقليمية.
وتجلَّى هذا الحضور في استخدام خبرات محاربة التمرّد والرهان قصير المدى على قوى محلية مسلّحة مهما كانت طبيعتها، و”بناء حواضن” ضد خصوم مشتركين مقابل وعود باستقرار طويل الأمد لم يتحقق قط.
وظهر نهجه بشكل أكثر إشكالية حين دفع بتريوس باتجاه برنامج “خشب الجميز”، المشروع السري الذي أطلقه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وتولت “سي آي إيه” تنفيذه بالتعاون مع أجهزة إقليمية، وهدف إلى تسليح وتدريب فصائل سورية معارضة في محاولة لإسقاط الأسد، لكنه لم يخلُ من تكريس منطق الحرب بالوكالة وتعقيد الصراع بدل حله.
وفي عام 2015، ذهب بتريوس حد ما يمكن وصفه بـ”التحالف مع الشيطان”، فقد روَّج حينها لخطة استقطاب مقاتلين وصفهم بـ”المرتزقة” داخل صفوف جبهة النصرة، المصنّفة كـ”منظمة إرهابية” منذ عام 2012، وإعادة تدويرهم كـ”معارضة معتدلة” لمواجهة النصرة وداعش والأسد معًا.
الاقتراح افترض أن كثيرين انضموا للجبهة لدوافع انتهازية لا أيديولوجية، ورهن نجاحه بقدرة الاستخبارات والقيادة العسكرية على “انتقاء” من يمكن دمجه، لكن الجنرال لم يقدم آلية عملية للفصل بين العناصر الانتهازية والنواة الصلبة وقادة “جبهة النصرة”، ما جعل اقتراحه مقامرة أمنية تعبِّر عن عزوف عن الحل السياسي العميق، وعن استعداد للمقامرة بسلام المدنيين من أجل مكاسب ميدانية آنية.
كما في العراق وأفغانستان، تجاهل بتريوس الآثار الاجتماعية والسياسية الكارثية لمثل هذه السياسات، التي هددت بترسيخ منطق “العنف بالوكالة”، وتحويل سوريا إلى ساحة تجارب مفتوحة لمشاريع مؤقتة تزيد الحرب تعقيدًا، ولا تستند إلى رؤية سياسية أو إنسانية مستدامة.
وعلى مدار سنوات الحرب السورية، ألحَّ بتريوس على فكرة “الزواج العرفي الأمريكي غير المعلن مع الجماعات المسلحة” من منطلق أن الغايات تبيح المحظورات، لكن نتائج ذلك، كما ظهرت لاحقًا، لم تؤدِّ إلى إضعاف النظام أو تقويض خصومه فقط، بل أسهمت في تعميق المأساة الإنسانية وترسيخ الانقسام، لتبقى سوريا نموذجًا صارخًا على فشل الوصفات العسكرية التي لا ترى في البشر سوى أدوات عابرة في لعبة النفوذ.
الخروج من الباب الخلفي
عندما تولى بتريوس إدارة “سي آي إيه” في سبتمبر/أيلول 2011، لم يتوقف عن تقديم نفسه باعتباره المرجع في “فن إدارة الحروب”، وكأن الشرق الأوسط لا يحتاج سوى إلى إعادة تدوير التجربة الأمريكية مهما كانت كلفتها، غير أن مسيرته في هذا المنصب لم تطل؛ فمع بداية الولاية الثانية للرئيس أوباما، برز اسمه بقوة في أروقة البيت الأبيض كمرشح محتمل لوزارة الدفاع، لكن التكهنات سرعان ما تبخرت مع تفجر فضيحته الغرامية مع كاتبة سيرته الذاتية باولا برودويل، وهي قضية أثارت جدلاً واسعًا، نظرًا لما انطوت عليه من مخاطر أمنية على مؤسسة الاستخبارات الأمريكية.

لم تكن الفضيحة التي أسقطت أشهر جنرال في واشنطن مجرد قصة شخصية ذات طابع جنسي كما جرى تسويقها، بل بدت في جوهرها أزمة سياسية أمنية عكست عمق الصراع بين الجمهوريين والديمقراطيين. فقد تحولت القضية إلى كرة ثلج جرّت معها فضائح أخرى طالت جنرالات بارزين، أبرزهم قائد القوات الدولية في أفغانستان، جون آلن، الذي وُجهت له شبهات بعلاقة مشبوهة مع امرأة مقربة من عائلة بتريوس، ما دفع البيت الأبيض إلى تجميد تعيينه على رأس قوات حلف الناتو.
بهذا المعنى، لم يكن سقوط بتريوس حدثًا فرديًا لجنرال صعد من ساحات القتال إلى قمة المؤسسة الأمنية، بل انكشافًا لمنظومة كاملة حولت الجنرالات إلى أبطال تراجيديين يسقطون تباعًا بعد المجد الميداني والإعلامي، لتكشف أن جنرال الحربين والمفضل لدى رئيسين متعاقبين وحزبين، لم يكن محصنًا من السقوط، بل تحوّل إلى رمزٍ لانكسار صورة الجنرال الأمريكي الذي صنعته الحروب والإعلام ثم أطاحت به الصراعات الداخلية.
نصائح مستشار “إسرائيل” لتدمير غزة
بعد خروجه من الخدمة الرسمية، وإغلاق سجل إنجازاته على مستوى أمريكا، ما زال الجنرال الذي لُقّب لدى البعض بـ”سيد المعلومات والأسرار” يُسوّق نفسه “خبيرًا في إدارة الحروب”، ويستمر في تقديم الاستشارات الأمنية والسياسية، والمشاركة في نقاشات رفيعة داخل أروقة صنع القرار. لكن اللافت أنه ظل متمسكًا بالنهج العسكري الذي طبعه في العراق وأفغانستان، وكأن التجارب القاسية لم تترك لديه سوى قناعة واحدة: أن الحلول تُصاغ في الميدان لا في السياسة.
وبعد عقدين من الجدل حول كُلفة استراتيجيته من دمار وتهجير امتدّ من الفلوجة إلى قندهار، يُعيد بتريوس اليوم تقديم تلك الوصفة كحلّ مُتاح لـ”إسرائيل” في حربها على غزة، حتى وهو يعترف – في شهاداته أمام الكونغرس وفي مقالاته اللاحقة – بأن الخسائر المدنية ستكون نتيجة حتمية، لكنه يعتبرها جزءًا من معادلة الحرب، كأنه لم يتعلم شيئًا من متجاهلاً دروس التاريخ وتبعاتها الإنسانية الكارثية.
في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاها من حرب إسرائيلية مدمرة على قطاع غزة، ظهر بتريوس في مقال مشترك بمجلة “فورين أفيرز” وصف فيه هجوم “إسرائيل” بأنه “رد مفهوم على هجمات إرهابية بشعة”، لكنه حذّر في الوقت نفسه من تكرار “إسرائيل” الأخطاء الأمريكية في العراق وأفغانستان، خصوصًا الاعتماد المفرط على القوة العسكرية دون استراتيجية سياسية مستدامة.