في دمشق، يمكن أن تعيش مشهدين متناقضين في يومٍ واحد دون أن تغادر الحي نفسه. فبينما تُطفأ الأنوار باكرًا في الأحياء الفقيرة بسبب انقطاع الكهرباء وغياب الوقود، تزدحم شوارع المالكي وأبو رمانة والمزة بمقاهٍ فاخرة تُشعل ليل العاصمة بموسيقى غربية وضحكات مرتاديها. هناك، تُقدَّم أطباق تتجاوز كلفتها راتب موظف حكومي لشهر كامل، وعلى الرصيف المقابل يقف طفل يمدّ يده لعلّه يحصل على ما يسدّ رمقه.
تلك المفارقة ليست مجرد مشهدٍ عابر في مدينة مثقلة بالأزمات، بل تعبيرٌ صريح عن واقع اجتماعي جديد تشكّل على أنقاض الحرب، كأن المدينة تعيش زمنين مختلفين في آنٍ واحد: زمنًا يغرق في العوز، وآخر يحاول محاكاة مظاهر الحياة الحديثة.
في هذه المسافة الضيقة بين الحاجة والتظاهر بالازدهار، نشأت ثقافة اجتماعية هجينة جعلت من المقاهي والمطاعم الفاخرة مساحات بديلة للترفيه والعمل، ومسرحًا يعكس تحولات القيم والعلاقات داخل مجتمع يحاول التكيّف مع واقع قاسٍ بأدوات الرفاهية المؤقتة.
الجدير بالذكر أن التقرير الأخير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أظهر أن تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون في فقر، فيما يعاني واحد من كل أربعة من البطالة. ووفق التقرير ذاته، يعتمد ثلاثة من كل أربعة أشخاص على المساعدات الإنسانية لتأمين احتياجاتهم الأساسية، بالإضافة إلى أزمات الصحة والتعليم وانعدام الأمن الغذائي، والمياه والطاقة والإسكان. وتشير الأرقام إلى أن معدل الفقر تضاعف ثلاث مرات تقريبًا، من 33% قبل اندلاع الثورة إلى نحو 90% اليوم.
مطاعم دمشق: رفاهية في الداخل وفقر خارجي
في أحد أحياء دمشق الراقية، يلمع واجه مطعم فاخر يضاهي في تصميمه أرقى مطاعم دبي، ثريات ضخمة تتدلّى من السقف، أضواء خافتة، وموسيقى غربية، وعلى الطاولات تُقدَّم وجبات لا يقل سعر الواحدة منها عن راتب موظف حكومي لشهر كامل.
يحفل الداخل بالرفاهية والخدمة الفاخرة، بينما يظهر على الرصيف أطفال ونساء يتسولون، في مشهد يختزل التباين الاجتماعي الحاد الذي تعيشه المدينة. هذا التناقض بين البذخ والفقر ليس مجرد صورة يومية، بل ظاهرة اجتماعية معقدة تستحق الدراسة الأكاديمية لفهم أبعادها الطبقية والقيمية، وتأثيراتها على النسيج المجتمعي السوري.
فقد شهدت المدن السورية خلال السنوات الأخيرة انتشارًا واسعًا للمطاعم والمقاهي الفاخرة والتي تميزت بديكورات أوروبية، قوائم باللغتين العربية والإنجليزية، وأسعار تتجاوز قدرة الغالبية العظمى من السكان. هذه الأماكن لم تعد مجرد فضاءات لتناول الطعام، بل تحمل معها “أسلوب حياة” جديد، يعكس المكانة الاجتماعية والقدرة المالية لروادها.
خلال سنوات الحرب، أصبحت المطاعم والمقاهي الفاخرة وجهة رئيسية لشريحة واسعة من رجال الأعمال وتجار الحرب الذين راكموا ثرواتهم خلال هذه الفترة، إلى جانب أثرياء جدد صعدوا من خلال شبكات التجارة والوساطة، فضلًا عن موظفين في منظمات دولية ومحلية يتقاضون رواتب تفوق متوسط الدخل المحلي بكثير. ومع الوقت، لم تعد هذه الأماكن حكرًا على الفئات المقتدرة اقتصاديًا، إذ بدأت الطبقة المتوسطة تدريجيًا في ارتيادها والاعتياد على أجوائها، مما أسهم في نشوء ثقافة اجتماعية جديدة جعلت من هذه المطاعم والمقاهي فضاءات للتعبير عن المكانة الاقتصادية، ومشهدًا يعكس تنوّع أنماط العيش وتباين أساليب الحياة في المجتمع السوري.
يقول أحمد، وهو شاب يعمل في أحد مقاهي أوتستراد المزة: “يأتي أغلب الشبان والشابات من الطبقة المتوسطة للاستمتاع بالنرجيلة والقهوة والجلوس لفترات طويلة مستفيدين من العروض، في المقابل تمثل الحجوزات الكبيرة للمجموعات مساحة يختص بها الزبائن من الطبقة الغنية والمقتدرة لتناول الطعام والشراب، حيث تتراوح تكلفة الوجبة بين 85 و150 ألف ليرة، أما المشروبات فتبدأ من 50 حتى 100 ألف ليرة.”
ويضيف أحمد أن المقهى الذي يعمل فيه شهد خلال المرحلة الأولى بعد التحرير ركودًا واضحًا، إذ انخفض عدد الزبائن بشكل ملحوظ نتيجة تغيرات الواقع الجديد وتراجع النشاط الاقتصادي العام. ومع ذلك، سرعان ما بدأت الحركة تعود تدريجيًا بفضل قدوم المغتربين في مواسم لاحقة، إلى جانب حضور موظفين في منظمات دولية ومحلية وناشطين يعملون في المجال الإنساني، والذين أصبحوا من الزبائن الدائمين للمكان.
ويشير أحمد إلى أن وجود هذه الفئات ساعد في إنعاش المقهى من جديد، إذ بات يشهد حركة نشطة في الأمسيات، تجمع بين طبقات مختلفة، وإن كانت الغلبة فيها للفئات المقتدرة القادرة على تحمل تكاليف الجلسات الطويلة والمشروبات مرتفعة الثمن، ما جعل المكان يحافظ على طابعه كرمز للرفاهية في مدينة تعاني من أزمات معيشية خانقة.
رموز للفوارق أم أنماط حياة جديدة؟
هل يمكن النظر إلى المطاعم الفاخرة في دمشق بوصفها مجرد رموز للفوارق الطبقية، أم أنها باتت تمثل مظهرًا من مظاهر نمط الحياة الاجتماعي الجديد؟
في الواقع، تكشف معاينة المشهد عن صورة أكثر تعقيدًا؛ إذ لا يقتصر رواد هذه الأماكن على طبقة الأثرياء وحدهم، فالمطاعم المصمَّمة بعناية لافتة — بإضاءات مدروسة، وديكورات فاخرة، وأثاث حديث، وشاشات ضخمة تبث الموسيقى والمباريات — لا تستقطب الميسورين فحسب، بل يرتادها أيضًا أفراد من الطبقة المتوسطة والعاملين في قطاعات مختلفة، ممن يبحثون عن مساحة صغيرة للترفيه والهروب من ضغوط الحياة اليومية في مدينة تكاد تفتقر إلى المرافق الترفيهية العامة.
ففي ظل انعدام الحدائق والمكتبات والمراكز الثقافية، أصبحت المطاعم الفاخرة والمقاهي الحديثة بمثابة المتنفس الوحيد للسكان، والفضاءات التي يجتمع فيها الناس لممارسة حياة اجتماعية مفقودة في أماكن أخرى، لتتحول مع الوقت إلى بديل عن المرافق العامة، وإلى ما يشبه “الثقافة الاجتماعية الجديدة” التي نشأت بفعل الحاجة أكثر من كونها مظهرًا للترف.
كما اكتسبت هذه الأماكن بُعدًا استعراضيًا متزايدًا بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واتساع الاطلاع على أنماط الحياة في الخارج، حيث يسعى كثيرون — ولا سيما من فئة الشباب — إلى الظهور بمظهر يواكب العصر ويعكس صورة الحداثة والانفتاح، في محاولة لإبراز قدرتهم على مواكبة “أسلوب الحياة العصري” حتى وإن كان ذلك بصورة رمزية أو شكلية.
مايا شابة في أواخر العشرينيات، تعمل في مركز تجميل بحي أبو رمانة براتب شهري يبلغ مليون وخمس مئة ألف ليرة سورية وتسكن في منطقة شعبية قريبة، توضح أن جزءًا من سبب ارتيادها للمقاهي والمطاعم يعود إلى تغيّر أنماط الحياة الاجتماعية: “لقد تغيّرت الحياة، وأصبحت أشعر بضرورة مجاراة صديقاتي بالدخول إلى المطاعم أو تناول شيء في هذه المقاهي، إذ يشعر المرء بأنه خارج العصر إذا لم يفعل ذلك.” وتضيف أنها تحاول توفير جزء بسيط من راتبها لتتمكن من ارتياد هذه الأماكن ولو مرة واحدة في الشهر، مشيرة إلى أنّ كونها غير مسؤولة عن إعالة عائلة يسهّل عليها ذلك.
ورغم ما تحمله هذه الأماكن من مظاهر البذخ والتقليد الحضري، فإنها تمثل في جانب منها محاولة للهروب من ضيق الواقع ومنح إحساسٍ مؤقتٍ بالحياة الطبيعية في مدينة أنهكها السباق اليومي لتأمين متطلبات العيش الأساسية، مما يجعل اختزال ظاهرة انتشار المطاعم والمقاهي الفاخرة في دمشق بوصفها مجرد انعكاسٍ للانقسام الطبقي أمرًا غير دقيق، إذ أنها تُعد أيضًا مرآةً لتناقضات المجتمع حيث يجتمع الترف مع الحاجة، ويأتي البذخ جنبًا إلى جنب مع رغبة بسيطة لدى الناس في استعادة لحظات من الحياة الطبيعية التي فقدوها بسبب الحرب والضغوط اليومية.
مقتضيات العمل وحدود التمثيل الاجتماعي
غالبًا ما يُثار النقاش حول لجوء هذه الفئة إلى عقد اجتماعاتها ولقاءاتها في المقاهي والمطاعم الفاخرة، وهو ما يُنظر إليه أحيانًا كابتعاد عن الواقع الشعبي الذي يُفترض أن تمثله.
إلا أن هذا التوصيف يحتاج إلى قراءة متوازنة، ففي سؤال نون بوست للأستاذة كندة الحواصلي، الباحثة السياسية ومديرة الوحدة المجتمعية في مركز الحوار، حول رأيها في هذه الظاهرة وارتباطها بطبيعة العمل الميداني، أوضحت أن المقاهي والكافيتريات في دمشق أصبحت خيارًا اضطراريًا لعقد اللقاءات بسبب محدودية المرافق العامة، مشيرة إلى أن هناك نوعين رئيسيين من الكافيتريات: النوع التقليدي الشعبي القليل العدد، والنوع العصري الجديد المستلهم من النمط الغربي، والذي يوفر غالبًا مساحات للقاءات والاجتماعات، ويفضل الناشطون هذه الأماكن، خصوصًا أولئك الذين لا يمتلكون مكاتب دائمة أو يعملون في منظمات قيد الترخيص، لتجنب صعوبة التنقل بين مواقع مختلفة، نظرًا لما توفره من مواقع مركزية يسهل الوصول إليها.
وتضيف أن المرافق الخدمية في دمشق ما تزال ضعيفة جدًا؛ فالمكاتب غالبًا ما تكون مركزة في أحياء معينة أو عبارة عن شقق تم تحويلها إلى مكاتب، ولا توجد مكتبات عامة كافية، كما أن الحدائق العامة تفتقر للخدمات الأساسية، لذلك يُضطر البعض إلى استخدام هذه المطاعم، لا سيما عند تنظيم مجموعات كبيرة، أو ورش عمل، أو تجهيزات للفعاليات، حيث توفر هذه الأماكن الكهرباء، التكييف، الإضاءة، والمشروبات، ما يجعلها أكثر ملاءمة من المرافق الأخرى.
وتابعت الأستاذة بالقول إن بعض المرافق الأساسية للمنظمات لم تكن قادرة على تشغيل معدات التكييف بشكل مستمر، ففي أحد الاجتماعات، تعرضنا لموقف حيث حاولنا تشغيل المكيفات والأجهزة الكهربائية في مكتب معتمد على الطاقة الشمسية، إلا أن الطاقة لم تكن كافية، مما يبرز الحاجة إلى الاعتماد على أماكن توفر الحد الأدنى من الخدمات لضمان نجاح الاجتماعات والفعاليات.
من جهة أخرى، ترى أ. كندة أن هذه الظاهرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الاجتماعي والاقتصادي الأوسع، إذ أنها تعكس من جهة محاولة للتأقلم مع واقع خدمات متدهورة، ومن جهة أخرى تأثرًا بثقافة جديدة نشأت خلال سنوات الحرب، جعلت من المقاهي أماكن للعمل والنقاش والتلاقي، بالإضافة للترف أو الترفيه.
تكشف ظاهرة انتشار المقاهي والمطاعم في دمشق عن الحاجة الملحة لإعادة التفكير في دور المساحات المجتمعية والخدمات العامة، وما يتطلبه معالجة هذا الواقع من نهج متكامل يعيد النظر في البنية الحضرية والخدماتية للمدينة، بدءًا بإعادة تأهيل الحدائق والمكتبات والمراكز الثقافية لتصبح أماكن جاذبة لمختلف فئات المجتمع، مرورًا بتوفير الخدمات الأساسية من كهرباء وإنترنت ومرافق صحية.
إضافة إلى العمل على تنظيم فعاليات ثقافية وتعليمية وترفيهية تلبي احتياجات السكان اليومية وتتيح لهم التلاقي الاجتماعي بعيدًا عن مظاهر البذخ. كما يشمل النهج تحسين المظهر العام للمدينة من خلال العناية بالتصميم الحضري والمساحات الخضراء، بما يعزز استخدام هذه الأماكن كبدائل مستدامة للقاء والتفاعل الاجتماعي. ويضاف إلى ذلك دعم الثقافة الاجتماعية الجديدة عبر تشجيع المشاركة المجتمعية وتبادل الأفكار في فضاءات عامة، بعيدًا عن الاستعراض المادي، بما يساهم في الحد من الفوارق الرمزية والاجتماعية. فنجاح هذه المبادرات لا يقتصر على تحسين جودة الحياة في المدينة، بل يمتد ليعزز الترابط الاجتماعي ويعيد نشر ثقافة التلاقي والمساحات المشتركة.