أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فجر الخميس 9 أكتوبر/تشرين الثاني 2025، أنّ “إسرائيل” وحركة المقاومة الفلسطينية “حماس” وافقتا خلال المفاوضات غير مباشرة التي احتضنتها مدينة شرم الشيخ المصرية، على المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، كخطوة لإنهاء الحرب في القطاع بعد عامين من الإجرام الإسرائيلي.
وعقب الإعلان الأمريكي توالت الإعلانات من حماس وحكومة بنيامين نتنياهو والوسيطين، مصر وقطر، ومعهما تركيا، والتي أكدت على أن كل بنود وآليات تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق تم التوافق عليها وبما يؤدّي لوقف القتال والإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين ودخول المساعدات.
وفي غزة، حيث صار صوت الطائرات جزءًا من روتين الحياة، في مدينة أرهقها الحصار والدمار، لم يكن خبرًا كهذا خبرًا عاديًا، إذ استيقظ الناس هذه المرة على نغمة مختلفة، وأجواء مغايرة نسبيًا، لحظة اختلطت فيها الدموع بالذهول، والأمل بالحذر، بعد عامين ثقيلين من القصف والنزوح والفقد.
مكتب رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي: وقف إطلاق النار في قطاع غزة سيدخل حيز التنفيذ بعد موافقة الحكومة عليه pic.twitter.com/xeRUTF2fnE
— نون بوست (@NoonPost) October 9, 2025
فجأةً، خيّم على المدينة صمت لم يألفوه؛ لا أزيز طائرات في السماء، ولا انفجارات تهزّ الجدران، ولا شريط أخبار ينعى شهداء الليل، ومن بين أنقاض البيوت المهدّمة ووجوه الأطفال المرهقة من الحروب، سرت همهمة خافتة تقول: “ربما… هذه المرة… يتوقف كل هذا”.
ومن المتوقع أن يتوجه ترامب، الحالم بالتتويج بجائزة نوبل للسلام هذا العام، إلى مصر في الأيام المقبلة، بعدما قال البيت الأبيض إنه يفكر في الذهاب إلى المنطقة، فيما دعاه نتنياهو لإلقاء كلمة أمام البرلمان الإسرائيلي، مُبديًا استعداده للقيام بذلك بحسب “أكسيوس”.
ومع الإعلان عن دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بدأ بصيص من الأمل يتسلل إلى قلوب أنهكها الخوف على مدار 733 يومًا، وسط تساؤلات يشوبها الحذر والترقب عما إذا كان هذا الأمل الوليد والهدوء الجديد سيصمدان أمام رياح السياسة العاتية وسوء النيات المُربكة، خاصة في ظل الغموض الذي يكتنف الاتفاق لاسيما في مراحله اللاحقة.
هذا ما نعرفه عن الاتفاق حتى الآن
يمثل اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار بين حماس و “إسرائيل” وثيقة تتسم بالعمومية الإلزامية، حيث يبدو أنها أقرب إلى خطوط عامة للمرحلة الأولى منها إلى تفصيل زمني وجدول أحداث محكم، حتى اللحظة، يبقى “المسكوت عنه” في بنوده أكبر بكثير مما هو معلن، ليؤكد أن الاتفاق هو إدارة للأزمة الراهنة قبل أن يكون حلاً شاملاً.
يضع الاتفاق، أولوية قصوى لمسألة الأسرى والمحتجزين، والتي يعتبرها الرئيس الأمريكي حجر الزاوية للانطلاق نحو المراحل اللاحقة، حيث ينص على تسليم 20 محتجزاً إسرائيلياً أحياء دفعة واحدة ضمن المرحلة الأولى، يليها الإفراج عن الجثامين تدريجياً بالتوازي مع مراحل الانسحاب الإسرائيلي.
وفي المقابل، يطلق الكيان المحتل سراح أكثر من ألفي أسير فلسطيني، بينهم 250 يقضون أحكاماً بالسجن مدى الحياة، و1700 اعتُقلوا خلال العامين الماضيين، ومن المتوقع أن تبدأ عملية التسليم هذه بعد 72 ساعة من بدء وقف إطلاق النار.
يشمل الاتفاق كذلك ترتيبات حذرة للانسحاب والإغاثة، تنطلق من مبدأ التدرج المرحلي، ووفقاً لتسريبات هيئة البث الإسرائيلية، بدأت بالفعل ثلاث فرق عسكرية إسرائيلية في الشمال عملية انسحاب منظمة استعداداً لإعادة التموضع وفق ما يُعرف بــ”الخط الأصفر” في خطة ترامب، هذا الانسحاب سيكون طولياً وتدريجياً يمتد من الشمال إلى الجنوب، مروراً بالمراكز السكانية الرئيسية.
– أعلنت الأطراف المعنية التوصل إلى اتفاق بين حمـ.ـاس و"إسرائيل" بعد مفاوضات غير مباشرة في شرم الشيخ.
– تضمّن الاتفاق وقفاً لإطلاق النار لم يُحدد موعد دخوله حيز التنفيذ بعد، على أن يُوقّع رسمياً في القاهرة ظهر الخميس.
– نقلت وكالة رويترز عن مصدر إسرائيلي تأكيده عقد اجتماعين… pic.twitter.com/ZWbsA2DF9k
— نون بوست (@NoonPost) October 9, 2025
وبالرغم من الانسحاب من مركز مدينة غزة وأجزاء من بيت لاهيا وجباليا وخان يونس بحسب الخط الذي تضمنه الاتفاق، إلا أن مناطق لوجستية حيوية مثل رفح وبيت حانون ومحور فيلادلفيا ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية في هذه المرحلة، على أن يُناقش مصيرها لاحقاً.
إنسانيًا، يقضي الاتفاق بفتح شارع صلاح الدين وسط غزة، والسماح بعودة النازحين من جنوب القطاع إلى مدينة غزة (وسط) وشمال القطاع فور بدء التنفيذ، كما يلتزم الجانبان بإدخال 400 شاحنة مساعدات حدّاً أدنى يومياً إلى القطاع خلال الأيام الخمسة الأولى، مع إمكانية الزيادة.
لم يتطرق الاتفاق، تلميحًا أو تصريحًا، لتوقيت بدء المفاوضات بشأن المرحلة الثانية التي من المقرر أن تنطلق فور تنفيذ المرحلة الأولى مباشرة بحسب مقترح الرئيس الأمريكي الذي أبرم بضمانة مباشرة من الولايات المتحدة ومصر وقطر وتركيا، التي تعهدت جميعها بعدم السماح بالعودة إلى الحرب مطلقاً طالما التزم الطرفان ببنوده
ألغام لم تُفكك بعد
يُحلّق اتفاق شرم الشيخ لوقف إطلاق النار بأجنحته الملغمة في فضاء ضيق بين الإنجاز الإنساني والغموض السياسي، فصيغته المُسرّبة لا تقدم نهاية فعلية للحرب بقدر ما تقدم نهاية دبلوماسية للمرحلة، مؤكدة أن أكبر الملفات الجدلية قد تم تأجيلها عمداً بدلاً من حسمها.
هذا التأجيل يشي بأن الاتفاق قد يكون مجرد فسحة لالتقاط الأنفاس وإعادة التموضع، وليس إنهاءً حقيقياً لدائرة العنف التي يحكمها صراع وجودي، فالاتفاق ورغم استجابته للحاجات الملحة الإنسانية والعسكرية، فشل في مقاربة المسائل الجذرية التي أشعلت الفتيل مراراً، كإنهاء الحصار وضمان حق تقرير المصير.
وبدلاً من ذلك، ترك عدة ألغام، مهملة غير محسومة، قابلة للانفجار في أي وقت، أبرزها:
سلاح المقاومة (اللغم الأكبر).. أغفل الاتفاق مسألة سلاح حماس، حيث تركها دون حسم، ليتحول هذا الملف إلى لغم حقيقي يهدد نسف أي استقرار مستقبلي، ففي الوقت الذي تُصر فيه تل أبيب على تسليم السلاح، تشدد الحركة على أن هذه الخطوة مشروطة بإنهاء الاحتلال أولاً، وهذا التباين الجوهري يجعل أي هدنة مؤقتة ومحفوفة بالمخاطر.
الانسحاب الإسرائيلي.. ينص الاتفاق في مرحلته الأولى على أن قوات الاحتلال ستُعيد تموضعها فوق “الخط الأصفر” المزعوم، دون انسحاب كامل كما طلبت الحركة، ووفقاً للبنود المعلنة، ستبقى في مناطق استراتيجية وحيوية مثل رفح وبيت حانون ومحور فيلادلفيا.
هذه الوضعية العسكرية غير المحسومة تبقى سؤالاً معلقاً: هل تقبل حماس باستمرار السيطرة الإسرائيلية على نقاط تماس حيوية دون تحديد جدول زمني لانسحاب كلي؟ الإجابة بالنفي قد تعني عودة القتال وبالقبول انتكاسة استراتيجية في عقيدة المقاومة.
اليوم التالي للحرب.. يبرز خلاف عميق حول “اليوم التالي للحرب” في غزة، حكومة نتنياهو تتمسك بألا يكون لحماس أي دور في حكم القطاع، وتتضمن خطة ترامب إسناد السلطة الجديدة لقيادة أجنبية (بما في ذلك ترامب نفسه وتوني بلير).
في المقابل، ترفض حماس أي دور أجنبي، مؤكدة استعدادها للتخلي عن حكم غزة، ولكن فقط لصالح حكومة تكنوقراط فلسطينية بدعم عربي وإسلامي. هذا التضارب في الرؤى يُبقي فراغ السلطة احتمالاً قائماً، ولغماً قابل للانفجار في أي وقت
قيام الدولة الفلسطينية.. يظل مصير قيام الدولة الفلسطينية معلقاً بين نقيضين، فالدول العربية والإسلامية، والوسطاء تحديداً، تشدد على وجوب أن يؤدي هذا الاتفاق في النهاية إلى دولة فلسطينية مستقلة، غير أن نتنياهو، ووزراء اليمين المتطرف في حكومته، ينفون إمكانية حدوث ذلك، ليتحول هذا الملف من هدف إلى عقبة قد تُجهض الاتفاق من مضمونه في مراحله النهائية.
وفق تلك الألغام القابعة فوق فوهة بركان الانتكاسة، يمكن القول إن اتفاق شرم الشيخ يمثل نموذجاً لـ”السلام المؤجل” الذي يشتري وقتاً ثميناً، لكنه يترك المفاوضات الجوهرية حول السلاح، والسيادة، والمستقبل السياسي معلقة على حافة الهاوية، متروكة لرياح المقاربات المتأرجحة.
اتفاق الضرورة
دخل الطرفان، حماس وتل أبيب، الجولة الأخيرة من مفاوضات شرم الشيخ مدفوعين بمزيجٍ من الضغوط العسكرية والإنسانية والسياسية، جعل من الوصول إلى اتفاقٍ ولو جزئيٍّ أمرًا لا يحتمل التأجيل، فالإعلان عن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار جاء قبل استكمال التفاهم على بقية المراحل، في إشارة واضحة إلى أن الحاجة الآنية كانت أقوى من أي حسابات استراتيجية بعيدة المدى.
بالنسبة لحماس، كانت الهدنة مسألة بقاء سياسي وإنساني أكثر منها خيارًا تفاوضيًا، فالحركة التي تواجه استنزافًا غير مسبوق في غزة، بين دمارٍ واسع النطاق ومعاناةٍ إنسانية متفاقمة، باتت بحاجة إلى فترة توقف مؤقتة تُمكّنها من إعادة ترتيب أوراقها، واستعادة قدراتها المنهكة على مدار عامين كاملين، وتخفيف حدة الغضب الشعبي الناجم عن قسوة الحرب.
وقد أدرك الاحتلال الإسرائيلي هذه النقطة بدقة، واستغلها كورقة ضغط فعّالة، إذ تعمّد تصعيد الانتهاكات ضد المدنيين، لتكثيف الضغط الداخلي على الحركة ودفعها نحو تقديم تنازلاتٍ في مسار التفاوض، تحت وطأة الحاجة الإنسانية الملحّة.
على الجانب الآخر، لم يكن بنيامين نتنياهو في وضعٍ أفضل، فبعد أكثر من عامين من الحرب، لم تُحقق “إسرائيل” ما روّجت له من أهداف: لا تحرير الأسرى، ولا القضاء الكامل على فصائل المقاومة، ولا ضمان أمن الحدود الجنوبية.
ومع تزايد الانتقادات الداخلية، وتراجع الثقة في أداء حكومته، وجد نتنياهو نفسه أمام مأزقٍ سياسي وأخلاقي يصعب تجاوزه بالقوة العسكرية، ومن هنا برزت الدبلوماسية كخيار إنقاذي، يسعى من خلالها إلى تحقيق مكاسب رمزية تُسوَّق داخليًا باعتبارها “ثمار الحرب”، فاستعادة الأسرى، ولو جزئيًا، يمكن أن تُقدَّم للرأي العام الإسرائيلي كـ”نصرٍ من نوعٍ آخر”، يعيد بعض التوازن لصورة حكومةٍ غارقة في الأزمات.
إلى جانب ذلك، تتزايد عزلة “إسرائيل” على الساحة الدولية، وسط موجة اعترافات متتالية بالدولة الفلسطينية، ومقاطعاتٍ سياسية وثقافية واقتصادية متصاعدة، أما المزاج الشعبي العالمي، فقد تغيّر بوضوح، مائلًا أكثر إلى نصرة الفلسطينيين ورفض ممارسات الاحتلال، وهو ما جعل استمرار الحرب عبئًا دبلوماسيًا وأخلاقيًا على تل أبيب.
فلسطينيون يحتفلون بالإعلان عن وقف إطلاق النار، في دير البلح وسط قطاع غزة. pic.twitter.com/fyQ9WJ7HFi
— نون بوست (@NoonPost) October 9, 2025
أما الرئيس الأمريكي، فقد دخل على خط الاتفاق بدوافع لا تقلّ ذاتية عن دوافع الأطراف المتحاربة، فبشخصيته النرجسية التي تميل إلى البحث عن الأضواء والإنجازات السريعة، وجد في اتفاق شرم الشيخ فرصة لتقديم نفسه مجددًا كـ”صانع سلام الشرق الأوسط”، بعد أن أخفق في ذلك خلال ولايته السابقة.
حرص ترامب على أن يكون صاحب البيان الأول للإعلان عن الاتفاق، وسارع إلى الترويج له كإنجاز دبلوماسي شخصي، كما أنه ليس من المستبعد، إن لم يكن احتمالا له وجاهته الكبرى، أن يكون حاضرًا وفي الصفوف الأولى ضمن مشهدية تسليم الأسرى المفرج عنهم، في لقطة رمزية تكرّس صورته كوسيط دولي ناجح، وربما تفتح له طريقًا نحو الجائزة التي لطالما طمح إليها، نوبل للسلام.
لكنّ خلف هذا الطموح الشخصي تكمن أيضًا حسابات أمريكية أعمق، فالإدارة في واشنطن تواجه ضغوطًا داخلية متصاعدة بسبب دعمها غير المشروط لـ”إسرائيل”، وتراجع صورتها عالميًا كقوة راعية للعدالة، ومن هنا، برزت الحاجة إلى مراجعة تكتيكية في إدارة الملف الفلسطيني–الإسرائيلي، تتيح للولايات المتحدة الظهور بمظهر “الوسيط المتوازن” الذي يسعى لإنهاء الحرب، ولو مرحليًا، حفاظًا على ما تبقّى من هيبتها السياسية.
من هنا يمكن القول إن اتفاق شرم الشيخ وُلد من رحم الضرورة، لا من إرادة سلامٍ حقيقية، فلكل طرفٍ حساباته وأسبابه، وهو ما يثير التخوف من أن تكون الهدنة هذه المرة ليست سوى استراحة قصيرة في حربٍ طويلة، وما إذا كانت ستفتح بابًا للسلام، أم تمهّد لجولةٍ جديدة من الصراع.
هذا ما يتخوف منه الفلسطينيون
رغم أجواء التفاؤل الحذر التي رافقت إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ، إلا أن الشكوك العميقة لا تزال تخيّم على المشهد، فالفلسطينيون والوسطاء والمجتمع الدولي يدركون تمامًا أن سجلّ “إسرائيل” الحافل بالتنصل من التفاهمات لا يمنح الكثير من الثقة، كما أن الضمانات الأمريكية لم تعد كافية لتبدّد القلق بشأن نوايا حكومة نتنياهو بعد انتهاء المرحلة الأولى من الاتفاق، والمتمثلة في إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين.
وهنا يبرز سؤالٌ محوري يشغل المراقبين: هل سيلتزم ببقية مراحل اتفاق إنهاء الحرب أم أنه سيسعى إلى استئناف العمليات العسكرية في غزة فور إنهاء ملف الأسرى، بعد أن تخلّص من أحد أبرز عوامل الضغط الداخلي وتجريد المقاومة من ورقتها الأكثر قوة؟
القلق يتعزز مع تصريحات وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي دعا صراحة إلى “تدمير حماس بعد الإفراج عن المحتجزين”، ما يعيد إلى الأذهان تجارب سابقة أثبت فيها نتنياهو أن وعوده المؤقتة لا تعني نهاية الصراع.
من جانبها، تبدي المقاومة الفلسطينية حذرًا واضحًا إزاء سلوك “إسرائيل” في المراحل التالية من الاتفاق، وهو ما جاء على لسان القيادي في حماس أسامة حمدان الذي صرّح بأن الاتفاق الذي تم التوصل إليه يمثل وقفًا نهائيًا للحرب على غزة، داعيًا المجتمع الدولي إلى مراقبة التزام “إسرائيل” ببنوده.
وأوضح حمدان أن تبادل الأسرى لن يتم إلا في إطار اتفاقٍ شامل ينص صراحة على إنهاء الحرب بالكامل، مؤكدًا أن الوسطاء قدموا ضمانات بعدم خرق الاحتلال للاتفاق، وإن ظلّت هذه الضمانات، في نظر كثيرين، رهينة لحسابات السياسة وتقلباتها.
في المقابل، هناك من يقلّل من المخاوف، معتبرًا أن نتنياهو فقد مبرراته لاستمرار الحرب بعد تسلّمه الأسرى المحتجزين، إذ يواجه ضغوطًا داخلية متصاعدة بسبب الكلفة البشرية والاقتصادية الباهظة، فضلًا عن تراجع صورته عالميًا وانحسار التعاطف مع “إسرائيل” في الرأي العام الدولي.
ويرى هذا التيار أن التحول النسبي في خطاب نتنياهو عقب توقيع الاتفاق – حين قال: “سنواصل تحقيق أهدافنا ونشر السلام مع جيراننا” – ربما يعكس محاولة لإعادة التموضع سياسيًا، لا سيما في ظل عزلته المتنامية داخل وخارج “إسرائيل”.
وعليه يبقى الاتفاق في منطقة رمادية بين التفاؤل والريبة، فالتاريخ القريب يؤكد أن نتنياهو لا يُؤتمن على تعهداته، في حين تدرك المقاومة أن أي خطأ في التقدير قد يكلّف غزة جولة جديدة من الدمار، وبين هذين الحدّين، يقف الوسطاء الدوليون في اختبار صعب لإثبات أن شرم الشيخ لم تكن مجرّد محطة في مسلسل طويل من الهدن المؤقتة.
ضمانات وقف الحرب
رمادية المشهد ما تزال حاضرة بقوة، رغم ما يبدو من أجواء تفاؤل حذرة، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات ملحّة حول الضمانات الكفيلة بإجبار حكومة نتنياهو على الالتزام ببنود الاتفاق واستكمال مراحله اللاحقة، فالتجارب السابقة علمت الفلسطينيين والوسطاء أن التفاهمات لا تصمد طويلاً أمام تقلبات السياسة الإسرائيلية، ما يجعل بناء شبكة ضمانات متكاملة أمرًا حاسمًا في هذه المرحلة الدقيقة، لخصها الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي في أربعة ضمانات رئيسية.
أولها الصمود الفلسطيني والمقاومة، صمام الأمان الحقيقي، والعامل الأبرز في ترسيخ أي إنجاز سياسي أو ميداني، فالمعادلة التي فرضتها غزة على مدى العامين الماضيين جعلت “إسرائيل” تدرك أن القوة وحدها لا تكسر إرادة الفلسطينيين، وأن أي خرق للاتفاق سيعيد الصراع إلى نقطة الصفر بثمن باهظ.
العامل الثاني يتمثل في استمرار الزخم الدولي الداعم للقضية الفلسطينية، والذي شهد اتساعًا ملحوظًا في الأشهر الأخيرة، فحركات التضامن والمواقف الرسمية الرافضة لانتهاكات الاحتلال باتت تُحاصر “إسرائيل” سياسيًا وإعلاميًا، وتضعها في زاوية الدفاع عن نفسها أمام الرأي العام العالمي.
أما العامل الثالث، فهو بلورة موقف عربي وإسلامي حازم، يوجّه رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أن العودة إلى الحرب في غزة لن تكون مقبولة بأي حال، وأن تبعاتها لن تقف عند حدود القطاع، بل ستمتد إلى استقرار المنطقة ومصالح الولايات المتحدة ذاتها، فمثل هذا الموقف، إن تَحقّق، من شأنه أن يرفع كلفة أي مغامرة عسكرية إسرائيلية ويزيد من الضغوط الدبلوماسية على تل أبيب.
وأخيرًا، تبقى الضمانات الأمريكية حجر الزاوية في أي اتفاق، صحيح أن واشنطن قدّمت وعودًا مماثلة في السابق دون أن تُنفّذها فعليًا، لكن الظروف اليوم مختلفة؛ إذ قد تدفع العوامل الثلاثة السابقة الإدارة الأمريكية إلى التعامل بجدية أكبر، وتقديم ضمانات فعلية تُلزم نتنياهو بعدم التراجع، وتمنعه من نسف الاتفاق قبل اكتمال مراحله النهائية.
وعليه تبدو الضمانات المتعددة الأطراف – من المقاومة، والمجتمع الدولي، والعرب، وواشنطن – هي وحدها الكفيلة بتحويل اتفاق شرم الشيخ من هدنة هشّة إلى مسارٍ مستقرّ نحو إنهاء الحرب، لكن ما لم تتحوّل تلك الضغوط إلى التزامات فعلية، سيظل الاتفاق معلّقًا بين الأمل والخذلان.
محصلة لما سبق، يقف اتفاق شرم الشيخ عند مفترقٍ حاسم بين واقعية الضرورة وأحلام السلام، فهو ليس نهاية الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين بقدر ما هو هدنة لالتقاط الأنفاس في معركة مفتوحة على كل الاحتمالات.
فبينما تنشد غزة هدوءًا يعيد لها بعض الحياة، تبقى الحسابات السياسية الإسرائيلية والأمريكية عالقة في توازنات القوة والمصالح، تجعل من كل خطوة في الاتفاق اختبارًا جديدًا للنية والالتزام، ورغم الأثمان الباهظة التي دفعها الفلسطينيون، فإنهم يدركون أن ما تحقق حتى الآن هو نتيجة لصمودهم وثباتهم الإنساني والسياسي، أكثر مما هو منّة من أحد.
ومع انطلاق العدّ التنازلي لتنفيذ المراحل المقبلة، تتجه الأنظار إلى الضمانات الدولية والعربية، التي قد تمنح الاتفاق فرصة للبقاء، أو تتركه يتهاوى كسابقيه، وبين هشاشة الهدنة وطموح التحوّل إلى سلامٍ دائم، تظلّ الحقيقة الوحيدة أن غزة لا تبحث عن هدنة مؤقتة، بل عن حقٍ في الحياة، وأن اختبار الإرادات الحقيقي لم يبدأ بعد، فإما أن يكون شرم الشيخ بداية طريق نحو إنهاء الحرب، أو محطة جديدة في دائرةٍ لا تزال مفتوحة على الاحتمالات كافة.