بعد عامين كاملين على الحرب، تحاول غزة أن تستعيد أنفاسها وسط الركام، في مشهدٍ صار فيه الوجع جزءًا من الحياة اليومية. عامان مرا كانا أطول من كل ما سبق، غصّا بالفقد والدم والانتظار، حيث لا يخلو شارع من أثر قصف، ولا بيت من حكاية نجاةٍ أو فجيعة، إذ تجاوزت خسائر الحرب الأخيرة ما شهدته غزة في كل حروبها السابقة مجتمعةً.
ومع أن الحرب وضعت أوزارها عسكريًا، إلا أن جرحها النفسي والاجتماعي ما زال مفتوحًا، والسؤال الملح اليوم: كيف يمكن لمجتمعٍ مثقلٍ بهذا القدر من الألم أن يرمم ذاته؟ وكيف يمكن تحويل هذا الفقد الجماعي بكل فواجعه إلى جسرٍ نحو حياةٍ جديدة؟
وفي سبيل الإجابة عن ذلك، نستحضر ثلاث تجارب لشعوب عانت مآسي مشابهة لغزة مثل سوريا وفيتنام والبوسنة. فرغم ما عاشته هذه البلدان من دمارٍ واسع وفقدٍ جماعي، استطاعت بوسائل متباينة أن تخلق لنفسها مساراتٍ للتعافي.
ويقودنا ذلك إلى تحليل الخطوات الأعمق التي قادت تلك الشعوب إلى النهوض من تحت الركام، من تأسيس مؤسساتٍ لحفظ الذاكرة الجماعية، إلى إحياء الفن والتعليم والعمل المشترك كفضاءاتٍ لإعادة بناء الثقة، وصولًا إلى تحويل الشعور بالاستضعاف إلى طاقةٍ للمقاومة والصمود.
ومن خلال هذه التجارب، لا نقدم دروسًا جاهزة لغزة، بل نستلهم من تجارب الآخرين؛ كيف يستطيع الإنسان، حتى وهو ينهض من تحت الركام، أن يعيد تعريف ذاته من خلال الألم ذاته، فيحوله إلى معنى.
التجربة السورية: المرونة وقوة التحمل
من أكثر التجارب شبهًا بما جرى في غزة هي التجربة السورية، فكلا الشعبين عرفا الحصار والاقتلاع والخذلان. فمنذ عام 2011، عاش السوريون واحدةً من أقسى المآسي في التاريخ المعاصر، ملايين المشردين، ومئات آلاف القتلى والمفقودين، ومدنًا أُبيدت بالكامل، وذاكرةً مثقوبة بالدم والتهجير.
لم يكن التمسك بالحياة خيارًا سهلًا، بل فعل مقاومةٍ يومي، فالألم والفقد في التجربة السورية كانا زمنًا ممتدًا يتجدد مع كل قصفٍ وتهجير، لكن المميز في هذه التجربة، هي القدرة المذهلة التي أبداها السوريون على التكيف والمرونة، وعلى خلق أشكالٍ جديدة من الحياة رغم كل ما تهدم.
الذاكرة كعدالةٍ مؤجلة
في غياب العدالة، تحولت الذاكرة لدى السوريين إلى شكلٍ من أشكال العدالة المؤجلة، إذ غدا التوثيق وكتابة الشهادات وصناعة الأفلام التسجيلية وسائل لمقاومة النسيان ومحاولة لجعل الألم قابلًا للرواية بدلًا من أن يبقى جرحًا صامتًا. وحين يصبح الألم قابلًا للحكي، يتحرر الإنسان من سطوته ويستعيد قدرته على المضي قدمًا.
ومع تراكم التجربة السورية، تبلور وعيٌ جمعيٌّ بأن الشفاء لا يتحقق بالنسيان، بل بتثبيت ما حدث في الذاكرة المشتركة، فصار مبدأ “لا تهميش للذاكرة” جوهرًا في عمل مبادرات المجتمع المدني، وأضحى التوثيق نفسه فعلًا من أفعال المقاومة الرمزية ضد محو المعاناة.
لقد أثبتت التجربة السورية أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون وحدهم، بل أيضًا أولئك الذين قاوموا اليأس وأعادوا بناء ذواتهم من تحت الركام، وهو ما يتقاطع مع ما لاحظه “ولفجانج شيفيلبوش” في كتابه “ثقافة الهزيمة: الصدمة والحزن والتعافي” حين أشار إلى أن المنتصرين قد يكتبون التاريخ، لكن الكلمة الأخيرة غالبًا ما تكون للمستضعفين الذين يعيدون صياغة خسارتهم في شكل رواية متماسكة تمنحهم معنى وكرامة.
الفنون كمساحات للشفاء
إلى جانب التوثيق، لعبت الفنون دورًا محوريًا في التعافي، كالسينما الوثائقية، والرسم على الجدران المهدمة، والأغاني والشعر، كانت تلك الأفعال بمثابة علاج جماعي غير رسمي يتيح للناس التعبير عن آلامهم، وتحويلها إلى سردٍ ومعنى.
ومع امتداد التجربة، نشأت طقوس اجتماعية جديدة من رحم المعاناة، كمجالس صغيرة لتذكر الشهداء أو إحياء ذكرى تهجير، وأغانٍ تُنشد للشهداء وتلعن المستبد، وأفراحٍ تُقام رغم الفقد وتحمل صبغة ثورية، هكذا أصبح الفن وهذه الطقوس شكلًا من أشكال المقاومة، ووسيلة لإعادة وصل شبكة الدعم الاجتماعي التي تحفظ للمجتمعات تماسكها وسط الانهيار.
تحدي المستضعفين
رغم ما خلفته الحرب من تشريدٍ ودمار، ساد في أوساط السوريين مزاجٌ من التحدي، فالهزيمة كما يقول كلاوزفيتز ليست حدثًا عسكريًا بقدر ما هي حالةٌ نفسية، إذ لا تسقط الأمم لأنها دُمرت ماديًا، بل لأنها تفقد الثقة بذاتها.
ومن هذا الوعي، جاء الرد السوري على الانهيار بمحاولاتٍ دؤوبة لاستعادة التوازن وإثبات القدرة على التكيف والابتكار، فصنع الثوار طائراتٍ بدون طيار، وحاولوا تقليد النماذج الاحترافية للجيوش الحديثة، وأصر النازحون على التعليم في الخيام، وكأن الطاقة على الإبداع وُلدت من قلب العجز ذاته.
لقد أظهرت التجربة السورية أن الاستضعاف يمكن أن يكون شكلًا آخر من أشكال الانتصار، فالمقهور يمتلك قوةً خفية في قدرته على تحويل الهزيمة إلى معرفةٍ وخبرة تُمكنه من النهوض مجددًا، ليصبح فشله المؤقت خطوةً نحو انتصارٍ أعمق وأطول مدى، بينما المتجبر مهددٌ بالركون إلى ما يظنه نصرًا، وقد لخص مصطفي صادق الرافعي هذا المعنى بقوله: “قضت الحياة أن يكون النصر لمن يحتمل الضربات، لا لمن يضربها”.
وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة الحملات الدعائية الإسرائيلية المكثفة على وسائل التواصل، والتي تهدف إلى بث الهزيمة النفسية في وعي الغزيين عبر التركيز المستمر على مشاهد الدمار والمقارنة المستمرة بين ما كانت عليه الحياة قبل الحرب وما آلت إليه بعدها، في محاولة لتفريغ الوعي الجمعي من قدرته على التحدي والابتكار، وصناعة شعورٍ بالعجز واليأس.
دروس لغزة من التجربة السورية
من التجربة السورية يمكن لغزة أن تستلهم ثلاث ركائز أساسية في طريقها إلى التعافي، أولها هي الذاكرة بوصفها مقاومةً وعلاجًا، فقد أظهرت التجربة السورية أن التوثيق وتسجيل الروايات ليست أعمالًا رمزية فحسب، بل أدواتٌ فعالة للشفاء النفسي والجمعي، لأنها تمنح الضحايا وجودًا سرديًا وأخلاقيًا.
وعندما يتحول الحزن إلى سردٍ جماعي، يصبح مصدرَ قوةٍ لا عبئًا، إذ يمكن الناس من امتلاك روايتهم الخاصة لما جرى، فيستعيدون السيطرة على ذاكرتهم وعلى معنى الألم ذاته. ومن هذا المنطلق، يمكن لغزة أن تبني منصاتٍ خاصة لتوثيق قصص الطوفان وحفظ أسماء الضحايا، وإنتاج سردٍ جمعي مشترك، على غرار مبادرة “الذاكرة السورية” التي حولت التوثيق من فعلٍ فردي إلى مشروعٍ وطني لإحياء الوعي الجمعي.
أما الركيزة الثانية فهي البدء من البنية المحلية، لأن التعافي النفسي والاجتماعي لا يصدر عن قرارات المؤسسات الكبرى، بل ينبع من المبادرات الصغيرة التي تنبض في قلب المجتمع مثل مسجدٍ يجمع الناس على الأمل، ومكان بسيط يُعيد للأطفال بهجتهم، وخيمة تتحول إلى مساحةٍ للدعم والمواساة، فهذه المبادرات الأهلية البسيطة هي النواة الأولى لإعادة التماسك الاجتماعي، إذ تعيد للناس قدرتهم على الفعل والمساندة المتبادلة.
كما أن إشراك أمهات الشهداء وذوي المصابين في مشاهد احتفالية، ولو كانت رمزية وبسيطة، يعكس جانبًا من معركة الذاكرة التي تسعى لتحويل الحزن إلى معنى. فعلى سبيل المثال، حين تظهر والدة عبد الباسط الساروت وهي تفتتح مراكز صحية في حمص، فهذا فعلًا قويًا لإعادة تعريف الفقد والشهادة، وهنا يتجلى جوهر الصراع في المجتمعات الخارجة من الحرب، إذ تتجاوز المعركة حدود الإعمار المادي إلى ميدان الذاكرة والمعنى.
كم أشعر بالفخر وأنا أشاهد والدة الشهيد عبد الباسط الساروت وهي تفتتح المراكز الصحية في حمص اليوم
والدة الشهيد طراد الزهوري وهي تفتتح مشفى القصير
أمهات وأولاد الشهداء يفتتحون صروح البناء الجديد في سوريا الجديدة
كل الشكر لمعالي وزير الصحة.. ولمنظمة الأمين pic.twitter.com/7FODUCELgC
— هادي العبدالله Hadi (@HadiAlabdallah) October 5, 2025
وأخيرًا، الفعل الصغير شرطٌ للفعل الكبير، فالإيماءات اليومية من رسمةٍ يرسمها طفل، أو نكتةٍ تخفف الوطأة، أو درسٍ يُقام وسط الركام، أو أغنيةٍ تُنشد للأمل، ليست تفاصيل هامشية، بل اللبنات الأولى في بناء التعافي الجمعي واستعادة المعنى رغم الخراب. وهكذا تُظهر التجربة السورية أن تمسك الناس بالمعنى وسط الركام هو بذرة الحياة التي تحمل في جوفها القدرة على النهوض من جديد.
فيتنام: من رماد الحرب إلى طاقة البناء
عانت فيتنام واحدةً من أبشع الحروب في التاريخ المعاصر، إذ قُتل أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي، بينهم مليونا مدني من أصل نحو أربعين مليون نسمة، أي أن الحرب حصدت أرواح ما يقارب عُشر السكان.
وخلال الحرب، أسقطت الولايات المتحدة كمياتٍ من القنابل تفوق ثلاثة أضعاف ما أُلقي في الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن رش أكثر من 72 مليون لترٍ من مبيدات الأعشاب التي حولت الغابات إلى أراضٍ قاحلة.
وحين وضعت الحرب أوزارها عام 1975، كانت البلاد تقف على أنقاضها؛ مدنٌ محروقة، ملايين القتلى، أجيالٌ مشوهة، واقتصادٌ منهار بالكامل، كان التحدي الأكبر آنذاك هو القدرة على النهوض من بين الركام، واستعادة المعنى بعد حربٍ أنهكت البشر والطبيعة معًا.
من الحرب إلى الإعمار
في السنوات الأولى بعد الحرب، اختارت فيتنام طريقًا صعبًا لكنه متماسكًا، فلم تسعَ إلى إنكار الحرب أو محوها من الذاكرة، بل جعلتها جزءًا من مشروعها الوطني الجديد، أنشأت متاحف ومواقع الذاكرة في المدن والقرى لتوثيق ما جرى من منظورٍ جماعي، ودمجت تاريخ الحرب في المناهج التعليمية كي تبقى الذاكرة حية ومفتوحة للمساءلة.
اقتصاديًا، واجهت البلاد دمارًا شاملًا وبطالةً ونقصًا في الغذاء بعد انهيار اقتصادها الزراعي، لكنها أدركت أن الزراعة يمكن أن تكون مدخل النهوض من جديد، فكانت أولى خطوات التعافي دعم الزراعة والمشروعات الصغيرة، ما أعاد للناس أعمالهم وروتينهم اليومي ومنحهم شعورًا بالسيطرة على مصيرهم. لم تكن إعادة الإعمار مجرد خطة اقتصادية، بل كانت شكلًا من العلاج الجمعي الذي أعاد التوازن للمجتمع الفيتنامي.
الثقافة والذاكرة كطريقٍ للشفاء
لم يقتصر طريق التعافي في فيتنام على الجوانب الاقتصادية، بل امتد ليشمل الثقافة والفنون بوصفهما ركيزتين أساسيتين للشفاء الجماعي. فبعد الحرب، انطلقت جهود واسعة لإعادة بناء الوعي الوطني من خلال إنشاء المراكز الثقافية والنُصُب التذكارية، ومحاولاتٍ حثيثة لفهم إرث الحرب ودمجه في الهوية المعاصرة.
وفي هذا السياق، شهدت البلاد ازدهارًا فنيًا غير مسبوق، إذ أنتجت فيتنام أكثر من 400 فيلمٍ ووثائقي، وما يزيد على ألف رواية تناولت تجارب الأفراد والعائلات والصدمة الجمعية، فتحولت السينما والأدب والفنون إلى وسائطٍ لفهم الألم وتحويله إلى ذاكرة وطنية إيجابية تُعيد للناس قدرتهم على المعنى والاستمرار.
تمكين النساء
في فيتنام بعد الحرب، لعبت العديد من النساء دورًا بارزًا في دعم التعافي المجتمعي، سواء من خلال تعليم الأطفال أو بالمشاركة المجتمعية ودورهن في رعاية الأسر المتضررة، وقد منحت الدولة لعدد كبير من هؤلاء النساء وسام “الأم الفيتنامية البطلة – Vietnamese Heroic Mother” تكريمًا لبطولتهن وتضحياتهن في صمود المجتمع.
دروس لغزة من تجربة فيتنام
خاضت فيتنام مسارًا طويلًا من إعادة بناء الذات والمجتمع والذاكرة، وهو مسار غني بالدروس التي يمكن لغزة الاستفادة منها في سعيها نحو التعافي، ويمكن تلخيص أبرز هذه الدروس في محورين رئيسين: تحويل الذاكرة إلى مشروعٍ وطني شامل، إذ لم تمحُ فيتنام آثار الحرب، بل جعلتها ركيزة أساسية للهوية الوطنية عبر المتاحف والأفلام والمواقع التذكارية التي روت قصص الناس العاديين لا الأبطال فقط. وهكذا يمكن لغزة أن تجمع شهاداتها اليومية من الحصار والفقد إلى الصمود في أرشيف حي ومفتوح يحفظ التجربة ويمنحها معنى يتجاوز الفقد إلى الإلهام.
وثانيا التعليم كأداةٍ للشفاء وإعادة البناء، فدمج قصص الحرب في المناهج يساعد الأطفال على فهم معاناتهم ضمن سياقٍ وطنيٍ أكبر، ويغرس فيهم الثقة بقدرتهم على الإبداع من وسط الدمار. كما يمكن لغزة تمكين النساء من خلال قيادتهن بعض المبادرات التعليمية والمشاريع المجتمعية، بما يعيد للناس إحساسهم بالقدرة على صنع مستقبلهم واستعادة حياتهم.
التجربة البوسنية: المقاومة بالفن
في تسعينيات القرن الماضي، عاشت سراييفو أكثر من ثلاث سنوات من الحصار والعزلة التامة عن العالم، محرومةً من الماء والكهرباء والغذاء، وتحت قصفٍ متواصلٍ من القوات الصربية القومية. خلفت الحرب آلاف القتلى، ودُفن كثير منهم في مقابر جماعية، فيما بقيت البلاد مثقلةً بإرثٍ قاسٍ من معسكرات الاعتقال وجرائم الاغتصاب.
ورغم الجحيم الذي عاشته البوسنة، لم تستسلم للموت، فوسط الركام ازدهرت الحياة الثقافية والفنية كأحد أشكال المقاومة النفسية والروحية، تحولت الأقبية المظلمة إلى مسارح صغيرة تُعرض فيها المسرحيات على ضوء الشموع، وأقيمت حفلات موسيقية ومعارض فنية، بينما كانت الفكاهة السوداء وسيلةً لتخفيف الاكتئاب، واعتُبرت المسارح والموسيقى المؤسسات الوحيدة الفاعلة في المجتمع المدني أثناء الحصار.

بالتوازي مع الفعل الثقافي، نشأت شبكات تضامن يومية أعادت للمجتمع توازنه الداخلي، مثل تبادل الطعام القليل، وتعليم الأطفال، ومساندة الجيران، كلها ممارسات بسيطة شكلت نسيجًا خفيًا من الدعم الأهلي الذي حمى سراييفو من الانهيار. ومع غياب السلطة وعجزها عن تقديم الخدمات، أصبح هذا التكافل الشعبي عمود الصمود، وأثبت أن التعافي يبدأ من الأسرة والحي، لا من المؤسسات الكبرى.
كما أدرك البوسنيون أيضًا أهمية التوثيق في مواجهة النسيان، فوثق الصحفيون والمصورون المحليون المجازر وحصار سراييفو أثناء الحرب، واستخدمت تلك الشهادات كأدلة أساسية في المحاكمات الدولية. هذا التوثيق ساهم أيضًا في تشكيل سردٍ عامٍ لما جرى، مما منح المعاناة معنىً مدعومًا بحقائق موثقة، وساعد المجتمع على مواجهة النسيان والإحساس بالعجز.
وبعد انتهاء الحرب، ظهرت مبادرات محلية ومنظمات أهلية لدعم المتضررين – بما في ذلك النساء والأسر المشردة – عبر صناديق ومساعدات اقتصادية وبرامج تعليمية، كما أن المجتمع البوسني تبنى ممارسات ثقافية واحتفالية سنوية، مثل جنازات جماعية ومسيرات إحياء ذكرى ضحايا سريبرينيتسا.
دروس لغزة من التجربة البوسنية
من تجربة سراييفو يمكن لغزة أن تستلهم ثلاث ركائز أساسية في تحويل الألم إلى طاقة حياة. أولًا، الفن كوسيلة بقاء لا ترفًا بعد الحرب، فكما استخدم البوسنيون الفنون والأدب لتضميد جراحهم، يمكن لغزة أن تجعل من الفعل الثقافي مساحةً لترميم المعنى الجماعي، من خلال المسرحيات المجتمعية، والأنشطة الفنية للأطفال، والمبادرات الإبداعية التي تعيد للناس ثقتهم بقدرتهم على الخلق وسط الركام.
ثانيًا، التكافل المجتمعي بوصفه نواة التعافي: فالعلاقات الإنسانية تشكل الجدار الحقيقي للصمود، إذ يبدأ الشفاء من المبادرات الصغيرة التي تُعيد بناء الثقة وتُنعش شعور الناس بانتمائهم إلى مجتمعٍ واحد.
وثالثًا، الذاكرة والعدالة الرمزية، فكما حول البوسنيون شهاداتهم إلى ذاكرة حية عبر المهرجانات ومسيرات الذكرى السنوية، يمكن لغزة أن تبتكر عدالتها الرمزية الخاصة من خلال معارض ومبادرات ومسيرات سنوية تحمل أسماء الشهداء والمفقودين.
غزة لن تموت: من الألم إلى المعنى والأمل
بين فيتنام وسراييفو وسوريا تتكرر المآسي وتختلف الجغرافيا، لكن السؤال يبقى واحدًا: كيف يمكن للإنسان أن يعيش بعد أن يفقد كل شيء؟ لم يكن التعافي في أيٍ من هذه التجارب الثلاث مشروعًا حكوميًا، بل فعلًا جماعيًا بدأ من تفاصيل الحياة اليومية، ومن إصرار الناس على استعادة معنى وسط الركام.
رغم تباعد الأزمنة وتنوع الثقافات، فإن ما جمع هذه الشعوب المستضعفة هو قدرتها على تحويل الهزيمة المادية إلى سرديةٍ جديدة تمنح الألم معنى، إذ صنعت كلٌّ منها ذاكرةً جماعيةً تُقاوم النسيان، وحولت جراحها إلى هويةٍ وروحٍ من الصمود والمقاومة.
كذلك لم تصف أيٌّ من هذه الأمم الثلاث ما مرت به بالهزيمة، بل بالإرهاق، وكأنها تؤكد أن الحرب أنهكت أجسادها لكنها لم تنل من إرادتها، فقد رأت كل أمةٍ في صون كرامتها شكلًا آخر من أشكال النصر، واستمر هؤلاء المستضعفون يؤمنون بتفوقهم الأخلاقي والثقافي على عدوهم.
وتُظهر تجارب فيتنام والبوسنة وسوريا أن حركات التحرر فيها خاضت صراعاتٍ غير متكافئة، إذ واجه الفيتناميون أعتى قوة عسكرية في العالم، وقاتل البوسنيون آلة تطهيرٍ عرقي مدعومة روسيًا، بينما واجه السوريون نظامًا مدججًا بالقوة والدعم الخارجي.
ومع ذلك، استطاعت هذه الشعوب رغم الضعف والخذلان، أن تخلق لنفسها لغة مقاومةٍ جديدة، قوامها التمسك بالحياة، وتماسك السردية، وتحويل الفقد إلى طاقةٍ لإعادة التكوين والصمود.
الدرس الأعمق الذي تقدمه هذه التجارب الثلاث هو أن الانكسار المادي ليس نهاية الطريق، بل خطوة نحو معنى أعمق وقوةٍ أكثر رسوخًا، وحين تتحول القصص الفردية إلى روايةٍ جماعية، وتُعاد بناء العلاقات قبل الأبنية، ويجد الناس في الفن والتعليم والعمل المشترك معنىً جديدًا للحياة، تبدأ رحلة الشفاء الحقيقي.