ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدى أشهر، قدّم دونالد ترامب نفسه بوصفه التجسيد الحقيقي لصانع السلام العالمي، متفاخرًا بقائمة متغيّرة من النزاعات الدولية التي يدّعي أنه نجح في تسويتها. في بعض الأحيان، كانت القائمة تضم ستة نزاعات، وفي أحيان أخرى تصل إلى عشرة. وقال الرئيس الأمريكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي: “أنهيت سبع حروب، وكانت جميعها مشتعلة، يُقتل فيها آلاف من الناس”. هذا الادعاء غير صحيح، لكنه لم يتوقف عن تكراره. صحيح أن ترامب استغل نفوذه الدبلوماسي ليعقد عددا من اتفاقات وقف إطلاق النار، لكن اتفاقيات السلام الدائمة ظلّت بعيدة المنال.
في إفريقيا، على سبيل المثال، لا يزال الصراع المستمر منذ ثلاثة عقود بين الميليشيات المسلحة في رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية مستمرًا حتى اليوم، رغم الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة في يونيو/ حزيران، والذي وصفه ترامب بأنه “يوم عظيم للعالم!”.
كما أن إنجازات ترامب كوسيط لم يُعترف بها دائمًا من الأطراف المتنازعة. فعندما تفاخر مرارًا بأنه نجح في حلّ أحدث صراع بين الهند وباكستان حول كشمير، غضب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي مما اعتبره تحريفًا للواقع، إلى درجة أن الخلاف بينهما بات يهدد جهود الولايات المتحدة المستمرة منذ سنوات لبناء شراكة استراتيجية مع الهند في إطار المنافسة مع الصين.
لكن النقطة الأساسية، كما يراها ترامب، هي أنه بذل الكثير من الجهود من أجل السلام، لدرجة أنه بات من الصعب عليه تتبّع جميع الدول التي يدّعي أنه يحلّ مشاكلها. في سبتمبر/ أيلول، تفاخر بجهوده في إحلال السلام في حرب حدودية غير موجودة بين أرمينيا وكمبوديا، وهما دولتان تفصل بينهما نحو أربعة آلاف ميل. كما أخطأ مرتين وقال “ألبانيا” بدلًا من “أرمينيا” حين كان يتباهى بإنهاء الصراع الطويل بين أرمينيا وأذربيجان.
وقد أثارت هذه الزلات الكثير من السخرية بين القادة المشاركين في قمة عُقدت مؤخرًا في كوبنهاغن، حيث التُقطت صورة لرئيس وزراء ألبانيا، إيدي راما، وهو يمازح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قائلاً: “عليك أن تعتذر، لأنك لم تهنئنا على اتفاق السلام الذي أبرمه الرئيس ترامب بين ألبانيا وأذربيجان”. كان رئيس أذربيجان إلهام علييف يقف قريبا منهما، وقد انفجر ضاحكًا.
رغم كل ذلك، لم يكن بوسع ترامب أن يدّعي تحقيق أي تقدم في إنهاء الحربين الرئيسيتين اللتين جعلهما من أولويات رئاسته، الصراع بين إسرائيل وحماس في غزة، والغزو الروسي لأوكرانيا. لكن ذلك تغيّر الآن. ففي وقت متأخر من مساء الأربعاء، نشر ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي ما اعتبره إنجازًا حقيقيًا يستحق التباهي.
كتب بعد الساعة السابعة مساءً بقليل: “أنا فخور جدًا أن أعلن أن إسرائيل وحماس قد وافقتا على المرحلة الأولى من خطة السلام التي وضعناها”. مضيفًا: “طوبى لصانعي السلام!”.
ينص اتفاق وقف إطلاق النار، التي تم التوصل إليها بوساطة من حلفاء الولايات المتحدة العرب مثل قطر ومصر، على أن توقف إسرائيل القتال في ظرف 24 ساعة وأن تنسحب جزئيًا من غزة، وعلى أن تقوم حماس بالإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين العشرين الذين يُعتقد أنهم لا يزالون على قيد الحياة، وذلك بحلول مطلع الأسبوع المقبل، بعد مرور عامين على احتجازهم خلال هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول. وفي اجتماع مع وزرائه يوم الخميس، بينما كان المستشارون يضعون خططًا لسفره إلى المنطقة مساء الأحد لحضور مراسم التوقيع، وصف ترامب الاتفاق بأنه “انفراجة تاريخية”.
أدى احتمال تحقيق السلام في غزة إلى الإشادة بالاتفاق، حتى من منتقدي ترامب، واصفين إياه بأنه “أول لحظة تبعث على الأمل منذ وقت طويل”، على حد تعبير السيناتور الديمقراطي عن ولاية ماريلاند، كريس فان هولين، الذي لطالما مارس ضغوطًا على ترامب (وقبله جو بايدن) لفعل المزيد من أجل إنهاء الصراع.
أما مؤيدو ترامب، فقد غمرهم الفرح، وكأن الرئيس نجح في جمع بنيامين نتنياهو ومحمد إسماعيل درويش في عناق على جبل الهيكل، وهو أمر لن يحدث على الإطلاق بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس مجلس قيادة حماس.
من نواحٍ عديدة، كان استعداد ترامب للضغط على نتنياهو هو ما أنجح الاتفاق فعليًا. لم يكن أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي «خيار سوى الاستسلام»، كما أخبرني دانيال كورتزر، السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، الأسبوع الماضي، بعد أن وافقت حماس من حيث المبدأ على محادثات السلام وفق شروط ترامب.
كما توقع آرون ديفيد ميلر، وهو مفاوض مخضرم في شؤون الشرق الأوسط عمل مع رؤساء من كلا الحزبين، ما حدث تقريبًا، مشيرًا إلى أن الغموض الحقيقي لا يكمن في وقف إطلاق النار ضمن المرحلة الأولى، بل فيما إذا كان بالإمكان التوصل إلى ترتيب دائم لما بعد الحرب في غزة، بما في ذلك التفاصيل الحاسمة مثل نزع سلاح حماس.
وقد قال لي ميلر الأسبوع الماضي بعد موافقة حماس: “ترامب يريد اتفاقاً. سيعمل على إطلاق سراح جميع الرهائن وإنهاء الحملة العسكرية الإسرائيلية الشاملة. لا يستطيع بيبي أن يخسره. على العكس، هو بحاجة إلى ترامب للفوز في الانتخابات الإسرائيلية عام 2026”.
وكأنه يريد تأكيد الفكرة، لم يكتفِ نتنياهو بالموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار، بل نشر أيضًا على وسائل التواصل الاجتماعي صورة مُولدة بالذكاء الاصطناعي تُظهره إلى جانب ترامب، خلال تسلّم الرئيس الأمريكي جائزة نوبل للسلام، وهي صورة مزيفة تعكس رغبة ترامب في نيل هذه الجائزة. كتب نتنياهو تعليقًا على الصورة: “إنه يستحقها!”.
رغم من أن فوز ترامب لا يُعد متوقعًا على نطاق واسع، فقد اعتبر العديد من الجمهوريين أن اتفاق غزة فرصة للمطالبة بمنحه الجائزة. قال النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا براين ماست في مقابلة على قناة فوكس نيوز: “تلك المجموعة من الأكاديميين والنخب الجالسين في النرويج، الهيئة التي تتخذ القرار، يجب أن تمنح الرئيس ترامب جائزة نوبل للسلام”. ردّ الرئيس على منصة “تروث سوشيال” قائلًا: “شكرًا لك براين!”.
بغض النظر عن الجائزة، استغل ترامب اللحظة ليعلن أن الحرب قد انتهت بفضل جهوده. قال في اجتماع مع وزرائه يوم الخميس: “لقد أنهينا سبع حروب أو صراعات كبرى – نعم، حروب – وهذه هي الحرب الثامنة”. وأضاف: “هذا هو السلام في الشرق الأوسط”. ولم يتطرق إلى أي تحفظات أو نقاشات بشأن المرحلة الثانية.
كان من الصعب التوفيق بين سيل المديح الذي انهال على ترامب من الجمهوريين الذين وصفوه بأنه أعظم صانع سلام في تاريخ العالم، وبين الخطاب العسكري الذي كان يصدر عنه خلال هذا الأسبوع. نتحدث هنا عن تناقض معرفي صارخ.
تزامنا مع مفاوضات إنهاء الحرب في الشرق الأوسط، أصدر أوامر بنشر مئات من جنود الحرس الوطني في مدن أمريكية، وصفها بأنها مدن “مزّقتها الحرب”، مثل بورتلاند وشيكاغو، في خطوة تكاد تثير صدامًا مفتوحًا مع المسؤولين الديمقراطيين الذين يديرون تلك المدن.
لم يكتفِ ترامب بتشبيه مدينة بورتلاند بمنطقة حرب، بل وصفها بأنها “محاصرة” وتعيش حالة “تمرد” ضد الحكومة الفيدرالية. وقد استخدم لغة مشابهة عند الحديث عن شيكاغو، قائلاً: “إنها أشبه بمنطقة حرب، وربما أسوأ من أي مدينة أخرى في العالم”.
إذا منعت المحاكم نشر القوات التي استدعاها، صرّح ترامب بأنه يفكر في استخدام قانون التمرد لاستدعاء المزيد منها. بدا الرئيس غاضبًا وغير متراجع، حتى بعد أن حذّره قاضٍ فيدرالي عيّنه بنفسه، من أن الولايات المتحدة يجب أن تُحكم وفقًا لـ”القانون الدستوري، لا الأحكام العرفية”.
هناك جوانب عديدة مثيرة للدهشة في قرار ترامب تصعيد المواجهة مع قطاعات واسعة في الداخل الأمريكي، ليس أقلها أن هذا التصعيد يستند بالكامل إلى كذبة مفادها أن هناك مستويات من الاضطرابات المدنية تُشبه حالة الحرب في المدن التي يستهدفها.
وقال محامو ولاية إلينوي أمام المحكمة يوم الخميس: “لا يوجد تمرد في إلينوي”. وبالمثل، صرّحت حاكمة ولاية أوريغون، الديمقراطية تينا كوتيك: “لا يوجد تمرد في بورتلاند، ولا تهديد للأمن القومي”.
لكن هل هذا مهم حقًا؟ خلص القاضي الفيدرالي في أوريغون إلى أن مبررات ترامب لنشر القوات “منفصلة عن الواقع”. ومع ذلك، أفادت صدرت تقارير الخميس من محكمة الاستئناف الفيدرالية التي ستقرر ما إذا كان حكم المحكمة الأدنى سيبقى ساريًا، أن القضاة هناك يميلون إلى نقض الحكم والسماح لترامب بخوض حربه الداخلية.
هذا هو الأمر الأكثر إثارة للدهشة. التهديدات التي تطارد ترامب، والتي يحشد القوات الأمريكية لمواجهتها، كما فعل في خطابه المرعب الذي استمر 72 دقيقة أمام القيادات العسكرية الأمريكية في قاعدة كوانتيكو قبل أسبوع، لا تأتي من قوى أجنبية، بل من “ساحات المعارك الداخلية الخطرة” التي يرى أنها يجب أن تُستخدم كـ”ميادين تدريب” للجيش الأمريكي.
وصف ترامب نفسه بأنه “رئيس السلام”، ساعيًا وراء الجوائز الدولية. لكن في الداخل الأمريكي، تستحوذ على تفكيره المعركة ضد ما يسميه “العدو الداخلي”، وقد أصبحت السمة الأبرز لفترته الرئاسية الثانية.
اسم الكاتبة: سوزان غلاسر
المصدر: نيويوركر