ترجمة وتحرير: نون بوست
يبلغ زهران ممداني من العمر ثلاثة وثلاثين عامًا، أي أنه شاب بما يكفي لأن يشارك في ماراثون مدينة نيويورك مرتين خلال السنوات الثلاث الماضية على الرغم من أنه لا يمارس الرياضة بانتظام. في عامه الثاني كعضو في الجمعية التشريعية لولاية نيويورك لسنة 2022،، شارك في الماراثون مرتديًا قميصًا كتب عليه: “إريك آدامز رفع إيجاري!”، وأنهى السباق في ست ساعات وأربع دقائق، ولم يعره معظم المتفرجين أي اهتمام. في السنة الماضية، وبعد أقل من شهر على إطلاق حملته لرئاسة بلدية نيويورك، عبر المدينة بسرعة 12:54 دقيقة لكل ميل، مرتديًا القميص ذاته مع إضافة عبارة: “زهران سيجمّده!” على ظهره، ومرة أخرى، لم يلفت الكثير من الأنظار. ويُصادف يوم الماراثون هذه السنة الأحد أي قبل يومين من انتخابات عمدة نيويورك، وتشير استطلاعات الرأي إلى تقدم ممداني بـ 15 نقطة على أقرب منافسيه، الحاكم السابق أندرو كومو. ويقول مساعدوه إنه لن يشارك في السباق هذه المرة، رغم أن ذلك لا يتعارض مع شخصيته؛ فغريزته تدفعه إلى التحرك في أنحاء المدينة، حيث يمكن للناس رؤيته.
كان التجول في نيويورك مع ممداني خلال الربيع والصيف الماضيين بمثابة مشاهدة ولادة نجم، وهي عملية مذهلة ومليئة بالحيوية على الأرض كما هي في السماء. في صباح يوم الانتخابات التمهيدية في يونيو/ حزيران، جاب ممداني المدينة بأقصى سرعة تسمح بها سيارة الأمن المرافقة له. فوت ركاب مبتهجون قطاراتهم في محطة مترو جاكسون هايتس فقط ليعرضوا عليه ملصقات “لقد صوتت”. وفوق الأرض، أرسل مساعدًا إلى مطعم هندي قريب ليجلب له الـ”بان”، وهو لفافة ورق التنبول، التي مضغها برفق، حريصًا على ألا ينسكب شيء منها على بدلته الداكنة وربطة عنقه التي أصبحت زيه السياسي المعتاد، حتى أن اثنين من المتطوعين في حملة كومو توقفوا بخجل لالتقاط صور سيلفي معه في إنوود.
في وقت يسيطر فيه الحماس القومي المتطرف على البلاد وتبدو نيويورك وكأنها وكر للمحسوبية السياسية الفاسدة – وافق العمدة إريك آدامز قبل ثمانية أشهر على الانضمام إلى برنامج الترحيل الجماعي الذي أطلقه الرئيس دونالد ترامب، في محاولة لإنقاذ نفسه من تهم فساد – يخوض ممداني حملة تقدم المدينة كمنارة للمهاجرين أمثاله. وقد شكّل فوزه في الانتخابات التمهيدية صدمة للمؤسسة السياسية، وبدأ أصحاب النفوذ يتقربون منه؛ فقد اتصل به باراك أوباما في اليوم التالي، وأعلنت حاكمة الولاية كاثي هوشول، وهي معتدلة شديدة الحذر، دعمها الشديد له بعد فترة تودد باردة استمرت طوال الصيف. أما القس آل شاربتون، الذي لم يعلن دعمه لممداني أو لأي مرشح آخر، فقد أخبرني مؤخرًا: “لقد حظي بأفضل انطلاقة في السياسة على مستوى المدينة من بين جميع المرشحين الذين رأيتهم، ربما في حياتي كلها”.
أصبح اسم زهران ممداني يحمل دلالة رمزية في بعض الأوساط الأيديولوجية – اختزالًا لكل ما هو خاطئ في نيويورك، والتي بدورها تُختزل كرمز لكل ما هو خاطئ في أمريكا. فقد وصفه الرئيس دونالد ترامب على منصة “تروث سوشال” بأنه “مجنون شيوعي بنسبة 100 بالمائة”. أما جيف بلاو، الرئيس التنفيذي لشركة “ريليتد كومبانيز” العملاقة في مجال العقارات، وزوجته المستثمرة ليزا بلاو، فقد دعيا مؤخرًا إلى اجتماع طارئ على الإفطار يضم نخبة الأثرياء. وجاء في الدعوة: “إذا فشلنا في التعبئة، فإن العاصمة المالية للعالم مهددة بأن تُسلَّم إلى اشتراكي في نوفمبر/ تشرين الأول المقبل”. وقال أحد أعضاء جماعات الضغط العقارية إنه لا يعرف أحدًا غادر المدينة بسبب ممداني، لكنه يعرف “عدة أشخاص قد يكتفون بشقة مؤقتة”. أما جون كاتسيماتيديس، قطب محلات التجزئة والمقرّب من ترامب، فقد علّق قائلًا: “كان لفيدل كاسترو نفس الابتسامة”.

امتنع السيناتور تشاك شومر والنائب حكيم جيفريز إعلان دعمهم لممداني، ويُقال إن ذلك يعود جزئيًا إلى انتقاداته لإسرائيل. وفي الوقت ذاته، يتزاحم معظم أفراد الطبقة السياسية في المدينة بحثًا عن موطئ قدم حوله. فقد توسطت كاثرين وايلد، الرئيسة القديمة لتحالف “شراكة من أجل مدينة نيويورك” – وهي جماعة ضغط تمثل قادة الأعمال في المدينة – لعقد اجتماعات بين ممداني وأعضاء تحالفها خلال الصيف؛ ورغم استمرار تشكك الكثيرين، إلا أن بعضهم خرج بانطباع جديد غريب يحمل احترامًا لهذا الشاب. وقالت وايلد: “بعد أن أجريت الاجتماعات مع نحو 300 مدير تنفيذي، سألني أحدهم: كيف تقيّمين ردود أفعالهم على مقياس من واحد إلى عشرة؟ فأجبت: من واحد إلى عشرة”.
أما باتريك غاسبارد، المسؤول السابق في إدارة أوباما والرئيس السابق لمركز التقدم الأمريكي، فقد كان يقدم النصح لممداني بهدوء منذ الخريف الماضي. ويصفه بأنه نموذج أولي لجيل جديد من السياسيين الأمريكيين الذين تشكلوا في قلب حركة الدفاع عن حقوق الفلسطينيين. وقال غاسبارد: “إنه أوµل من وصل إلى الشاطئ، لكن يمكنك رؤية المزيد من السفن القادمة خلف الأفق”.
يتمتع ممداني بحضور واثق وسرعة بديهة على المستوى الشخصي، كما يظهر في مقاطع حملته الانتخابية التي تنتشر بشكل واسع. كما أنه تكتيكي وذكي وحذر في انتقاء كلماته. تعلّم ممداني كيف يعود باستمرار إلى أجندته الاقتصادية من بيرني ساندرز، الذي ألهمه في حملته الرئاسية سنة 2016 لاعتناق السياسة الاشتراكية، ونادرًا ما يتحدث لأكثر من بضع دقائق دون أن يعيد التركيز على وعوده بتجميد الإيجارات في الشقق ذات الإيجار المنظم، وجعل الحافلات مجانية وسريعة، وتوفير رعاية شاملة للأطفال بدءًا من عمر ستة أسابيع. لكن على عكس ساندرز، الذي يكره الحديث عن نفسه – أخبرني السيناتور في سبتمبر/ أيلول: “زهران لا يحتاج إلى نصائح سياسية مني” – وجد ممداني قوة في سرد قصته الشخصية.
التقيت ممداني شخصيًا لأول مرة في أواخر مارس/ أذار، في مقهى “قهوة هاوس” اليمني في حي مورنينغسايد هايتس. كان صباح اليوم التالي لانتهاء شهر رمضان، وكانت استطلاعات الرأي في الانتخابات التمهيدية تُظهره في المرتبة الثانية، لكن بفارق كبير خلف كومو. طلب إبريقًا من شاي عدني لنتشاركه، وإذا كان المحاسب قد تعرف عليه، فإنه لم يُظهر ذلك على وجهه. في اليوم السابق، كان ممداني في باي ريدج، وكينسينغتون، وجامايكا – وهي مناطق تضم مجتمعات مسلمة كبيرة في بروكلين وكوينز – لأداء صلاة العيد؛ حيث خاطب نحو خمسة وعشرين ألف شخص. وقد عبّر عن دهشته المهذبة من تجاهل الصحافة لتلك الأرقام. وقال لي: “هناك، أشعر بثقة حقيقية”.
يتميز ممداني بأسلوبه الحريص والحيوي في الكلام الذي يكاد يقترب من أسلوب محاضرات “تيد”؛ حيث يُكثر من الإيماءات، عارضًا خواتمه الفضية السميكة، ويحب الاستشهاد بأقوال نيلسون مانديلا، وفرانكلين روزفلت، وتوني موريسون، وأرسطو. وقد تحدث بدقة بينما كان يحتسي شايه، ليس فقط عن ما ينوي فعله كعمدة للمدينة، بل أيضًا عن الناخبين الذين سيقودونه إلى الفوز – المسلمون، والجنوب آسيويون، والمستأجرون، والشباب، والديمقراطيون المعارضون لحرب إسرائيل على غزة – وعندما سُئل عن ردود الفعل المتوقعة تجاه مقترحاته المكلفة، اكتفى بهز كتفيه وقال: “أنا لا أخاف من أفكاري”. وعندما أشرت إلى صعوبة ما يأمل في تحقيقه، ابتسم وقال: “أعتقد أننا حاولنا ألا نخسر لفترة طويلة جدًا، بدلاً من محاولة اكتشاف كيف ننتصر”.
بعد نحو شهر من فوزه في الانتخابات التمهيدية، استيقظ ممداني في الساعة الثالثة صباحًا في كمبالا، أوغندا، على مكالمة عاجلة من موريس كاتس، وهو أحد أقرب مساعديه. كان المساء قد حلّ في نيويورك، ووقعت عملية إطلاق نار جماعي في مبنى مكاتب بشارع بارك. كان ممداني في أوغندا للاحتفال المتأخر بزفافه، وهي رحلة تمنحه وزوجته، راما دواجي، فرصة لتوديع الحياة الخاصة. (كان الزوجان قد تزوجا سرًا في مكتب كاتب المدينة في فبراير/ شباط). لقي أربعة ضحايا ومُطلق النار حتفهم. وبدأت منشورات أولية غير موثقة على وسائل التواصل الاجتماعي تشير إلى أن أحدهم صرخ “الحرية لفلسطين!” قرب موقع الحادث، وكان أحد الضحايا ضابط شرطة خارج الخدمة من شرطة نيويورك، وسرعان ما وُصفت الحادثة بأنها اختبار لقيادة ممداني. وبذلك يبدو أن الحياة الخاصة انتهت.
قد لا يغفر سكان نيويورك لعمدتهم أن يكون خارج المدينة في وقت غير مناسب. (في سنة 2011، كاد مايكل بلومبرغ أن يفقد منصبه عندما شاع أنه كان في برمودا أثناء عاصفة ثلجية ضربت نيويورك). استقل ممداني أول رحلة مغادرة من عنتيبي، لكن الرحلة استغرقت 22 ساعة. وبينما كان في الجو، انقضّ عليه خصومه. بدأ كومو، الذي يخوض الانتخابات الآن كمرشح مستقل، بالاتصال بالصحفيين لمهاجمة مواقف ممداني بشأن الشرطة. أما صحيفة “نيويورك تايمز”، التي أبدت شكوكًا علنية في تغطيتها الإخبارية ومقالات الرأي التي تنشرها حول أهلية ممداني لمنصب العمدة، فقد تكهّنت بأن الحادثة “قد تدفع البعض إلى مزيد من التدقيق في شخصه”. أما لورا لومر، حليفة ترامب والمشهورة بمواقفها اليمينية المتطرفة، فقد اقترحت أن تمنع وزارة الخارجية ممداني من دخول البلاد مجددًا – وهو سيناريو أخذه مساعدوه على محمل الجد لدرجة أنهم استشاروا محامين بشأنه.
لكن عندما وصل مامداني إلى مطار جون كينيدي في الساعة 7 صباحًا، مرّ بسرعة عبر الجمارك. فقد أكدت شرطة نيويورك أن مطلق النار في شارع بارك لم يكن دافعه أي مشاعر مؤيدة للفلسطينيين؛ بل كان عاملًا في كازينو في لاس فيغاس أصيب بإصابات في الدماغ أثناء لعب كرة القدم في المدرسة الثانوية، وكان هدفه مقر الاتحاد الوطني لكرة القدم الأمريكية (NFL) في نفس المبنى.
نُقل ممداني من المطار مباشرة إلى سيارة دفع رباعي كانت في انتظاره، وتوجه مباشرة إلى منزل الضابط المتوفى في شرطة نيويورك، ديدار الإسلام، الذي كان مهاجرًا مسلمًا من بنغلاديش يعمل بوظيفة إضافية كحارس أمن في مبنى المكاتب للمساعدة في سداد قرض الرهن العقاري لعائلته، وكان من سكان نيويورك الذين أدرك مامداني أنه غالبًا ما يتم تجاهلهم في سياسة المدينة. استقبل مامداني والدي الضابط وأرملته الحامل وأطفاله وأقاربه الحزينين في منزل إسلام في حي برونكس، بكى معهم لبضع دقائق، ثم قدمت العائلة للمرشح وجبة الإفطار بكرم الضيافة البنغلاديشي.
في صباح جنازة الإسلام، أُغلقت شوارع حي باركشيستر — وهو حي يضم صفوفًا من المنازل المبنية بالطوب ومتاجر كبيرة — من الجانبين على طول الطريق السريع. وقف آلاف الضباط بصمت أمام مسجد باركشيستر الجامع بينما أدى مئات الرجال والفتيان الصلاة على سجاد مفروش في الشوارع والأرصفة، وكانت المروحيات تحلق على ارتفاع منخفض فوق المكان. لم يمض وقت طويل منذ أن كانت شرطة نيويورك تتعامل مع العديد من المجتمعات المسلمة وكأنها جبهات في حرب على الإرهاب، ومع ذلك، ينضم المزيد من المسلمين إلى الشرطة كل عام، ولأسباب مشابهة لتلك التي دفعت الإيرلنديين للانضمام إليها قبل 150 عامًا — فشرطة نيويورك تُعد من بين المؤسسات الكبرى القليلة التي يمكن للمهاجرين من الطبقة العاملة أن يأملوا تحقيق التقدم المهني من خلالها.
وحسب تقاليد القسم، رُقي الضابط الإسلام إلى رتبة محقق من الدرجة الأولى خلال جنازته. داخل المسجد، جلس العمدة إريك آدامز، والحاكمة كاثي هوشول، ومسؤولون آخرون مدعوون على كراسي قريبة من المقدمة، مرتدين بدلات داكنة. أما ممداني، فجلس على الجانب الآخر من القاعة، على الأرض بين المعزين. وخلال حملته الانتخابية التمهيدية، زار ممداني المسجد ثلاث مرات، ولا يزال يزور أسرة الإسلام منذ الجنازة. وأخبرني ممداني: “كان هو من يعتني بلحية والده ويشذّبها”.
يعد الحديث عن الشرطة موضوعًا حساسًا بالنسبة لممداني، الذي سيكون مسؤولًا عن إدارة قسم الشرطة إذا انتُخب، رغم أنه كان سابقًا من مؤيدي تقليص تمويله. ففي يونيو/ حزيران 2020، في ذروة احتجاجات جورج فلويد، غرّد قائلًا: “لسنا بحاجة إلى تحقيق لنعرف أن شرطة نيويورك عنصرية، ومعادية للمثليين، وتشكل تهديدًا كبيرًا للسلامة العامة”. وكما هو الحال مع تعليقاته حول إسرائيل، فقد تم انتقاد تصريحاته السابقة عن الشرطة بشكل مهووس من قبل منتقديه — والفرق الجوهري هنا هو أن إدارة الشرطة تُعد جزءًا يوميًا من مهام عمدة المدينة.
لقد تشكّل إرث كل عمدة في نيويورك مؤخرًا من خلال علاقته بشرطة المدينة. فنجاحات بلومبرغ في إدارة المدينة ستظل دائمًا موضع مقارنة مع دعمه لسياسة “التوقيف والتفتيش”. أما بيل دي بلاسيو، الذي كان في منصبه خلال بدايات حركة “حياة السود مهمة”، فلن ينسى أبدًا كيف أدار مئات الضباط ظهورهم له في جنازتي شرطيين قُتلا أثناء أداء الواجب. إريك آدامز، الذي بدأ مسيرته كشرطي في قطاع النقل، تضرر جزئيًا بسبب علاقاته مع أصدقاء قدامى فاسدين من داخل القسم.
خلال حملته الانتخابية، تخلّى ممداني عن لغة “تقليص التمويل”، وتعهد مؤخرًا بالعمل مع شرطة نيويورك إذا انتُخب. وأخبرني إنه بات يؤمن بأن الشرطة تُعد “منفعة عامة”، بوصفها “جزءًا أساسيًا من كيفية توفير السلامة العامة”. لكنه واجه صعوبة في شرح سبب تغيّر موقفه، بخلاف كونه مرشحًا لمنصب رئيس البلدية.
من بين أكثر الشعارات الشعرية التي يرددها زهران ممداني في حملته الانتخابية يبرز مفهوم “التميّز العام” – وهي فكرة أن الاشتراكيين ليسوا مضطرين للتنازل عن جودة الحياة. وخلال الأشهر الماضية، حاول ممداني إعادة صياغة شكوكه تجاه جهاز الشرطة باعتبارها قضية تتعلق بالموارد البشرية، وعائقًا أمام التميّز: إذ يُطلب من عناصر الشرطة التعامل مع حالات معقدة تتجاوز مهاراتهم، مثل التشرد والاضطرابات النفسية. وهو يأمل نقل هذه المهام إلى هيئة جديدة تحت اسم “دائرة السلامة المجتمعية”، رغم أنه يعترف بأن بعض التفاصيل “لا تزال قيد الدراسة”.
قدّم ممداني اعتذارًا جزئيًا عن تغريداته السابقة بشأن شرطة نيويورك في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” في سبتمبر/ أيلول، لكنه رفض فكرة أنه غيّر مواقفه. وقال: “المبادئ لا تزال كما هي، ولكن هناك دروس تتعلمها على طول الطريق”.
يطرح منتقدوه تساؤلات حول مدى قدرة شخص في عمره وخبرته على إدارة أكبر مدينة في البلاد، بميزانية تبلغ 116 مليار دولار، و300 ألف موظف، وقسم شرطة يفوق حجم الجيش البلجيكي. لأكثر من قرن من الزمان، تساءل الناس عما إذا كانت المدينة غير قابلة للحكم؛ ومع استثناءات نادرة مثل فيوريلو لا غوارديا الذي استفاد من أموال “الصفقة الجديدة”، فإن كل زعيم مثالي انتُخب عمدة للمدينة خرج من قاعة البلدية متضررًا بطريقة ما. كما كتب الصحفي الاستقصائي لينكولن ستيفنز سنة 1903: “العمدة الجيد يتضح أنه ضعيف أو أحمق أو ليس جيدًا كما ظن الناس… أو يصيب الناس بالاشمئزاز”. وقال أحد الموظفين القدامى في بلدية المدينة مؤخرًا: “أنت تتخذ دائمًا قرارات سيئة تعرف أنها سيئة. يُعرض عليك خياران سيئان، وعليك أن تختار أحدهما، وهذا هو يومك”.
إذا فاز ممداني فقد تستمر شرطة نيويورك في تفكيك مخيمات المشردين وإبعاد المتظاهرين الذين يغلقون الجسور أو الطرق بالقوة؛ فهو لم يستبعد هذه الإجراءات بعد. وقال أحد مساعديه: “لن تسعى إدارته إلى تجريم الاحتجاج السلمي أو الفقر”. وفي منتدى حديث حول السلامة العامة نظّمته مجلة “فايتال سيتي”، سُئِل ممداني عن احتجاز الشرطة القسري للمصابين بأمراض نفسية، فأجاب: “إنه خيار أخير. إذا لم تنجح أي وسيلة أخرى، فهو موجود”.
ولد ممداني في كمبالا، أوغندا، سنة 1991 – وهو العام ذاته الذي أطلقت فيه والدته، المخرجة السينمائية ميرا ناير، فيلم “ميسيسيبي ماسالا”، الذي تناول قصة حب بين لاجئة هندية أوغندية (ساريتا شودري) وعامل تنظيف سجاد أمريكي من أصول أفريقية (دينزل واشنطن) في بلدة صغيرة بولاية ميسيسيبي. وخلال بحثها عن موقع لتصوير مشاهد طفولة بطلتها في أوغندا، وجدت ناير منزلًا مرتفعًا يطل على بحيرة فيكتوريا، ظهر في الفيلم، ثم اشترته مع زوجها محمود ممداني. قضى زهران أول خمس سنوات من حياته هناك، يلعب في الحدائق الغنّاء تحت أشجار الجاكرندا. وفي ملف تعريفي عن ناير يعود لسنة 2002، كتب جون لار أن ابنها “الثرثار ذو العينين الواسعتين” كان يُعرف بعدة ألقاب، منها “زي”، و”زورو”، و”فادوس”، و”نون ستوب ممداني”. (ولا يزال فريقه اليوم يناديه بـ”زي”، وبعضهم بدأ يلقبه مازحًا بـ”سيدي”).
تعرفت ناير على محمود أثناء بحثها لفيلم “ميسيسيبي ماسالا”، وهي ابنة مسؤول هندي رفيع صارم، درست في جامعة هارفارد، ولفتت الأنظار في الثلاثينيات من عمرها بأفلام تناولت الحياة على هامش المجتمع الهندي: بين راقصات الكباريه، وأطفال الشوارع، والمهاجرين الزائرين. أما محمود، فقد وُلد في بومباي سنة 1946، ونشأ في أوغندا، ضمن الشتات الهندي الذي نشأ في شرق أفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية البريطانية.
في سنة 1962، وهو عام استقلال أوغندا، حصل محمود على واحدة من بين 23 منحة دراسية للدراسة في أمريكا، خُصصت لألمع طلاب البلاد. (وكان والد باراك أوباما قد جاء للدراسة في الولايات المتحدة قبل ذلك بثلاث سنوات، ضمن برنامج مشابه للطلاب الكينيين). وبعد إنهاء دراسته، عاد محمود إلى وطنه، لكنه نُفي لاحقًا في سنة 1972 إثر قرار عيدي أمين بطرد نحو 60 ألف آسيوي من البلاد. وقد أصبح هذا الحدث محورًا لكتابات محمود حول آلام ما بعد الاستعمار، بينما اتخذته ناير خلفية لقصة حبها السينمائية. وقالت ناير لمساعدتها سوني تارا بورفالا يوم التخطيط للقاء محمود: “إنه نوع من اليساريين”.
وفي سنة 1996، نشر محمود عمله الأكاديمي الأبرز “المواطن والتابع: أفريقيا المعاصرة وإرث الاستعمار المتأخر“، الذي تناول استمرار البنى الاستعمارية في الدول الأفريقية المستقلة. وقد أهدى الكتاب إلى ناير وزهران، وكتب عنه: “يأخذنا يوميًا في رحلة اكتشافه للحياة”. وبعد ثلاث سنوات، عرضت عليه جامعة كولومبيا وظيفة أستاذ دائم، وانتقلت الأسرة إلى نيويورك، إلى شقة جامعية في حي مورنينغسايد هايتس؛ حيث كانوا يستضيفون إدوارد ومريم سعيد، وراشد ومونا الخالدي على العشاء. وقال محمود في رسالة إلكترونية: “بالنسبة لزهران، كانوا ‘أعمامًا’ و’عمّات'”.
في خريف سنة 1999، التحق زهران بمدرسة “بانك ستريت” الخاصة للأطفال. شعر بأنه مستهدف في عامه الأول؛ حيث يتذكر قائلًا: “كان يُقال لي مرارًا وتكرارًا إن لغتي الإنجليزية فصيحة جدًا”. لكنه سرعان ما اندمج في طفولة نموذجية في الجانب الغربي الأعلى من مانهاتن: أكل خبز البيغل من “أبسولوت”، ولعب كرة القدم في حديقة ريفرسايد، واستمع إلى جاي-زي وفرقة “إيفل 65” على جهاز “ووكمان” في طريقه إلى المدرسة. وفي سنة 2004، أخذ محمود إجازة أكاديمية، وعادت الأسرة إلى كمبالا لمدة سنة. وفي أحد الأيام، زار محمود مدرسة زهران ليرى كيف يتأقلم. فقال له المعلم: “إنه بخير، لكنني لا أفهمه دائمًا”. فقد طلب المدير من المعلم أن يطلب من جميع الطلاب الهنود رفع أيديهم. أبقى زهران يده منخفضة، وعندما ألح عليه، احتج قائلاً: “أنا لست هنديًا! أنا أوغندي!”.

في صباح أحد أيام السبت من هذا الصيف، التقيت بممداني خارج مدرسة برونكس الثانوية للعلوم، المدرسة الثانوية التي تخرّج منها، للتجول مع أحد معلميه القدامى المفضلين، مارك كاغان، الذي يصادف أنه شقيق قاضية المحكمة العليا الأمريكية إيلينا كاغان، وهو مؤلف كتاب استعد السيطرة – وهو سرد مباشر لسنواته كمنظم راديكالي في نقابة النقل بالمدينة – وقد درّس مادة الدراسات الاجتماعية في المدرسة لمدة عشر سنوات، وأثار إعجابًا شديدًا لدى طلابه، بعضهم (ومنهم ممداني) أطلقوا على أنفسهم لقب “كاغانيّون”.
تحدث كاغان في فصوله عن كيفية تشكيل العرق والجنس والطبقة للأحداث العالمية. وقال، وهو رجل ذو نظارة طبية ولحية رمادية في أواخر الستينيات من عمره، بينما كنا نعبر فناء المدرسة الغارق: “لقد تجاوزنا نظرية الرجل العظيم في التاريخ”. عندها، نظر إليّ ممداني وضحك مازحًا، وقال وهو يومئ برأسه نحو كاغان: “هناك واحد فقط”.
جلس ممداني على درجات سلم ونظر إلى كاغان، وهو يشعر بالارتياح لعودته إلى ديناميكية مألوفة ومريحة. استعاد كاغان ذكرى اجتماع أولياء الأمور مع محمود خلال السنة الأولى لزهران في المدرسة الثانوية، قائلاً: “لم أكن أعرف من هو والدك، ظننته فقط أحد أولئك الآباء الطموحين”، وأضاف: “كان يتذمر بشأن درجتك”. توتر ممداني قائلاً: “هو لم يكن يتذمر قائلاً ‘لماذا لا تعطي ابني درجات أفضل؟’، بل كان يقول: ‘زهران يجب أن يكون قادراً على تقديم أداء أفضل’. فقلت له: ‘لا تهتم بالدرجات، لأن عقل ابنك يعمل بكفاءة’. فخرج من الغرفة بهدوء”.
يعزو ممداني الفضل لكاغان في تعليمه كيفية جذب انتباه الجمهور. يتذكر بداية إحدى الحصص الدراسية في فصل الربيع من سنته الأخيرة، حين كانت الأجواء مرحة والانتباه مشتتاً: “الجميع يتحدثون ويقضون وقتًا ممتعًا، وفجأة يُسمع صوت منجل يضرب المكتب. كان كاغان قد شطر ساقاً من قصب السكر إلى نصفين”. قال ممداني: “ثم قال: ‘قصب السكر كان من أكثر المحاصيل قيمة في العالم الجديد'”، ووزع كاغان شرائح من القصب على الطلاب حتى يتمكنوا من لمسها وتذوقها.
كانت أجواء مدرسة برونكس ساينس – وهي مدرسة عامة انتقائية تضم نحو ثلاثة آلاف طالب، كثير منهم من أبناء مهاجرين من الطبقة العاملة – مختلفة تمامًا عن البيئة الفكرية المترفة التي نشأ فيها ممداني. ويتذكر رؤيته لطلاب من ذوي البشرة الملونة يعزفون في فرقة جاز خلال جولته في المدرسة. وقال لي ممداني: “كنا واعين لمسألة العِرق بشكل شبه ساخر. وكانت هناك مباريات ألتميت فريسبي بين فريقين يُدعيان ‘أمة الهجرة’ و’الأمة البيضاء’. دون أن يضمروا أي نية سيئة. ببساطة، هكذا كانت الفرق”.
في حلقة من بودكاست “إنكَمْبَسْت” سنة 2016، وهو سجل شفهي لتاريخ مدرسة برونكس ساينس، مازح ممداني – وكان حينها في الرابعة والعشرين من عمره – بشأن معلم طارده في الممرات لأنه سرق نماذج تصاريح الخروج من الفصل. قال: “ضع في اعتبارك أن هذا الرجل خريج قوات الدفاع الإسرائيلية. لقد لاحق شباناً سُمراً لفترة طويلة”.
في سنة 2008، لعب ممداني ضمن فريق الكريكيت المدرسي، الذي كان يتكوّن في الغالب من طلاب من جنوب آسيا. كان ذلك أول عام تُشرف فيه وزارة التعليم على دوري للكريكيت، وكانت معظم الفرق الأخرى من منطقة كوينز، حيث تنتشر مجتمعات المهاجرين من الهند وباكستان وبنغلاديش وغيرها من دول جنوب آسيا. قال لي: “تغيّرت دوائري الاجتماعية. وبحلول وقت التخرج، كان أقرب أصدقائي يعيشون في باث بيتش، وغلين أوكس”.
التحق ممداني بكلية بودوين، وهي مؤسسة للفنون الحرة تقع في برونزويك، ولاية مين، وتتميز بطابعها الريفي. وقد رفضت جامعة كولومبيا، حيث يعمل والده أستاذاً، طلب التحاقه. ورغم أن مجتمع بودوين كان يتسم بأنه ينتمي للجنس الأبيض أكثر ويميل إلى النمط الأرستقراطي مقارنة بمدرسة برونكس ساينس، إلا أن ممداني وجد طريقه فيه. قالت الكاتبة إيريكا بيري، وهي صديقة مقرّبة من أيام الجامعة: “المرور معه عبر قاعة الطعام كان يستغرق وقتًا أطول من المعتاد، لأنه كان يتوقف عند طاولات عشوائية ليصافح الناس”. وفي مقالاته الحوارية بصحيفة الجامعة “ذا بودوين أوريينت”، كان ممداني يعبّر بانتظام عن آرائه في قضايا الساعة. وكتب عن العلاقة بين الرياضيين وغير الرياضيين: “أقترح… أن نبدأ عملية اندماج”. وكتب عن آداب الرقص: “من الرقص المتقارب إلى وضع اليد أو الاقتراب للتقبيل، لا شيء يبرر التجاوز دون موافقة واضحة”. وكتب عن “الاختيار المريع لأغاني التحفيز” في صالة الألعاب الرياضية: “كيف يُتوقع مني أن أرفع أوزاناً خمسة باوندات بينما أسمع موسيقى إنيا في الخلفية؟”.
مع مرور الوقت، بدأت مقالاته تتجاوز الحياة الجامعية. ففي سنة 2013، كتب عن قضائه الصيف في دراسة اللغة العربية بالقاهرة، أثناء الإطاحة بمحمد مرسي على يد الجيش المصري: “وصلت إلى مجتمعٍ كان الامتياز فيه بلون مختلف. اختفت صورة الذكر الأبيض المسيحي التي اعتدت عليها، وحلّ محلها مشهد أكثر قتامةً وألفة، مشهدٌ انتميت إليه لأول مرة: بشرة سمراء وشعر أسود واسم مسلم”. وكان محور المقال قرار ممداني بإطلاق لحيته، الذي بدأ كـ”إشارة رمزية رافضة” للصورة النمطية للإرهابي الملتحي في أمريكا، لكنه اكتسب معنى مختلفاً أثناء وجوده في الخارج: “قال لى كثير من أصدقائي المصريين، في البداية مازحين ثم بجدية، إنني أبدو إخوانيًا، أي عضو في جماعة الإخوان المسلمين”.
تخصص ممداني في الدراسات الأفريقية، وكتب أطروحته حول ما بعد الاستعمار من خلال نظريات فرانز فانون وفيلسوف عصر التنوير جان جاك روسو. تتذكر بيري كيف كان يحشد الطلاب في قاعة الطعام للحديث عن قضية إسرائيل وفلسطين، وهو مشهد غير مألوف في كلية بودوين، التي تُعرف بكونها مؤسسة غير مسيّسة إلى حد كبير. قال ماثيو مايلز غودريتش، الذي كان يصغر ممداني بسنة دراسية وأصبح لاحقاً من مؤسسي حركة “صنرايز”: “كان لدينا أستاذ يحب أن يقول إن بودوين كانت مرتعًا للراحة الاجتماعية”.
في سنته الثالثة، شارك ممداني في تأسيس فرع من منظمة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، والتي لم ينضم إليها سوى عدد قليل من زملائه. وفي السنة التالية، تبادل تصريحات علنية مع رئيس الكلية، باري ميلز، بشأن رفض الأخير الدعوة لمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. وصف ميلز تلك الدعوة بأنها انتهاك للحرية الأكاديمية، بينما ردّ ممداني ومؤلف مشارك بأن ميلز “يتجاهل كيف أن المقاطعة كانت في الواقع محفزاً لنقاش أوسع حول انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان”.
كانت قضية الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين مسألة أخلاقية وسياسية محورية بالنسبة لممداني. ويقول إن رؤيته تبلورت خلال عامين قضتهما أسرته في جنوب أفريقيا قبل الانتقال إلى نيويورك. وقال لي ممداني: “عندما سمعت كلمات مانديلا عن ترابط النضال من أجل الحرية مع النضال من أجل حقوق الفلسطينيين، ثم جئت إلى هنا ورأيت كيف يُناقش هذا الموضوع بطريقة مختلفة تماماً، شعرت بوجود استثناء صارخ لما يُفترض أنه مبادئ عالمية، حين يتعلق الأمر بتطبيقها على الفلسطينيين”.
في رسالة إلكترونية، استعاد محمود نقاشاته مع زملائه في كيب تاون حول “ما إذا كانت بعض الاستراتيجيات التي استُخدمت لمناهضة الفصل العنصري، مثل المقاطعة العالمية لجنوب أفريقيا، تنطبق على النضال من أجل إنهاء الاحتلال أو تفكيك الصهيونية في إسرائيل”. وأضاف: “كان زهران مستمعاً… وأشك في أنه خرج من تلك النقاشات دون أن يتأثر بها”.
قبل أسبوعين من الانتخابات التمهيدية، وُجّهت دعوة إلى ممداني للظهور في برنامج “ذا ليت شو مع ستيفن كولبير” إلى جانب براد لاندر، المراقب المالي لمدينة نيويورك، والذي كان يحتل المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي آنذاك. وبالاستفادة من نظام التصويت التفضيلي المعتمد في المدينة، كان ممداني ولاندر قد تبادلا التأييد مؤخراً كجزء من استراتيجية مناهضة لكومو، دفعت بها “حزب العائلات العاملة” وعدد من المجموعات التقدمية الأخرى. ولم يكن من المتوقّع أن يتضمن ظهورهما تأييداً صريحاً من مقدم البرنامج، لكنه كان سيُبث في الليلة السابقة للانتخابات. وكان كومو يعوّل على نسبة مشاركة مرتفعة في الأحياء الثرية التي يتابع سكانها برنامج كولبير.
قبل أيام قليلة من التسجيل، عقد منتجو البرنامج مكالمة تحضيرية مع المرشحين ومستشاريهم، تضمنت أسئلة نموذجية حول مواضيع سياسية عامة، مثل معنى الاشتراكية الديمقراطية. لكن قبيل صعود المرشحين إلى المسرح، دخل المنتجون إلى غرفة الانتظار الخلفية وأبلغوهم برغبتهم في مراجعة بعض الأسئلة الإضافية. وفي وقت سابق من ذلك اليوم، كان عدد من الشخصيات اليهودية البارزة، من بينهم إيليشاع ويسل، نجل إيلي ويسل، قد أرسلوا رسالة إلى كولبير يطالبونه فيها باستجواب ممداني بشأن آرائه حول إسرائيل. وحسب أشخاص كانوا حاضرين في الغرفة، اقترح أحد المنتجين فقرة بعنوان “إبهام لأعلى أم لأسفل”، تتضمن أسئلة مثل: “إبهام لأعلى أم لأسفل: حماس؟ إبهام لأعلى أم لأسفل: دولة فلسطينية؟”.
ارتسمت على وجه ممداني علامات الذهول والصدمة حيث أخبرني: “لم أصدق ما كان يحدث. كيف يمكن اختزال إبادة جماعية إلى فقرة ترفيهية في برنامج ليلي؟” لقد كان مساعدوه في حالة غضب شديد، حيث قالت زارا رحيم، كبيرة مستشاري ممداني، لأحد المنتجين: “لدينا أول مرشح مسلم لمنصب عمدة نيويورك في التاريخ، ولا ترون أنه من المهم طرح سؤال عليه حول هذه القضية؟” ولم ترد شبكة سي بي إس على طلب التعليق.
في نهاية المطاف، لم تُنفذ الفقرة المقترحة، لكن كولبير طرح على ممداني سؤالاً مباشراً: هل تعتقد أن لإسرائيل الحق في الوجود؟ فأجاب ممداني: “نعم، مثلها مثل جميع الدول، أؤمن بأن لها الحق في الوجود، ولكن عليها أيضاً مسؤولية الالتزام بالقانون الدولي”.
تكرّر طرح هذا السؤال على ممداني خلال الحملة الانتخابية إلى درجة جعلته يشعر بأنه مستهدف. وقال لي أحد القيادات المسلمة البارزة في المدينة، ممن ناقشوا الأمر مع ممداني: “إن الطريقة التي يُطرح بها السؤال ويُعاد تكراره تعبر عن الإسلاموفوبيا”. وكان كومو، الذي انضم السنة الماضية إلى فريق الدفاع القانوني عن بنيامين نتنياهو أمام المحكمة الجنائية الدولية في إطار عودته إلى الحياة السياسية، يأمل تحويل انتقادات ممداني لإسرائيل إلى القضية المحورية في الانتخابات. وصرّح الحاكم السابق فور دخوله السباق: “الأمر بسيط جداً: معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية”. وقد أعدّت لجنة دعم انتخابية مؤيدة لكومو منشوراً دعائياً زائفاً يزعم أن ممداني “يرفض الحقوق اليهودية”، متضمناً صورة معدّلة بالذكاء الاصطناعي لتبدو لحيته أكثر كثافة وأغمق.
خلال الانتخابات التمهيدية، حافظ ممداني على موقفه الثابت في دعم حقوق الفلسطينيين، وإن كان قد صقل اللغة التي يستخدمها عند الحديث عن إسرائيل. فبينما كان في السابق يطلق النكات حول الجيش الإسرائيلي، تبنّى هذا العام نبرة أكثر جدية، مشدداً على قيم الإنسانية المشتركة. وكان غالباً ما يستشهد بمواقف شخصيات إسرائيلية بارزة، مثل مؤرخ الهولوكوست عاموس غولدبرغ، الذي وصف تدمير إسرائيل لغزة بأنه إبادة جماعية، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت، الذي أدان الحرب واعتبرها قاسية وإجرامية.
يركّز ممداني في خطابه على انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، وهي الأساس الذي يستند إليه في تعهّده باعتقال نتنياهو، احتراماً لمذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، في حال زار نيويورك. (ويُعد هذا التعهّد، من وجهة نظر البعض، أكثر سياساته صرامة في مجال مكافحة الجريمة).
يؤكد ممداني أن سكان نيويورك ليسوا مضطرين لتبنّي وجهات نظره في السياسة الخارجية كي يروا فيه مرشحاً جيداً لمنصب العمدة. وعندما يُسأل عن كيفية كسب أصوات الناخبين الصهاينة، يستشهد بعبارة شهيرة لإد كوتش في كثير من الأحيان: “إذا كنت تتفق معي في تسع قضايا من أصل اثنتي عشرة، فصوّت لي. وإذا كنت تتفق معي فيها كلها، فراجع طبيباً نفسياً”.
كانت إحدى المرات القليلة التي تعثّر فيها ممداني في يونيو/ حزيران، حين ظهر في بودكاست تابع لمنصة “ذا بولوارك” ذات التوجه المحافظ، حيث رفض ممداني التنديد بعبارة “عولمة الانتفاضة”، وهي عبارة يراها كثير من مؤيدي إسرائيل تحريضاً على العنف ضد اليهود. وقال ممداني موضحاً: “إنها كلمة تعني النضال”، في إشارة إلى “الانتفاضة”. وبعد فوزه في الانتخابات التمهيدية، محققاً نتائج جيدة بين الناخبين اليهود، خصوصاً من هم دون الأربعين، صرّح بأنه سيحثّ مؤيديه على تجنّب استخدام هذا الشعار.
كان كثير من منتقدي ممداني يعتقدون أن موقفه من إسرائيل سيقضي على فرص نجاح حملته، لكن ممداني وحلفاءه الأوائل، الذين تابعوا تراجع شعبية جو بايدن وكامالا هاريس بسبب رفضهما معارضة تدمير حكومة نتنياهو لغزة، كانوا واثقين من أن موقفه من الحرب سيكون نقطة قوة. وفي فبراير/ شباط، حين كان ممداني لا يزال غير معروف لدى كثير من الناخبين، نشر ألفارو لوبيز، القيادي في منظمة “الاشتراكيون الديمقراطيون في أمريكا” فرع نيويورك، مذكرة تفصيلية تتضمن استراتيجية انتخابية تعتمد جزئياً على ديمقراطيين تقليديين “تطرّفوا سياسياً” بفعل أحداث غزة. وقال لوبيز، الذي نشأ في بروكلين وعمل لعشر سنوات في مجال بيع النبيذ الطبيعي قبل أن يتحول إلى تنظيم النقابات بشكل كامل: “كانت مشكلة حركة التضامن مع فلسطين أنها تتقدم بخطوتين على وعي معظم أبناء الطبقة العاملة. فلم يكن هناك ربط مباشر بين القضية وبين أمور حياتهم اليومية، مثل: لماذا أسعار البيض مرتفعة؟”.
شكّل ذلك الانفصال، بين الخطاب الحقوقي الاجتماعي ومحاولة كسب تأييد الطبقة العاملة، تحدياً لممداني. فقد بدا أن قاعدته الانتخابية أكثر بياضاً وثراءً وتعليماً من المعدل العام لسكان المدينة. وغالباً ما يُصوَّر مؤيدوه على أنهم وافدون طموحون لا يعرفون إن كانوا يصعدون اجتماعياً أم يتراجعون، من سكان ما أطلق عليه الصحفي المتخصص في بيانات مدينة نيويورك، مايكل لانغ، اسم “ممر الشيوعيين”، في مناطق بروكلين وكوينز التي شهدت تحوّلاً عمرانياً. وفي الانتخابات التمهيدية، حقق ممداني أفضل نتائجه في الأحياء التي يتراوح متوسط الدخل فيها بين 50 ألفاً و150 ألف دولار. أما كومو، فقد فاز في الأحياء الغنية والأغلبية ذات البشرة البيضاء وكذلك في الأحياء الفقيرة والسوداء.
مدركًا لحساسية المشهد، قضى زهران ممداني العديد من أيام الأحد هذا الصيف في الكنائس، متقربًا من التجمعات الإفريقية الأمريكية في أنحاء المدينة. ففي أغسطس/ آب، ظهر في كنيسة “فيرست بابتيست” في كراون هايتس، بروكلين، وقرأ مقطعًا نادرًا من سفر المراثي: “بنات آوى أيضا أخرجت أطباءها أرضعت أجراءها أما بنت شعبي فجافية كالنعام في البرية”. وقد أثار ذلك بعض صيحات “آمين” و”صحيح”، لكن التشكك في القاعة كان ملموسًا. وقال القس رشاد ريموند مور، راعي الكنيسة: “زهران يعرف الآن أنني سأراقبه عن كثب. بمجرد فوزه، قلت له: ‘هل الناس الذين صوتوا لك هم أنفسهم من يرفعون أسعارنا؟’ لقد عاش في هذا التوتر”.
عُرف صيف سنة 2017 في نظام النقل العام بمدينة نيويورك باسم “صيف الجحيم“؛ فقد اندلعت حرائق في السكك الحديدية بشكل متكرر، وتكدس الركاب على أرصفة محطات القطارات، وتأخرت ثلث القطارات، في أسوأ أداء منذ أزمة الإفلاس التي كادت أن تضرب المدينة في سبعينيات القرن الماضي. وقال الحاكم آنذاك، أندرو كومو، في يونيو/ حزيران: “قبل ثلاثة أيام فقط، خرج قطار حرفيًا عن مساره”، معلنًا حالة الطوارئ في الأنفاق.
في معظم أيام ذلك الصيف، كان ممداني، البالغ من العمر حينها خمسة وعشرين عامًا، يستقل قطار الخط 1 من شارع 116، على بعد بضعة مبانٍ من منزل والديه. ثم يستعد لرحلة تستغرق ساعة ونصف، تتضمن ثلاث محطات، إلى حي باي ريدج في بروكلين؛ حيث كان يعمل في حملة انتخابية لمجلس المدينة لصالح القس الفلسطيني اللوثري والمنظم المجتمعي خضر اليتيم. وكان ممداني يعاني من رهاب الأماكن المغلقة منذ الطفولة – ويتجنب المصاعد قدر الإمكان – وقد وصف ذلك الصيف بأنه الأسوأ في حياته. عندما يتوقف القطار داخل نفق، كما كان يحدث كثيرًا على خط “إن” بعد مغادرة محطة شارع أتلانتيك، كان ممداني يشعر بقلقه يتزايد. فبدأ يدعو الغرباء للحديث معه، عن أي شيء. وقال متذكرًا: “يشكل هذا فرقًا كبيرًا عندما تشعر أن الجدران تضيق عليك. ثم يتحرك القطار من جديد”.
قبل دخوله عالم السياسة، حاول زهران ممداني أن يصنع لنفسه مسيرة فنية كمغنّي راب، وكان يدرّس طلاب المدارس الثانوية ليسدد تكاليف وقت الاستوديو. سجّل أغاني متعددة اللغات تحت اسم يونغ كارداموم، مغنيًا باللغة الأوغندية والهندية والإنجليزية، وصوّر مقاطع فيديو موسيقية مرحة ومتقنة. (أفضلها كان لأغنية “وابولا ناوي”، حيث يجسّد ممداني ومساعده “هاب” دور قادة عصابات متناحرين). لكنه، كما قال في مقابلة بودكاست هذا الربيع، وصل إلى نقطة قال له فيها والده: “أعتقد أن الوقت قد حان لوظيفة حقيقية”. وعندما سألته مؤخرًا مازحًا إن كانت حملته لرئاسة البلدية مجرد حيلة لزيادة عدد مستمعيه على “سبوتيفاي”، هزّ رأسه وقال: “أؤكد لك أن الأرقام لم ترتفع”.
في سنة 2015، تطوّع ممداني في حملة انتخابية لمجلس المدينة لصالح المحامي علي نجمي من كوينز، بعدما قرأ عنه في مقابلة مع مجلة “فيلدج فويس” أجراها هييمز، العضو السابق في فرقة الراب “داس راسيست”. وقد أحبّ ممداني العمل الميداني بشكل خاص. وقال: “أن تصعد ستة طوابق سيرًا، وتصل إلى الأعلى، ويُفتح لك الباب من قبل شخص مسن وترى لمحة مما يعيشه يوميًا”. وسرعان ما أصبح موظفًا بأجر يعمل في عدة حملات محلية متتالية. وكانت حملة خضر اليتيم في باي ريدج – الحي المتوسط الصلب الذي خُلّد في فيلم “ساترداي نايت فيفر” كمكان إقامة شخصية جون ترافولتا – النموذج الذي سيبني عليه ممداني حملته الخاصة لاحقًا.
وُلد خضر اليتيم، أو “الأب كيه” كما يعرفه كثيرون، في بلدة بيت جالا بالضفة الغربية سنة 1968، وعندما كان طالبًا في كلية بيت لحم للكتاب المقدس، اعتقلته القوات الإسرائيلية، وتعرض للتعذيب والاستجواب، واحتُجز لمدة 57 يومًا دون توجيه تهم. وبعد ست سنوات، عُيّن راعيًا لكنيسة في باي ريدج؛ حيث باتت المقاعد التي شغلها سابقًا مهاجرون نرويجيون، تمتلئ بمسيحيين عرب، كثير منهم من اللاجئين الفلسطينيين.
كان اليتيم من أوائل المرشحين المحليين الذين حصلوا على دعم الاشتراكيين الديمقراطيين في نيويورك بعد طفرة عضوية أعقبت حملة بيرني ساندرز الأولى للرئاسة. وبدلًا من الترويج الصاخب للسياسات الراديكالية، ركّز اليتيم على قضايا تكلفة المعيشة، ودعا الحزب الديمقراطي إلى توسيع مظلته السياسية عبر إشراك المجتمعات العربية والمسلمة والجنوب آسيوية في المدينة، والتي يبلغ عدد أفرادها نحو مليون شخص، لكن تمثيلها في الحكومة المحلية شبه معدوم. وقال اليتيم لشبكة “إن بي سي”: “يجب أن نكون جزءًا من عملية صنع القرار”.
خسر اليتيم في يوم الانتخابات، وجاء في المركز الثاني ضمن سباق خماسي، حاصلًا على أكثر من 30 بالمائة من الأصوات. في ذلك الوقت، كانت ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز لا تزال تعمل نادلة في مطعم مكسيكي قرب يونيون سكوير. وبالنسبة لممداني، بدا أداء اليتيم وكأنه إنجاز سياسي. فمجرد أن يتمكن مهاجر عربي اشتراكي يدعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) من حصد 30 بالمائة من الأصوات في باي ريدج، كان كافيًا ليجعله يؤمن بإمكانية ترشحه هو أيضًا. وقال ممداني: “منحني بيرني لغة الاشتراكية الديمقراطية، وأظهر لي خضر اليتيم أن كل توجهاتي السياسية المختلفة لها مكان تنتمي إليه”.
قرر ممداني زيارة معالج سلوكي لعلاج رهاب الأماكن المغلقة بعد “صيف الجحيم”، ربما لشعوره بأنه سيحتاج يومًا ما إلى الحفاظ على هدوئه في القطار، وفي جلسته الأخيرة، ركب هو والمعالج المترو معًا. ولدهشتهما، توقف القطار في نفق مظلم. وقال ممداني ضاحكًا: “قال المعالج لي: هل أنت من أوقف هذا القطار؟”.
يقطن ممداني في مبنى سكني من ستة طوابق مبني من الطوب الأصفر في حي أستوريا بمنطقة كوينز. وهو مبنى قديم الطراز بتصميم متشعب، شُيّد عام 1929، معظم شققه مكونة من غرفة نوم واحدة، وبه غرفة غسيل مشتركة. في مساء يوم أحد من أوائل سبتمبر/أيلول، استقبلني عند باب شقته مرتديًا قميصًا أبيض ناصعًا بياقة، وربطة عنق داكنة، ونعالًا منزلية، ثم قال لي: “اخلع حذاءك”.
عثر على الشقة عبر موقع ستريت إيزي في عام 2018. وُصفت في الإعلان بأنها فسيحة وبها مطبخ يسمح بتناول الطعام فيه. أما في الواقع، فهي صغيرة جدًا، أو كما قد يصفها وسيط عقاري بأسلوب إبداعي “شقة كلاسيكية من ثلاث غرف”. غرفة المعيشة، التي تحتوي على نافذة واحدة، مزينة بأرائك كلاسيكية أنيقة، ونباتات منزلية نضرة، وملصقات لأفلام بوليوود القديمة. على رف كتب، لمحتُ نسخة من كتاب “سمسار السلطة“، وكتاب “شبيه بالذئب” لإيريكا بيري، ومذكرات كال بين بعنوان “لا بد أنك تمزح“. (تنسب المخرجة ميرا ناير، والدة زهران، الفضل لابنها المراهق آنذاك في إقناعها باختيار بين لدور في فيلمها المقتبس عن رواية جومبا لاهيري “السميّ” بعد أن شاهد فيلم “هارولد وكومار يذهبان إلى القلعة البيضاء”). سألني ممداني “دجاج أم لحم ماعز؟”، بينما كان يفرغ محتويات علب الطعام البلاستيكية في أطباق ويناولني أحدها، وكان أحد مساعديه قد أحضر طبق “البرياني”.
بعد انتقال ممداني إلى أستوريا، عمل مستشارًا لمنع حبس الرهن العقاري في منظمة تشايا، وهي منظمة تنمية مجتمعية تخدم المهاجرين من جنوب آسيا والهند والكاريبي. كان راتبه سبعة وأربعين ألف دولار؛ وكانت الشقة ذات إيجار مُنظّم. عندما وقّع ممداني عقد الإيجار، كان الإيجار ألفي دولار شهريًا. أما الآن، فيدفع هو وزوجته دوجي، وهي رسامة ساهمت بأعمالها في مجلة النيويوركر وقامت بالكثير من أعمال الديكور في الشقة، ألفين وثلاثمئة دولار. جلس ممداني على أريكة أرجوانية وذهبية، وتذوق البرياني ثم قطّب حاجبيه؛ حيث كان طعمه باهتًا بعض الشيء، وقال: “لن نكشف عن مصدر هذا الطعام”. كان يأكل بيديه — وهو أمر أصبح محط اهتمام اليمينيين — وقدم لي شوكة وسكينًا.
من خلال عمله مع عملاء منظمة تشايا الذين كانوا يواجهون خطر حبس الرهن، ألقى ممداني نظرة عن كثب على الجنون الصغير الذي تتسم به أزمة الإسكان في المدينة. كان العديد من عملائه من صغار الملاك؛ ملاك مهاجرون لعقارات مكونة من شقتين يعتمدون على المستأجرين للبقاء واقفين على أقدامهم. وقد حاول ربط العملاء ببرامج حكومية قد تساعدهم، لكن في كثير من الأحيان لم يكن هناك ما يمكنه فعله. يتذكر قائلًا: “أتذكر حديثي مع هذا الرجل الباكستاني، الذي كان يتحدث الأردية فقط. سألته: ‘هل تعلم أن الرهن على منزلك على وشك البيع؟’ فأجاب: ‘لا، لم يكن لدي أي فكرة'”.

منذ البداية، كان حجر الزاوية في حملة ممداني الانتخابية هو اقتراحه بتجميد إيجارات حوالي مليون وحدة سكنية ذات إيجار مُنظّم في المدينة، والتي توجد بشكل عام في مبانٍ مكونة من ست شقق أو أكثر تم بناؤها قبل عام 1974. يمكن لرئيس البلدية فعل ذلك فعليًا، لأنه يعين جميع أعضاء مجلس إرشادات الإيجار التسعة، الذي يحدد مقدار الزيادة التي يُسمح لملاك هذه المباني بفرضها على الإيجار كل عام. ما أدركه ممداني وبعض حلفائه في حركة حقوق المستأجرين هو أن المجلس ليس مجرد ذراع خامل في بيروقراطية المدينة؛ بل هو مليء بالإمكانات السياسية، فقد دعم دي بلاسيو تجميد الإيجارات ثلاث مرات خلال فترة ولايته التي استمرت ثماني سنوات؛ بينما في عهد آدامز، سُمح بزيادة إيجار هذه الشقق بنسبة تراكمية بلغت حوالي اثني عشر بالمائة. تقول سيا ويفر، وهي منظّمة في مجال حقوق المستأجرين ومتحالفة مع الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا وتقدم المشورة لممداني: “إن مجلس إرشادات الإيجار يشبه إلى حد ما مؤسسة ديمقراطية اجتماعية سويدية. يجتمع المستأجرون المنظمون والملاك المنظمون أمام مجلس مدينة يعينه رئيس البلدية، الذي يعكس إرادة الشعب”.
قبل عقد ونصف، ترشح مرشح استعراضي بتسريحة شعر متكلفة يُدعى جيمي ماكميلان لمنصب حاكم نيويورك بشعار لا يُنسى: “الإيجار مرتفع حد اللعنة!”. في ذلك الوقت، أثار الشعار الضحك في الغالب؛ حتى أن كينان طومسون قلّد شخصية ماكميلان في برنامج “ساترداي نايت لايف”. ولكن بعد سنوات قليلة فقط، اكتشف المرشحون الاشتراكيون في الأحياء الخارجية أن ماكميلان كان على حق. تقول تاشا فان أوكين، التي أدارت شبكة من خمسين ألف متطوع خلال حملة ممداني التمهيدية: “كان الناس يشعرون بضائقة القدرة على تحمل التكاليف بشكل عاجل للغاية”. وشاركت فان أوكين، التي عملت مؤخرًا أيضًا كمديرة فنية لمجموعة “بلو مان جروب”، في حملة أوكاسيو-كورتيز الأولى وأدارت أو ساعدت في العديد من سباقات الاشتراكيين الديمقراطيين الأخرى التي أطاحت بالديمقراطيين الحاليين. في كل حملة محلية عملت عليها، قالت فان أوكين إن ألم ارتفاع الإيجارات كان من أول الأشياء التي يتحدث عنها الناس عندما يفتحون أبوابهم. حاول سياسيو منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين المحليون إقناع جيرانهم بالنظر إلى “المستأجر” كهوية سياسية؛ وحوّل ممداني شعار “جمّدوا الإيجار” إلى صيحة حاشدة على مستوى المدينة.
إذا تم انتخاب ممداني ونجح في تجميد الإيجارات العام المقبل، فإن أحد أكبر خصومه سيكون صديقًا قديمًا. كيني بورغوس، الذي كان يصغر ممداني بعامين في مدرسة برونكس للعلوم، والذي انتُخب لعضوية الجمعية التشريعية في عام 2020، وجلس الاثنان بجانب بعضهما البعض. بورغوس، وهو ديمقراطي ولكنه ليس عضوًا في منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، صدم الكثيرين في ألباني العام الماضي عندما تخلى عن مقعده ليصبح الرئيس التنفيذي لجمعية الشقق في نيويورك، وهي مجموعة ضغط تمثل ملاك المباني ذات الإيجار المُنظّم. ومثل ممداني، يجيد بورغوس اللغة السياسية الجديدة لوسائل التواصل الاجتماعي. في وقت سابق من هذا العام، عندما ساهمت جمعيته بمليوني ونصف المليون دولار في لجنة عمل سياسي كبرى تدعم كومو في الانتخابات التمهيدية، أرسل رسالة نصية إلى ممداني تحتوي على صورة متحركة لويسلي سنايبس وهو يبكي أثناء إطلاقه النار على صديقه، من فيلم “نيو جاك سيتي”، وكان رد فعل ممداني هو “ها ها”.
يثير أعضاء جمعية بورغوس الضجة منذ عام 2019، عندما ضغطت جماعات حقوق المستأجرين في ألباني على كومو لفرض لوائح صارمة عليهم. يقول جيسون هابر، المؤسس المشارك للجمعية الأمريكية للعقارات ووسيط أول في شركة كومباس، والذي قدم المشورة للجنة عمل سياسي كبرى مناهضة لممداني: “لقد دمرت قوانين الإيجارات لعام 2019 أجزاءً من صناعة العقارات بشكل منهجي”؛ حيث تزداد تكلفة صيانة المباني السكنية القديمة مع تقدمها في السن؛ وعندما تظل الإيجارات ثابتة، يمكن أن يشعر الملاك بالضغط. (يحب ممداني أن يشير إلى أن أحدث بيانات مجلس إرشادات الإيجار تظهر أن صافي الدخل التشغيلي لملاك المباني ذات الإيجار المُنظّم قد ارتفع بنسبة 12.1% في عام واحد). وتشعر ويفر، منظّمة حقوق المستأجرين، بالقلق من أن التجميد سيدفع الملاك إلى الانخراط في “إضراب رأسمالي”، حيث يمتنعون عن إجراء التحديثات والإصلاحات لممتلكاتهم، وتقول: “زهران يملك الأوراق السياسية، لكن الملاك قادرون على خلق رواية مفادها أن المباني تحتاج إلى المزيد من المال. هذا ما يبقيني مستيقظة في الليل”.
يعلم ممداني أن تجميد الإيجارات لن يحل أزمة الإسكان في نيويورك: فالوحدات ذات الإيجار المُنظّم تشكل حوالي ربع المخزون السكني في المدينة فقط. لقد تجاوز متوسط الإيجار لشقة في السوق المفتوحة ثلاثة آلاف وخمسمئة دولار. ويمكن أن تُباع الشقق الفاخرة في مانهاتن بخمسة آلاف دولار للقدم المربع. وهناك حوالي مئة وأربعين ألف طفل من أطفال المدارس في مدينة نيويورك بلا مأوى. وكان جزء من إستراتيجية ممداني هو تصوير مشكلة القدرة على تحمل التكاليف على أنها مشكلة تؤثر على الجميع، حتى الأغنياء. قال لي: “هذه أزمة تخنق العديد من شرائح المجتمع. إنها أزمة واحدة لها مستويات متفاوتة من الشدة، وكلها محسوسة بعمق”.
وتتطلب المعالجة الفعالة للمشكلة بناء مئات الآلاف من الوحدات السكنية في مدينة مكتظة بالفعل، ومساعدة كبيرة من حكومة الولاية في ألباني، وهو أمر ليس مضمونًا لممداني. لقد دعا إلى أن تصبح المدينة أكثر انخراطًا في بناء وتطوير المساكن، لكنه غازل أيضًا خطاب “الوفرة”، وأعرب عن انفتاحه على التطوير الخاص. وفقًا لصحيفة التايمز، أشار ممداني في اجتماع مع مديرين تنفيذيين من أصحاب البشرة السمراء في يوليو/نموز إلى أن تجميد الإيجارات قد لا يكون دائمًا. (قال لي أحد مساعديه: “لقد قال مرارًا وتكرارًا أن الالتزام بالسياسة هو لمدة أربع سنوات”). عندما سألت ممداني عما هو قابل للتفاوض وما هو غير قابل للتفاوض، رفع يديه، رافضًا استبعاد أي شيء، وقال: “أنا لا أترشح لمعاقبة الملاك. نحن نعلم أنه نظام معطل”.
اعترف العديد من الأشخاص الذين عرفوا ممداني قبل ترشحه لمنصب رئيس البلدية ببعض الدهشة من نجاح حملته، وقالت لي جاسمين غريبر، المديرة المشاركة لحزب العائلات العاملة في نيويورك: “أعتقد أن زهران فاجأ نفسه”. ووصفه العديد من المشرعين الذين خدموا معه في ألباني بأنه “استعراضي” أكثر من كونه “عاملاً مجدًا”؛ فقد مرر ثلاثة مشاريع قوانين فقط، وكان أحدها يتعلق بمكان بيع البيرة داخل متحف الصور المتحركة في أستوريا. وقالت جيسيكا راموس، وهي عضو في مجلس شيوخ الولاية من منطقة مجاورة، والتي ترشحت أيضًا لمنصب رئيس البلدية هذا العام: “أتمنى لو كان يعمل بجد أكبر”.
اختلف بورغوس مع هذا التقييم، وقال لي: “لقد أنجز أشياء”. ذكر بورغوس مئات الملايين من الدولارات من تخفيف الديون التي ساعد ممداني مالكي رخص سيارات الأجرة في الحصول عليها من بلدية المدينة في عام 2021، جزئيًا عن طريق الإضراب عن الطعام لمدة خمسة عشر يومًا، وبرنامجًا تجريبيًا جعل مسار حافلة واحد في كل منطقة مجانيًا. وأضاف بورغوس: “ابحث لي عن عضو جمعية جديد آخر حصل على عشرات الملايين من الدولارات لبرنامج فردي”.
يتذكر بورغوس حديثه مع ممداني بعد فوز آدامز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب رئيس البلدية عام 2021: “كان يقول: ‘من سنجد ليرشح نفسه ضد هذا الرجل بعد أربع سنوات؟’ قلت: ‘لماذا لا تفعلها أنت؟’ قال: ‘أنا صغير جدًا، لن يأخذوني على محمل الجد'”. كان ممداني آنذاك قد أصبح شخصية بارزة في منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا، التي وضعت نفسها في مواجهة التيار الرئيسي للحزب الديمقراطي. في ألباني، حضر ممداني اجتماعات أسبوعية للجنة الاشتراكيين في المناصب، وكان يعتبر نفسه سفيرًا للمنظمة. وقال لمجلة “ديسنت” اليسارية في عام 2022: “بالنسبة لي، لا جدوى من القيام بذلك بدون منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا”.
منذ أن بدأت منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا في الفوز بالانتخابات في أواخر العقد الماضي، كان عليها مواجهة تحدي وجود حلفاء لها في السلطة. في العام الماضي، سحب قادة المنظمة الوطنيون تأييدهم لأوكاسيو-كورتيز لأنها حادت عن خط المنظمة بشأن إسرائيل. شجع ممداني الأعضاء على ممارسة الضغط. وقال لـ “ديسنت”: “إنه لأمر جيد أن يتم تشجيع القاعدة الشعبية للمنظمة على تقديم مطالب للمسؤولين المنتخبين. لا يمكننا الاعتماد على أن يخرج منتخبونا من هذه المساحات بنفس الطريقة التي أُرسلوا بها”.
في ربيع عام 2023، قدم ممداني قانون “ليس على حسابنا!”، وهو إجراء من شأنه أن يمنع المنظمات غير الربحية في نيويورك من إرسال أي أموال لدعم الأنشطة الاستيطانية غير القانونية في غزة والضفة الغربية. وجادل بأن عشرات الملايين من الدولارات تمر عبر المجموعات المحلية لدعم “انتهاكات القانون الدولي”. وقال لي عضو ديمقراطي مخضرم في مجلس شيوخ الولاية: “لقد تعاملت القيادة مع هذا القانون بقسوة أكبر من أي مشروع قانون رأيته على الإطلاق. قالوا إنه لن يحصل أبدًا على تصويت في المجلس”. وقع عشرات الزملاء؛ بما في ذلك بورغوس، على رسالة تدين ممداني ومشاركيه في تقديم مشروع القانون. وجاء في الرسالة أن مشروع القانون “قُدم فقط لاستفزاز سكان نيويورك المؤيدين لإسرائيل وزرع المزيد من الانقسامات داخل الحزب الديمقراطي”. وتحدث بورغوس مع ممداني بعد ذلك بوقت قصير، وقال لي بورغوس: “قال لي: ‘لن أمرر مشروع قانون آخر في هذه المدينة مرة أخرى'”.
عندما سألت ممداني عما إذا كان يعتقد أن حياته المهنية في ألباني قد انتهت في تلك المرحلة، هز رأسه، وقال: “لقد عشت نهايات كثيرة في ألباني”. بعد بضعة أشهر، أعطت هجمات حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والانقسامات التي أحدثتها على الفور في الولايات المتحدة، شكلاً جديدًا لسياسات ممداني. في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول، تم اعتقاله خلال مظاهرة لوقف إطلاق النار خارج شقة تشاك شومر في بارك سلوب. تشاور مع قادة مسلمين آخرين كانوا قلقين بشأن ردود الفعل المعادية للإسلام في المدينة، وأصبح بعضهم جزءًا من العقل المدبر لحملته لمنصب رئيس البلدية.
في ذلك الشتاء؛ دُعي ممداني من قبل قادة حزب العائلات العاملة إلى سلسلة من الاجتماعات مع مسؤولين منتخبين آخرين كانوا يفكرون في تحدي إريك آدامز في الانتخابات التمهيدية. (من الصعب أن نتذكر الآن، لكن هذا كان قبل توجيه الاتهام لآدامز، وقبل إعادة انتخاب ترامب، وقبل أن يعقد آدامز وترامب صفقة). كان حزب العائلات العاملة يطرح فكرة وجود عدة مرشحين يترشحون كقائمة تعاونية، لتجنب الاقتتال الداخلي الذي يعتقدون أنه ساعد آدامز على الفوز في عام 2021.
المرشحون الآخرون، في معظمهم، لم يعرفوا ممداني أو يثقوا في منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا. وتتذكر آنا ماريا أرتشيلا، المديرة المشاركة الأخرى لحزب العائلات العاملة في نيويورك: “كانت الحركة المناهضة للحرب تنمو، وكان زهران في مركزها، وفكرنا، يجب أن يكون على الطاولة. لا أستطيع أن أصف لك مدى المقاومة التي كانت موجودة لوجوده”. وفي الوقت نفسه، كان بعض المسؤولين المنتسبين إلى المنظمة قلقين من أن يبدو ممداني كـ”مُفسد” ويضر بمكانة المنظمة مع الديمقراطيين التقدميين. وكتبت إميلي غالاغر، وهي عضو في الجمعية من بروكلين، إلى أعضاء فرع نيويورك، قبل التصويت على تأييده: “هذا غير عادل لمشروعنا ككل ويمكن أن يكون مدمرًا”.
بدأت حملة ممداني بشكل جدي في الخريف الماضي، بعد فوز ترامب بولايته الثانية. كان أول لقاء لكثير من الناس معه عبارة عن مقطع فيديو نشره في نوفمبر/تشرين الثاني، أجرى فيه مقابلات مع سكان نيويورك من أصحاب البشرة السمراء والبنية في الأحياء العمالية حول سبب أداء ترامب الأفضل مع مجموعتهم — ولماذا لم يصوت بعضهم على الإطلاق — في عام 2024.
وتحدث البعض عن أسعار المواد الغذائية وتكلفة المعيشة؛ وتحدث آخرون عن شعورهم بالإحباط بسبب الحرب، وقال رجل مسن ملتحٍ: “أنا أحب الديمقراطيين، لكنني لا أحب ما يحدث في غزة؛ الكثير من الناس يموتون”. في لحظة بدا فيها الديمقراطيون جاهلين بوسائل التواصل الاجتماعي ومنفصلين عن الطبقة العاملة، بدا ممداني فضوليًا وجريئًا.
وهكذا بدأت حملة دمجت بين الرسائل السياسية الصريحة والصور المتحركة المفعمة بالعاطفة، وهي حساسية لا تختلف عن أفلام والدته ناير. في مقطع فيديو يروج لتجميد الإيجارات، غطس ممداني في مياه كوني آيلاند المتجمدة في يوم رأس السنة الجديدة وخرج وبدلته وربطة عنقه تقطران ماءً؛ وقام بزيارات ليلية لباعة الطعام الحلال لمناقشة ارتفاع تكاليف الدجاج والأرز. في جميع مقاطع الفيديو الخاصة به، ظهرت رؤية حنونة ورومانسية ناعمة للمدينة. في مايو/ايار، وضع حزب العائلات العاملة ممداني على رأس قائمة تأييداته، وعلى الرغم من أن منافسيه ظلوا ينتظرون أن يتعثر، إلا أنه استمر في سلسلة من المناورات السياسية البارعة.
في الأسبوع الذي سبق الانتخابات التمهيدية، اقترح أحد مساعدي ممداني، جوليان غيرسون، أن يسير على طول مانهاتن، ويلتقي بالناخبين على طول الطريق. اعتقد بقية موظفي الحملة أن الأمر غير عملي، لكن ممداني أعجب به. في ليلة الجمعة تلك، عند الغسق، انطلق ممداني من إنوود. الفيديو الناتج، لمرشح شاب يسير عبر المدينة حتى ساعات الصباح الباكر، ويتلقى الهتافات في كل مكان يذهب إليه، أقنع أكثر من عدد قليل من المترددين بأن شيئًا ما يحدث.
في صيف عام 1964، قام محمود ممداني، الذي كان طالبًا في جامعة بيتسبرغ آنذاك، برحلة سياحية بالحافلة عبر أمريكا. من بيتسبرغ ذهب إلى شيكاغو، وسولت ليك سيتي، وسان فرانسيسكو، ولوس أنجلوس. أمضى ليلة في لاس فيغاس وخسر بعض المال في ماكينات القمار. في صباح اليوم التالي، استقل حافلة متجهة إلى تاوس، نيو مكسيكو، وحدق من النافذة إلى الصحراء مع شروق الشمس. حوالي الظهر، اقترب من سائق الحافلة وسأله عما إذا كان من الممكن التوقف لبضع دقائق، حتى يتمكن من الخروج والصلاة. سأل السائق: “أي نوع من الأديان هذا؟”؛ فأجاب محمود: “أنا مسلم”.
يروي هذه القصة في كتابه الأخير عن السياسة الأفريقية، “السم البطيء: عيدي أمين، يويري موسيفيني، وصناعة الدولة الأوغندية”، الذي نشرته مطبعة جامعة هارفارد هذا الشهر. في ذاكرة محمود، بعد أن أُبلغ السائق بديانة راكبه الشاب، أمسك بالميكروفون وقال: “أيها الناس، لدينا مسلم معنا. يريد التوقف لمدة عشر دقائق ليتمكن من الصلاة”.
طلب السائق رفع الأيدي ليرى كم عدد ركاب الحافلة الذين يوافقون على التوقف غير المقرر؟ رفع الجميع أيديهم؛ فأوقف السائق الحافلة، عندما نزل محمود، تبعه الركاب الآخرون وشكلوا دائرة حوله وشاهدوه وهو يسجد، ثم عاد الجميع إلى الحافلة معًا.
أخبرني محمود في رسالة بريد إلكتروني أنه لم يشعر بالخوف عندما أحاط به الركاب الآخرون. كتب: “افترضت فضولًا بريئًا من جانبهم. لم يعتقد أي شخص قابلته أن المسلمين يميلون بطبيعتهم إلى الإرهاب… كان الاعتقاد السائد هو أن الوعي السياسي يتم تعلمه وتعليمه من خلال المشاركة واللقاءات. بالتفكير في زملائي المسافرين في الحافلة، لم يكن هناك ما يهدد فيهم، ولا سبب لي للتفكير في الأمر مرة أخرى”.
نشأ زهران ممداني في العالم الذي نشأ منذ رحلة الحافلة تلك. إحدى ذكرياته المبكرة عن نيويورك كانت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، عندما أخذته معلمة جانبًا وقالت له أن يخبرها إذا حاول أي شخص أن يجعله يشعر بالسوء تجاه دينه، وكان في التاسعة من عمره. وفي الصيف الماضي، تحمل ممداني تهديدات بالقتل، ومضايقات عنصرية، واتهامات بمعاداة السامية. قال وهو يغالب دموعه في مؤتمر صحفي وسط الجدل الذي أعقب بودكاست البولوارك: “إنه أمر مرهق. عندما أتحدث، خاصة عندما أتحدث بعاطفة، يصفني نفس المنافسين بأني وحش، وبأني على الأبواب؛ وهي لغة تصف تقريبًا بربريًا يتطلع إلى تفكيك الحضارة”.

إن نفس الصفات التي تجعل ممداني شخصية جيلية قد جعلته بالفعل هدفًا، حيث قال غاسبار، من مركز التقدم الأمريكي سابقًا: “ليس هناك ‘إذا’ في الأمر — بمجرد أن يضع زهران يده على القرآن ويؤدي اليمين كأول عمدة مسلم لنيويورك، سيبدأ دونالد ترامب في إطلاق النار”. ذكرني بيرني ساندرز، وهو يكاد يصرخ في الهاتف، بالقمع الذي أبقى الاشتراكيين تاريخيًا على هامش السياسة الأمريكية. قال ساندرز: “كانت هناك معارضة استثنائية وغير قانونية. أنت تعلم ذلك، أليس كذلك؟”.
قضى ممداني الصيف في الاجتماع مع أشخاص يحاولون تقييم مدى ابتعاده الفعلي عن الماضي، لم يكره كل من قابله من رجال وول ستريت. وقال لي أحدهم، بتفاؤل حذر: “إنه لا يسعى لسيطرة الحكومة. لا أعتقد أنه اشتراكي”. أكد قدامى المحاربين في بلدية المدينة أنه، بصرف النظر عن تدخلات ترامب، فإن قدرة ممداني على الحكم ستتحدد من خلال الأشخاص الذين يحيط بهم، وأنه قد يضطر إلى الاختيار بين الأشخاص ذوي الخبرة والأشخاص الذين يشاركونه برنامجه السياسي. وقال لي نائب عمدة سابق: “دائرته صغيرة. سيتعين عليه أن يخاطر وأن يكون مستعدًا للخطأ”.
وقال ممداني إنه حتى مساء الانتخابات التمهيدية، كانت لديه شكوك حول ما إذا كان بإمكانه الفوز؛ حيث قضى ساعة ونصف يكتب خطاب النصر بغضب بعد أن اتصل به كومو في وقت مبكر من تلك الليلة ليعترف بالهزيمة. جالسًا مع ممداني في غرفة معيشته، بينما أظلمت النافذة الوحيدة، شعرتُ أن الشعور بالمفاجأة قد تلاشى؛ حيث كانت حوالي الساعة التاسعة مساءً عندما دفعني بلطف نحو الباب. قال وهو يصفق بيديه على ركبتيه وينهض من الأريكة: “يا أخي”. لم تكن ليلة ممداني قد انتهت، فقد كانت هناك المزيد من المكالمات مع المساعدين، والمزيد من المقابلات للتحضير لها، وأخذ أطباقنا إلى المطبخ وبدأ في غسلها في الحوض، وكان لا يزال يرتدي ربطة عنقه.
المصدر: نيويوركر