شكل طوفان الأقصى لحظةً مفصلية في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، تجاوزت حدود الحدث العسكري لتصبح محطة تأسيسية لرواية فلسطينية جديدة في الوعي والتاريخ المعاصر. فقد أفرز الطوفان أرشيفًا بصريًا وسرديًا صنعه الفلسطينيون بأنفسهم من قلب الميدان، موثقين وقائع الحرب لحظةً بلحظة، وتجربتهم بعيونهم وأصواتهم، ما منح الأحداث مصداقية وعمقًا غير مسبوقين في تاريخ الصراع.
ومع انتشار هذا الأرشيف في الفضاء الرقمي، نشأت ساحة موازية للمعركة تتنافس فيها الرواية الفلسطينية مع الخطاب الإسرائيلي على تشكيل وعي العالم، لتتحول السردية الفلسطينية إلى أداة مقاومة وذاكرة حية. ومن المتوقع أن يصبح أرشيف الطوفان مرجعًا أساسيًا للمؤرخين والباحثين والصحفيين، يعيد حضور الرواية الفلسطينية في النقاشات الأكاديمية والسياسية والإعلامية، ويمهد لكتابة تاريخٍ أكثر عدلًا وإنصافًا على المستوى العالمي.
ولادة السردية الفلسطينية الرقمية
شهدت السردية الفلسطينية الرقمية ولادتها الفعلية مع طوفان الأقصى، بعد عقودٍ طويلة ظلت خلالها أسيرة التهميش الإعلامي وهيمنة السرد الغربي والإسرائيلي الذي احتكر سرد الحدث وتأطيره وفق روايته الخاصة. فبينما كانت الوسائط التقليدية تُقدم الفلسطيني ضحية بلا سياق، جاءت أحداث الطوفان لتقلب المعادلة، وتُحدث تحولًا جذريًا في آليات التوثيق ونقل الحدث.
خرجت الصورة الفلسطينية هذه المرة من هواتف الناس أنفسهم، لتصنع أكبر أرشيف بصري حي للحرب من داخل غزة، في فعلٍ شعبي جماعي شارك فيه الآلاف بوصفهم شهودًا على المأساة. لقد تحول كثير من الفلسطينيين إلى صحفيين ميدانيين يوثقون القصف والحصار وأشكال الصمود اليومية، ويبثون شهاداتهم مباشرة عبر منصات مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام وإكس وتليجرام، كاسرين احتكار الإعلام التقليدي ومحررين الصوت الفلسطيني من التهميش العالمي.
لم يعد التوثيق مجرد رصدٍ للدمار، بل أصبح فعلًا إنسانيًا وأخلاقيًا يصور تفاصيل الحياة تحت النار، ويقدم وجوه الأطفال والناجين ولحظاتهم الحية. وهكذا نشأ أرشيف بصري جماعي يوثق البطولة والمعاناة معًا، مؤسسًا لذاكرة رقمية تسجل التاريخ بلغة الصورة والوجدان، وتقدم للعالم ما عجزت عنه المؤسسات الإعلامية الكبرى.
وقد برز في قلب هذا التحول نماذج شبابية صغيرة مثل عبود بطاح، الذي جسد نموذجًا للمراسل الجديد في زمن الحرب، فبكاميرا هاتفه، حول بطاح حياته اليومية تحت القصف إلى بثٍ حي يوثق الصمود والمأساة في آن واحد.
إن نموذج بطاح وأمثاله يرمز إلى انتقال الرواية الفلسطينية من المؤسسات الرسمية إلى الناس أنفسهم، ليصبح التوثيق فعلًا جماعيًا بكل معنى الكلمة يعبر عن شعبٍ يصنع تاريخه بالصورة والكلمة من قلب الركام.
“الحمد لله لقد نجوت للمرة الثانية”.. ببلاغة وفصاحة عالية طفلة غزاوية تتحدث عن مشاعرها بعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة. pic.twitter.com/5StVJxva1e
— نون بوست (@NoonPost) October 10, 2025
ومع تدفق هذا الزخم البصري غير المسبوق من الشهادات اليومية من غزة، تراجعت قدرة الإعلام الغربي على تجاهل الحقيقة وتآكلت مصداقية الرواية الإسرائيلية أمام أعين العالم، فقد كشفت المقاطع الميدانية حجم المجازر ودمار المنازل والأطفال تحت الأنقاض، ما أحدث تحولًا عميقًا في المزاج الشعبي العالمي.
وللمرة الأولى، انكسر احتكار السرد، وأصبحت الحرب تُروى من الداخل، بعيون من يعيشونها ويقاسونها لحظة بلحظة، وهكذا أعاد أرشيف الطوفان تثبيت الرواية الفلسطينية في الوعي الجمعي العربي والعالمي، لا كصوت مقاوم فحسب، بل كحقيقة إنسانية موثقة لا يمكن محوها.
لماذا أرشيف الطوفان فريد؟
أرشيف الطوفان يعتبر فعلًا محطةً فريدة في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، لأنه لم يُنتَج عن مؤسسات إعلامية أو مراكز بحثية، بل وُلد من داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، فقد تحول الفلسطينيون إلى صانعي روايتهم ومؤرخي تجربتهم، يوثقون بالصوت والصورة تفاصيل الحرب وصمودهم ومعاناتهم من قلب الميدان وفي لحظتها.
يتميز هذا الأرشيف عن كل المحطات السابقة في التاريخ الفلسطيني الحديث – من النكبة عام 1948 إلى النكسة 1967 والانتفاضتين – بأنه أول حدثٍ يُوثق رقميًا في نفس الزمن، ومن زاوية الفلسطيني نفسه لا من منظور المراقب أو الإعلام الخارجي.
فبينما نُقلت النكبة شفهيًا بين الأجيال، ورسخت النكسة سردية الانكسار، وبقيت الانتفاضتان أسيرتين للإعلام التقليدي، جاء الطوفان ليكسر هذا النمط ويؤسس لسردية رقمية حية تُبث لحظة بلحظة، وتحول التجربة الفلسطينية إلى ذاكرة جمعية عابرة للحدود.
ومع تزايد المحتوى المصور وتداوله عبر المنصات الرقمية مثل يوتيوب وتيك توك وإكس، تشكل أرشيف شامل يوثق مختلف جوانب الحرب: من العمليات العسكرية إلى الحياة المدنية، ومن مشاهد الدمار إلى لحظات البطولة والصمود، إلى جانب شهادات حية للأطفال والناجين والمدنيين.
“نحن نأكل هذا الرمل”.. مشاهد مؤلمة لطفل فلسطيني يبكي ويأكل حفنة من الرمل تعبيراً عن الجوع الذي يعاني منه سكان قطاع غزة وسط استمرار العدوان الإسرائيلي#تفاعل ليصل إليك كل جديد pic.twitter.com/BZX8m2VFyQ
— TRT عربي (@TRTArabi) June 20, 2025
يحتوي أرشيف الطوفان على مشاهد دقيقة وشاملة لكل تفاصيل الحياة الفلسطينية تحت الحصار، بدءًا من الجوع ونقص الطعام والماء، مرورًا بمعاناة النازحين في الخيم والملاجئ، وصولًا إلى لحظات شهر رمضان والعيد وسط القصف، والدعاء المستمر، وحياة الأطفال والنساء وكبار السن.
يوثق الأرشيف اليوميات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، فتصبح كل صورة وكل مقطع فيديو شهادة حية تعكس صمود الإنسان الفلسطيني في أصعب الظروف، وتقدم رؤية شاملة للواقع الإنساني الذي عاشته غزة.
كما يتضمن أرشيف الطوفان جزءًا خاصًا بالعمليات العسكرية التي نفذتها المقاومة، موثقًا التحركات الميدانية والهجمات والتكتيكات الدفاعية والهجومية، هذا الأرشيف يُظهر القدرة التنظيمية والتخطيط الاستراتيجي للمقاومة، ويتيح دراسة تفصيلية لتطور العمليات العسكرية على الأرض.
وبالتالي هذا التوثيق اللحظي أزال الحاجز بين الحدث والمتلقي، وحول الحرب إلى تجربة معاشة عالميًا، لا مجرد خبرٍ يُنقل أو يُحرر، مما غير طبيعة العلاقة بين الشعوب وفلسطين، إذ لم تعد القضية مجرد ذكرى تاريخية أو شأنًا سياسيًا بعيدًا، بل تجربة حية يشارك فيها الناس يوميًا بالتفاعل والتضامن والمواكبة.
في خضم أرشيف الطوفان الذي امتلأ بصور الدمار والمجازر، يقدم هذا الفيديو مشهدًا مغايرًا من قلب غزة، حيث توثق الكاميرا تفاصيل الحياة اليومية قبل النزوح، ترتيب الغرفة، إعداد الطعام، ضحكات عابرة وسط الخطر.
هذه اللقطات البسيطة في ظاهرها، تحمل دلالات عميقة عن صلابة الوجود الفلسطيني، إذ تبرز تمسك الإنسان الغزي بحقه في العيش والفرح رغم الفقد، ومن خلال هذا التوثيق العفوي، تتكامل الصورة الكبرى للأرشيف الرقمي للطوفان، الذي لم يكتفِ بتسجيل مشاهد الحرب، بل حفظ أيضًا نبض الحياة الذي قاوم الموت في كل بيت.
كذلك يُعد هذا النوع من الفيديوهات، مثل مقطع “كيف بنعيش في غزة | عملنا أزكى أكلة من الطرد الغذائي”، جزءًا أصيلًا من الأرشيف البصري الشعبي الذي وُلد مع طوفان الأقصى، إذ يقدم توثيقًا حيًا للحياة اليومية تحت الحصار من داخل الخيم والشوارع.
لا يسجل هذا المحتوى مشاهد الدمار فحسب، بل يوثق تفاصيل الصمود الإنساني، ويُظهر قدرة الفلسطينيين على صناعة الحياة وسط الركام، ومن خلال بساطته وواقعيته، يضفي بعدًا إنسانيًا عميقًا على السردية الفلسطينية الرقمية، فيجعلها أكثر قربًا من وجدان الجمهور، ويُعيد تشكيل الوعي الجمعي بالصراع بعيدًا عن التنميط والتجريد.
“هي أصعب حرب بعيشها”.. نازحة من شمال غزة تروي معاناتها مع الحرب وظروف النزوح القاسية في خيمة تفتقر لأبسط مقومات الحياة. pic.twitter.com/3RfPzHspkx
— نون بوست (@NoonPost) October 9, 2025
كذلك يُعد الفيديو الذي يحمل عنوان “الحياة في غزة: كيف تعيش الأم مع أطفالها بعد تدمير بيوتهم” وثيقة بصرية تُجسد معاناة أمهات غزة، يُظهر الفيديو مشاهد حية لعائلات فلسطينية تُجبر على العيش في ظروف قاسية بعد تدمير منازلها، مما يعكس حجم الدمار والآلام التي يعانيها الأمهات على وجه الخصوص.
ومن خلال هذه المشاهد، يُمكن ملاحظة كيف أن الأطفال الذين يُفترض أن يكونوا في مرحلة تعلم ونمو، يُجبرون على التكيف مع واقع مرير يتمثل في فقدان منازلهم وأحيانًا أفراد من أسرهم، تُظهر اللقطات تفاعلهم مع البيئة المحيطة، سواء من خلال اللعب بين الأنقاض أو البحث عن مأوى، مما يُبرز قدرتهم على التكيف والصمود في وجه التحديات.
علاوة على ذلك، تظهر هذه المشاهد تفاعل الأهالي مع الوضع الراهن، حيث تُبرز تعبيرات وجوههم المرهقة والأعين التي تحمل قصصًا من الألم والأمل، تُسلط هذه المشاهد الضوء على الروح الجماعية والتضامن بين أفراد المجتمع الفلسطيني في مواجهة المحن.
أيضًا تُعد قناة @Gaza.girl2 على يوتيوب مثالًا حيًا على كيف يمكن للمحتوى الرقمي أن يكون أداة فعالة في نقل الواقع الفلسطيني، تمثل القناة نموذجًا مميزًا للسردية الفلسطينية الرقمية في عهد الطوفان، حيث تقدم محتوى إنسانيًا يوميًا يعكس حياة الأطفال والعائلات في غزة تحت الحصار، ومن خلال مقاطع قصيرة، تُظهر القناة مشاهد من توزيع الطعام والماء، وتوثيق أمنيات الأطفال، ومبادرات دعم بسيطة، مما يجعلها مصدرًا مهمًا لفهم الواقع اليومي في غزة.
ومن خلال هذه المبادرات، تُسهم هذه القناة وغيرها الكثير في بناء ذاكرة رقمية حية تُوثق التجربة الفلسطينية، وتُعيد تعريف مفهومي العدو والمقاومة في وعي الأجيال الجديدة، كما تُعزز الحس النقدي تجاه الإعلام الغربي، وتُبرز أهمية التوثيق الشعبي في نقل الحقيقة.
وبالتالي من خلال أرشيف الطوفان، يُمكن للمتابعين حول العالم أن يشعروا بكل تفاصيل واقع الحياة اليومية في غزة، وهكذا، تتحول اليوميات المصورة إلى شهادة حية على اتساع مفهوم النضال الفلسطيني، من ساحات المواجهة المسلحة إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية.
ومع مرور الزمن، سيغدو هذا الأرشيف ركيزة أساسية في كتابة التاريخ الفلسطيني الحديث، إذ تمثل كل لقطةٍ أو شهادةٍ داخله وثيقة حية قابلة للاستدعاء والتحليل في أي وقت، وبذلك يتحول الطوفان إلى حدثٍ متجددٍ في الوعي الجمعي.
فهو أرشيف يجمع بين مشاهد الصمود والبطولة، والألم والأمل، ليصوغ ذاكرة رقمية حية لا تقتصر على حفظ الماضي، بل تسهم في إعادة تشكيل الحاضر وكشف جوهر التجربة الفلسطينية كما تُعاش في أدق تفاصيلها اليومية.
تأثير أرشيف الطوفان على وعي الأجيال الفلسطينية والعربية
منذ الأيام الأولى لطوفان الأقصى، وثق الفلسطينيون الغارات والدمار وأشكال الصمود بهواتفهم، لتنطلق السردية الفلسطينية عبر المنصات الرقمية إلى العالم، وتتحول من مجرد خبرٍ يُنقل إلى تجربةٍ تُعاش لحظة بلحظة. كانت تلك لحظةً تأسيسية كتب فيها الفلسطيني روايته بنفسه أثناء الحرب، وأعاد من خلالها تشكيل الوعي والذاكرة الجمعية الفلسطينية والعربية.
هذا التحول انعكس بوضوح على وعي الأجيال الجديدة، إذ لم يعد الشباب يتلقون روايتهم عن فلسطين من وسائط تقليدية أو مصادر خارجية، بل من وثائق حية أنتجها الفلسطينيون من قلب الميدان. ومع انتشار الصور والشهادات اليومية، خرجت غزة من كونها جغرافيا محاصرة إلى أن أصبحت مرآةً للذات الجماعية العربية والإسلامية، وأعادت إحياء الوجدان الشعبي بعد عقودٍ من الصمت والتطبيع.
“هي أصعب حرب بعيشها”.. نازحة من شمال غزة تروي معاناتها مع الحرب وظروف النزوح القاسية في خيمة تفتقر لأبسط مقومات الحياة. pic.twitter.com/3RfPzHspkx
— نون بوست (@NoonPost) October 9, 2025
كذلك أعاد أرشيف الطوفان تعريف مفهومي “العدو” و“المقاومة” في الوعي الجمعي العربي، فالمجازر والانتهاكات التي بُثت بالصوت والصورة كشفت الاحتلال كما هو، فيما منحت مشاهد الصمود معنى جديدًا للمقاومة بوصفها فعلًا إنسانيًا وأخلاقيًا، ومن رحم هذا الوعي، برزت تيارات شبابية عربية ترى في المقاومة قضية كرامة وعدالة.
كذلك توثيق المقاومة لمعظم عملياتها العسكرية بالصوت والصورة شكل تحولًا نوعيًا في الوعي الجمعي العربي والفلسطيني، إذ لم تعد البطولة تُروى أو تُسمع فحسب، بل أصبحت مرئية وملموسة أمام الأجيال الجديدة. هذا التوثيق قرب صور المقاتلين من الوعي الشعبي، فصار الشاب العربي يرى المقاوم لا كرمز بعيد، بل كإنسان يشبهه يحمل سلاحه دفاعًا عن أرضه.
ومع مرور الزمن، ستغدو هذه المشاهد مرجعًا بصريًا وتربويًا يرسخ في الأذهان معنى الفداء والكرامة والحرية، ويغذي روح المقاومة لدى الأجيال القادمة. كما أن هذا الأرشيف المصور سيسهم في إعادة تعريف البطولة والمعيار الأخلاقي للنضال في الوجدان العربي.
أيضًا أسهم أرشيف الطوفان في إحياء الحس النقدي العربي تجاه الإعلام العالمي، فكشف انحيازاته وازدواجية معاييره في تغطية الصراع، ليغدو مرآةً أخلاقية تُعيد مساءلة الخطاب الإعلامي الدولي، وتضع الوعي العربي أمام حقيقة النظام العالمي ومعاييره المنقوصة للعدالة والإنسانية.
على المدى الطويل، سيغدو أرشيف الطوفان مرجعًا حيًا في تشكيل وعي الأجيال الفلسطينية والعربية، إذ يحفظ الذاكرة الجماعية للحرب كما عاشها أصحابها، ويمنح الأجيال القادمة تلقي تاريخهم من شهادات حية لا من كتب جامدة. فالمقاطع المصورة والشهادات اليومية التي وثقها الفلسطينيون ستتحول إلى مادة تربوية وثقافية تُغذي الوعي السياسي والأخلاقي بالاحتكاك المباشر مع التجربة.
إن ما ولده الطوفان من وعيٍ جديد لا يمكن احتواؤه أو التراجع عنه، لأنه خرج من رحم الألم الجمعي الفلسطيني، وهكذا، تحول أرشيف الطوفان من كونه مجرد سجل للحرب إلى ذاكرة نضالية حية، تجسد روح الصمود الفلسطيني في أبهى صورها.
أثر أرشيف الطوفان دوليًا
أدى انتشار أرشيف الطوفان الرقمي إلى زعزعة الهيمنة الإسرائيلية في الفضاءين الأكاديمي والإعلامي الغربي، بعد عقودٍ كانت فيها الرواية الإسرائيلية تسيطر عبر شبكات نفوذ مؤسساتية قوية. ومع تدفق المواد الميدانية التي وثقها المواطنون العاديون في غزة، بات من المستحيل تجاهل الشهادات الحية التي تحمل أدلة بصرية يصعب إنكارها. وفيما يلي أبرز الانعكاسات العالمية لأرشيف الطوفان:
تحفيز الدراسات الأكاديمية
على الصعيد الأكاديمي، بات أرشيف الطوفان يشكل مرجعًا هامًا للباحثين والمؤرخين، إذ يقدم مواد توثيقية لحظة بلحظة من منظور الفلسطينيين أنفسهم، وقد بدأت هذه المواد تُناقش في بعض الدوائر الأكاديمية الغربية ضمن تخصصات التاريخ المعاصر وحقوق الإنسان.
هناك بالفعل تزايد في اهتمام الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية بتوثيق السرديات البصرية للحرب الأخيرة على غزة، وبدأت تظهر أوراق بحثية ودراسات وبرامج تتناول هذا الأرشيف من زاوية الإعلام الرقمي، الأخلاقيات الصحفية، والسرد المقاوم.
والواقع أن أرشيف الطوفان أسهم في تعزيز مصداقية الرواية الفلسطينية داخل الأوساط الأكاديمية الدولية، ومساءلة التحيزات الإعلامية الغربية، لكن لا يمكن القول إن الأرشيف أصبح “مُعتمدًا” على نطاق واسع بعد، لأننا نتحدث عن عملية ما زالت في بدايتها. لكن بمرور الوقت، يُتوقع أن يساهم هذا الأرشيف في بناء ذاكرة عالمية تضمن حضور الرواية الفلسطينية في النقاشات الأكاديمية الغربية المستقبلية.
تأثير على الرأي العام العالمي
يمتاز أرشيف الطوفان بقدرته على مواجهة الروايات الإسرائيلية والغربية بشكل مباشر وموضوعي، من خلال تقديم مشاهد حية ومواد موثقة من قلب الحدث، بعيدًا عن التحيز السياسي أو التحليل الإعلامي المسبق.
فالصور والفيديوهات اليومية التي وثقها الفلسطينيون بأنفسهم تكشف الواقع الحقيقي للصراع، ما يحول أرشيف الطوفان إلى أداة فعالة لمواجهة التضليل الإعلامي وتمكين المتلقي من متابعة الأحداث كما تُعاش فعليًا، مانحًا الرواية الفلسطينية مصداقية وشرعية لا يمكن تجاهلها.
فمع هذا التدفق البصري الهائل – من أطفال تحت الركام إلى مستشفيات مدمرة – أحدث أرشيف الطوفان تفاعلًا دوليًا واسعًا أعاد فلسطين إلى الواجهة كتجربة حية تتفاعل معها الجماهير، وخلق شروخًا في هيمنة السردية الإسرائيلية، وأثار مساءلات أخلاقية وسياسية لدى جمهور عالمي أوسع، كما أطلق الأرشيف نقاشًا عالميًا حول مصداقية الإعلام الغربي وازدواجيته في التغطية.
تحول أرشيف طوفان الأقصى أيضًا إلى رمز ثقافي عالمي يجسد مقاومة الظلم، حيث بُنيت أعمال فنية وأقيمت معارض صور مستوحاة مباشرة من المواد الأصلية التي وثقها الفلسطينيون في غزة.
“حماس تقاوم الإرهاب وليست منظمة إرهابية”.. أميركية تصدم محتجزا إسرائيليا سابقا لدى حماس يسعى لتلميع صورة إسرائيل.. ماذا قالت أيضا عن ماكينة الدعاية الإسرائيلية؟ #أنا_العربي pic.twitter.com/UXz7OFdRjf
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) October 9, 2025
كما لم تعد نظرة الرأي العام الغربي إلى المقاومة المسلحة في فلسطين أحادية أو سلبية كما كانت في السابق، إذ بدأ عدد متزايد من الناشطين الغربيين ينظرون إليها بوصفها حركة تحرر مشروعة في مواجهة استعمار استيطاني طويل، بل إن بعضهم أبدى إعجابه بالعمليات العسكرية التي جسدت شجاعة المقاتلين الفلسطينيين وقدرتهم على القتال في وجه آلة حرب الاحتلال المتفوقة.
بطريقة تفاعلية.. ناشطة أميركية تشرح ما يفعله المقاتـ.ـلون الفلسطينيون بالجنود والدبابات الإسرائيلية في #غزة. pic.twitter.com/aIuyJyx88s
— صحيفة الاستقلال (@alestiklal) July 15, 2025
نقاشات قانونية وحقوقية
يحمل أرشيف الطوفان بُعدًا قانونيًا متناميًا، إذ توفر الصور والفيديوهات والشهادات الميدانية التي وثقت مختلف أحداث الحرب أدلةً مباشرة يمكن استخدامها أمام المحاكم الدولية لإثبات جرائم الحرب والانتهاكات.
هذا الأرشيف يشكل تحديًا دائمًا للرواية الإسرائيلية الرسمية، ويعزز مصداقية الرواية الفلسطينية في الساحة الدولية، إذ قد تُستخدم مواده في التحقيقات الحقوقية وتقارير المنظمات الإنسانية كمصادر أولية لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين.
وبذلك، قد يتحول الأرشيف من مادة إعلامية إلى أداة قانونية رسمية، تثبت الانتهاكات وتدعم العدالة المؤجلة، كما يظل مرجعًا مستمرًا يعيد فتح الأسئلة حول حقوق الفلسطينيين.
ختامًا، لم يعد الأرشيف البصري الفلسطيني الذي وُلد مع طوفان الأقصى مجرد تراكمٍ للصور والوثائق، بل غدا ذاكرة حية تُسهم في تشكيل وعي الحاضر وتأسيس مستقبل الرواية الفلسطينية في العالم.
إن أرشيف طوفان الأقصى تجاوز حدود الحرب ليصبح حدثًا عالميًا أعاد رسم خرائط الوعي والإعلام، فقد نقل الرواية الفلسطينية من الهامش إلى المركز، وخلق ذاكرة إنسانية مفتوحة تُسائل العالم عن مفهوم العدالة ذاته، ليصبح بنية معرفية وتاريخية ترافق الصراع وتعيد تعريفه في الوعي الإنساني لعقودٍ مقبلة.
ومع مرور الزمن، سيغدو هذا الأرشيف ركيزة أساسية في تشكيل الوعي بالصراع، ومصدرًا معرفيًا وأخلاقيًا يؤسس لحقبة جديدة من الفهم العالمي لفلسطين، لا بوصفها مأساة متكررة، بل كملحمة إنسانية مستمرة في مقاومة المحو والنسيان.