ترجمة وتحرير: نون بوست
الطريق إلى غزة، شقّت حافلتنا طريقها عبر صحراء شمال سيناء الساحرة، متجاوزةً ما لا يقل عن ست نقاط تفتيش عسكرية مصرية. كان ذلك في الثامن من يناير/ كانون الثاني 2024، بعد مرور ثلاثة أشهر على اندلاع الحرب. مررنا بواحات خصبة تملؤها أشجار النخيل، يضفي خُضارها تباينًا صارخًا مع قسوة المشهد الصحراوي. وفي كل نقطة تفتيش، كان الحراس يفتشون حقائبنا الاثنتي عشرة المليئة بالإمدادات الطبية والأنسولين بدقة، قبل أن يسمحوا لنا بالعبور. انطلقنا من القاهرة عند شروق الشمس، ووصلنا أخيرًا إلى الجانب المصري من معبر رفح بعد رحلة مرهقة استغرقت ثماني ساعات، تزامن وصولنا مع غروب الشمس خلف الأفق البعيد.
على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، نفذتُ ما لا يقل عن أربعين مهمة طبية، إلى سوريا واليونان وبنغلاديش وأوكرانيا ولبنان واليمن وكولومبيا وبورتوريكو. كانت هذه مهمتي الرابعة إلى غزة، لكنها كانت مختلفة تمامًا عن سابقاتها. ففي سوريا، عملتُ في مستشفيات تحت الأرض، وأنقذتُ ضحايا القنابل البرميلية والصواريخ، وعالجتُ عددًا لا يُحصى من اللاجئين الفارين من الحرب والفظائع الجماعية، ودرّبتُ الأطباء على كيفية حماية أنفسهم من الأسلحة الكيميائية. ولا تزال وجوه الأطفال الذين مزّقتهم الحروب والنزوح محفورة في ذاكرتي. وفي بعض الليالي، أستيقظ صارخًا؛ حيث كنت أظن أنني رأيت أسوأ ما يمكن أن تقترفه البشرية.
حتى رأيت غزة!
في الأشهر الأربعة الأولى من الحرب، تجاوزت الكارثة كل تصور؛ فقد كانت ولادة نكبة جديدة: مدنيون وأطفال يُقتلون جماعيًا، وسكان محاصرون يُجبرون على النزوح، ومنظومة صحية تُفكك بشكل ممنهج، ومساعدات إنسانية تُحوّل إلى أدوات ضغط، وشعب بأكمله يُدفع إلى حافة البقاء على قيد الحياة.
لقد شهدنا مثل هذه الفظائع في حروب أخرى، لكن ليس بهذا الحجم، فهذه ليست مجرد أزمة إنسانية؛ إنها اختبار لضميرنا الجمعي. إن الفظائع التي رأيتها في سوريا، من حصار المدن واستهداف المستشفيات وقتل المدنيين، تتكرر في غزة مع إفلات مروع من العقاب، حيث تشن حرب شاملة ليس فقط ضد البشر، بل ضد الرعاية الصحية والتعليم وكل الأسس التي تُبقي الحياة ممكنة في هذا المكان.
لقد بدأنا هذه المهمة الطبية بهدف يتجاوز تقديم المساعدة، فقد جئنا لنقف إلى جانب زملائنا الفلسطينيين، ولنكون شهودًا على ما يجري. فرغم أن الأطباء المحليين هم العمود الفقري لمنظومة الرعاية الصحية في مجتمعهم، فإن الحرب قد أثقلت كاهلهم. ومهمتنا هي أن نمد لهم يد العون، ونمنحهم لحظة من التقاط الأنفاس، ونقدّم الرعاية للمنكوبين. لكن مسؤوليتنا الأسمى هي أن نضمن ألا تُنسى قصتهم، وأن نغرس الحقيقة العارية عن صمودهم في ضمير العالم، ونُجبر أصحاب القرار على رؤيتهم.
خلال مهماتي السابقة إلى غزة، تعرفت على العديد من الأطباء المحليين أثناء تنقلي في أرجاء هذا الشريط الساحلي الضيق. وعلى عكس ما يظنه الكثيرون، فإن غزة جميلة ومتنوعة بشكل مذهل، فلقد وجدت شعبها مضيافًا وكريمًا رغم سنوات الحصار والصراع. وانغمست في تاريخ المنطقة، وزرت المتاحف والمساجد والكنائس التاريخية، وتذوقت مأكولاتها الشهية. وعلمت أن غزة تصدر الزهور والفراولة إلى أوروبا باستخدام تقنيات ري مبتكرة.
لقد ترك المجتمع الطبي في غزة أثرًا عميقًا في نفسي؛ فالأطباء هناك على اطلاع دائم بأحدث المستجدات العلمية، ويستوعبون التدريب بسرعة لافتة. ويضم النظام الصحي 38 مستشفى، ويُعد مجمع الشفاء الطبي أكبر منشآته، حيث يعمل كمركز تخصصي ومركز علاج الصدمات من المستوى الأول، لا يختلف كثيرًا عن المستشفى الذي أعمل فيه، وهو مركز أدفوكيت كرايست الطبي في شيكاغو، حيث أمارس تخصصي في أمراض الرئة والعناية الحرجة. ويخدم المجمع نحو 750,000 مريض سنويًا، ويجري 25,000 عملية جراحية معقدة، و70,000 جلسة غسيل كلى. وتفخر غزة بكونها من بين أعلى المناطق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث معدلات التعليم والتطعيم. ورغم صغر حجمها، تضم غزة 12 جامعة تخدم 2.1 مليون نسمة. ويحمل كثير من شباب غزة شهادات متعددة، لكنهم يواجهون البطالة بسبب الحصار وانعدام الفرص.
في إحدى المهام، التقيت بالدكتور حسام أبو صفيّة، طبيب الأطفال في بيت لاهيا شمال غزة. بعد أن تلقى تدريبه في كازاخستان، عاد إلى غزة لإنشاء وحدة عناية مركزة في مستشفى كمال عدوان، عازمًا على مكافحة وفاة الأطفال من خلال توفير العلاج الطارئ خلال “الساعة الذهبية” بينما ينتظرون نقلهم إلى مستشفى الشفاء. وقمنا بتجهيز وحدته بأجهزة تنفس صناعي للأطفال حديثي الولادة وأجهزة مراقبة وحاضنات. لقد عُرضت عليه وظائف في الخليج، لكنه رفض مغادرة مجتمعه. كان فخورًا بالتقدم الذي أحرزه مستشفاه، وكثيرًا ما كان يشارك على فيسبوك آخر المستجدات حول التطورات الطبية.
في يناير/ كانون الثاني 2025، نظّمت مؤسستي، “ميدغلوبال”، مهمة طبية ضمن مبادرة “الفرق الطبية الطارئة” التي تقودها منظمة الصحة العالمية، في إطار جهود دعم الأطباء المحليين وسدّ الثغرات التي خلّفتها الحرب المستمرة في غزة؛ حيث كنا من أوائل الفرق الطبية التي سُمح لها بدخول غزة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
اصطفت مئات الشاحنات على جانبي الطريق، وتمتم سائقنا قائلاً: “تلك شاحنات محمّلة بالغذاء تنتظر الدخول إلى غزة. بعضُها ينتظر منذ أسابيع”.
وبعد ساعتين من التفتيش الدقيق عند المعبر الحدودي المصري، حصلنا أخيرًا على تصريح الدخول إلى غزة. عانقنا كل فرد من فريقنا المحلي، الذين كانوا ينتظرون بصبر لساعات طويلة. كانت أعينهم تغمرها المشاعر ونحن نتبادل العناق ونحمّل الإمدادات في حافلتين، وقالت رجاء: “أهلاً بكم في غزة. الحمد لله على السلامة”.
كان الطريق من المعبر إلى دار الضيافة في منطقة المواصي برفح، قرب البحر المتوسط، أشبه بدخول عالم ديستوبي، حيث كان هناك مشهد من الخيام الممتدة بلا نهاية عبر شوارع مظلمة تحت سماء مثقلة باليأس. فقد أُجبر أكثر من مليون مدني على النزوح إلى رفح، المدينة التي لم يكن يسكنها قبل الحرب سوى 300 ألف نسمة، بينما استمرت المعارك في الشمال.
قالت فاطمة، مسؤولة البرنامج لدينا، بصوت خافت: “الحرب الآن في خان يونس، على بُعد تسعة كيلومترات فقط من منزلنا”. كانت قد نزحت من مدينة غزة مع أسرتها، وكذلك رجاء. نظرت إلى وجوه زملائي المرهقة، ظلوا صامتين ومذهولين من حجم الدمار والمعاناة التي تحيط بنا.
قالت فاطمة: “نحن سعداء جدًا برؤيتكم. هل تعتقدون أن وقف إطلاق النار قريب؟” أجبتها: “إن شاء الله”.
منذ الليلة الأولى، كانت الحرب التي تدور على مقربة خطيرة منا، تتكشف أمام أعيننا؛ فقد كنا نسمع القنابل، وهدير الطائرات الحربية الإسرائيلية، ودوي المروحيات، وانفجارات الصواريخ، والرعد البعيد للسفن الحربية، وكنا نشهد آثار كل ذلك في المستشفى، في سلسلة لا تنتهي من حالات الإصابات الجماعية. في الليل، كانت الصواريخ تضيء السماء، واهتزازاتها تهز الأرض. لم أستطع النوم في الليلة الأولى. ومع الوقت، أصبحت مخدرًا تجاه الفوضى، وكان الناس يتحركون في الشوارع المزدحمة وكأن هذا هو الوضع الطبيعي. لكنه لم يكن كذلك؛ فقد كان الدخان الأسود يتصاعد باستمرار في الأفق، بينما تحوم الطائرات المسيّرة فوق رؤوسنا على مدار الساعة، وطنينها المتواصل يتسلل تحت الجلد.
عندما وصلنا، كانت غزة قد دُمّرت، وقُتل الآلاف، بينهم 12 ألف طفل، وأُصيب أكثر من 80 ألفًا، نصفهم تقريبًا كانت إصاباتهم خطيرة، تطلبت عمليات جراحية متعددة، وغالبًا ما تطورت إلى التهابات مقاومة للمضادات الحيوية قد تؤدي إلى الوفاة. كان هناك 4,000 شخص جديد تم بتر إحدى أطرافه. وانخفضت معدلات التطعيم من 95 بالمئة إلى 70 بالمئة. وظهرت حالات تفشي للحصبة وأمراض معدية أخرى كان من الممكن الوقاية منها.
بحلول يناير/ كانون الثاني 2024، كان ثلث المستشفيات قد دُمّر أو حُوصِر أو تُرِك، بما في ذلك مستشفى الشفاء، وأصبح الوصول إلى شمال غزة شبه مستحيل، وقُتل نحو 400 من العاملين في القطاع الصحي المحلي، بينهم 65 طبيبًا، و105 ممرضين، و121 مسعفً، كما تم اعتقال مئة آخرين من العاملين الصحيين.
وأصبحت الهجمات على المستشفيات والعاملين في القطاع الصحي أمرًا مأساويًا متكررًا في غزة، كما حدث في سوريا وأوكرانيا – فهو نمط قاتم آخر من أنماط الحروب الحديثة، كاستهداف المدنيين. ويعد كل اعتداء على منشأة طبية جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي، لكن في ظل غياب المساءلة، تستمر هذه الانتهاكات بلا رادع، مما يقوّض حيادية العمل الطبي ويهدد بقاء الأنظمة الصحية نفسها.
في ذلك الوقت، كانت رفح نقطة الوصول الرئيسية لبقية غزة من حيث الغذاء والماء والدواء، ولم يكن فيها سوى ثلاثة مستشفيات بالكاد تعمل، وجهازي تصوير أشعة مقطعية فقط، ومركز ولادة واحد يخدم أكثر من 1.3 مليون نسمة. وكان هناك نقص حاد في العديد من الأدوية المنقذة للحياة، بما في ذلك الإنسولين، ونقص في الأطباء، والأسرة، وأجهزة الغسيل الكلوي، وأجهزة التنفس، والمستلزمات الطبية.
في مناطق الحرب، يموت المرضى الذين يعانون من حالات حادة – كنزيف حاد، ونوبات قلبية، أو جلطات رئوية – بسبب عدم توفر الرعاية الطارئة. وفي الوقت نفسه، يعاني المصابون بأمراض مزمنة مثل أمراض القلب والسكري والسرطان ومرض الانسداد الرئوي المزمن في صمت، وتتدهور حالاتهم في غياب الأطباء والعيادات. قد لا يُدرج هؤلاء الضحايا في قوائم القتلى، لكنهم ضحايا حرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كما تؤدي الاكتظاظ في الخيام والملاجئ إلى تفشي الجرب والقمل والالتهابات المعوية والتنفسية.

في الأسبوع الأول، تم تكليفي بالعمل في عيادة متعددة التخصصات مؤقتة أُنشئت حديثًا في رفح. في صباح يوم افتتاح العيادة، هيأت نفسي ذهنيًا لاستقبال عشرات المرضى. وعندما دخلت الهيكل الجاهز الذي سيُستخدم كمركزنا الطبي، وجدت نفسي أخوض وسط موج بشري؛ أمهات يحتضنّ أطفالًا منهكين، ورجال مسنون يتكئون على أقاربهم الأصغر سنًا، وعائلات بأكملها تنتظر بصمت وسط الغبار. وبحلول غروب الشمس، كانت حصيلة فريقنا المنهك أكثر من 700 استشارة طبية.
من بين مرضاي في اليوم الأول كانت سارة، فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا، نزحت من حي الشيخ رضوان في مدينة غزة، وهو حي سُوِّي بالأرض بفعل القنابل والصواريخ؛ حيث كانت تفتقد مدرستها وأصدقاءها، وتعيش مع والديها وخمسة من إخوتها في خيمة صغيرة تحيط بها مئات الخيام الأخرى. لم تكن تجرؤ على الذهاب إلى دورة المياه ليلًا، إذ يوجد مرحاض واحد لكل 200 شخص في المخيم.
كانت سارة تعاني من اليرقان والإرهاق والحمى والغثيان وآلام في البطن. وبعد الفحص السريري، شخصت حالتها بالتهاب الكبد A والجفاف. وفي ظل غياب الفحوصات المخبرية لتأكيد التشخيص، شعرت وكأنني عدت إلى العصور الوسطى، حيث يعتمد التشخيص فقط على التقييم السريري غير المدعوم بالتحاليل. هذا هو شكل انهيار النظام الصحي نتيجة الحرب والحصار الإنساني.
في ذلك الوقت، أفادت منظمة الصحة العالمية بوجود نحو 8,000 حالة إصابة بالتهاب الكبد A في غزة، معظمها بسبب تلوث المياه الناتج عن تسرب مياه الصرف الصحي. قدم فريقنا الطبي لسارة سوائل وريدية، وتحسّن معدل نبضها تدريجيًا. وفي اليوم التالي، عادت سارة إلى العيادة برفقة والديها، ووجهها يضيء بابتسامة عريضة.
رأيت أحمد، عامل بناء، أخبرني أن ابن أخيه البالغ من العمر 15 عامًا نزف حتى الموت في مستشفى الأهلي، حيث لم يتبقَ سوى جراحين اثنين، وقال: “سئمت من إعادة البناء. لم يتبقَ شيء من الحياة هنا.”
في اليوم التالي، عالجت امرأة تبلغ من العمر 24 عامًا تعاني من الربو، باستخدام جهاز تبخير يدوي كنت قد أحضرته من شيكاغو. كانت تعاني منذ 20 يومًا من ضيق في التنفس وسعال وصفير في صدرها داخل خيمتها، وتفاقمت حالتها بسبب البرد وحرق الحطب لتدفئة الخيمة، وبعد تلقيها علاجًا بسيطًا موسّعًا للشعب الهوائية، أخذت أول نفس عميق لها منذ أسابيع.
كل من في العيادة كان يحمل قصة مأساوية، حيث أخبرتني ممرضتي، بيسان، أثناء تغيير الضمادات: “كنت أريد أن أصبح مصورة، ثم أصبحت ممرضة لأن غزة تحتاج إلى ممرضات. الآن، كل ما أتمناه هو أن أرى الغد”.
يعيش الدكتور رشيد القنوع، طبيب الأطفال من جباليا، الآن في فصل دراسي تم تحويله إلى مأوى في مدرسة الفضيلة برفح، مع 50 فردًا من أفراد أسرته النازحين، فيما قُتل عشرة من أقاربه عندما قُصف حيّه. ورغم ذلك، يدير نقطة طبية تابعة لـ”ميدغلوبال” في المدرسة – مركز صحي أولي مؤقت، يعمل فيه أطباء وممرضون نازحون لتقديم الرعاية للنازحين – حيث يعالج 180 مريضًا يوميًا، ويجري 40 عملية تغيير ضماد بمساعدة ممرضين اثنين، غالبًا دون تخدير، ويستخدم الخل كمطهر. وعندما دخلت، كان يغيّر ضماد أحد مرضاه، وهو عبد الله، الطفل الذي يبلغ من العمر 12 عامًا، والذي فقد عينه اليمنى وأصيب بشظايا أثناء جمع الحطب، ونُقل إلى العيادة بعربة يجرها حمار. وكان عبد الله يعض على أسنانه، يكتم صرخاته بينما يعمل القنوع، الذي قال: “لا يوجد لدينا ليدوكايين”.
وفي أحد الفصول الدراسية التي تحولت إلى مأوى في نفس المدرسة، زرت الطبيبة تحرير، اختصاصية توليد، والتي نزحت أيضًا مع أسرتها، والتي كانت قد خضعت لعملية قيصرية قبل يوم واحد فقط. وبفخر، عرضت عليّ طفلها الجميل، محمود، فحملته برفق وقبّلت رأسه، وكانت الغرفة الضيقة تضم عشرات النساء والأطفال يتشاركون نفس المساحة.
في الأسبوع التالي، تم تكليفي بالعمل في وحدة العناية المركزة بمستشفى ناصر، وهو مجمع طبي مميز في خان يونس، وكنت قد عملت هناك عام 2019، وساعدت في تدريب الأطباء المحليين على استخدام أجهزة الموجات فوق الصوتية المحمولة، وهي وحدات صغيرة تُوصل بالهواتف الذكية وتحولها إلى شاشات دوبلر. وتتيح هذه التقنية للأطباء تشخيص النزيف الداخلي المهدد للحياة لدى المصابين، واتخاذ قرارات حاسمة على سرير المريض قد تنقذ الأرواح.
على مدار السنوات، تبرعنا بالعشرات من هذه الأجهزة لعدد من المستشفيات، ونفذنا مهمات تدريبية متعددة، وقد طبقنا برامج مماثلة في أوكرانيا وسوريا واليمن. وقد أثبتت هذه الأجهزة المحمولة أنها لا تُقدّر بثمن في أوقات الحروب والكوارث، خاصة في البيئات التي تعاني من شح الموارد. ويُعد نموذج “تدريب المدربين” نهجًا مثبتًا في مجال الصحة العالمية، إذ يضمن أثرًا مستدامًا من خلال بناء القدرات المحلية داخل المجتمعات.
وعندما زرت المستشفى، لم أتمكن من التعرف عليه، فقد كان مدمّرًا بفعل الحرب ـ تمامًا كحال المدنيين في غزة ـ وتم تعليق 60 بالمائة من خدماته الروتينية، بما في ذلك غسيل الكلى للأطفال وعلاج السرطان. وتوفي 28 مريضًا بالفشل الكلوي بسبب انعدام جلسات الغسيل. وتم تحويل وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة إلى منطقة فرز لحالات الإصابات الجماعية، ولم يتقاضَ طاقمه الطبي رواتبهم منذ أربعة أشهر.
نظرت من نافذة في الممر قرب وحدة العناية المركزة، فرأيت دخانًا أسود يتصاعد من بعض المباني شرق المدينة، بينما كان الجيش الإسرائيلي يقترب. وكانت الحرب تزحف نحو المستشفى، وكان الأطباء قلقين من أن الجيش الإسرائيلي سيحاصر المستشفى، ويذلّهم كما فعل في مستشفى الشفاء، وقال لي أحد الأطباء: “أفضل أن يُقتلوني على أن يُجبروني على خلع ملابسي أمام زملائي.” كانت قصة أحد كبار الأطباء في غزة، الذي أُهين أثناء حصار الشفاء، تتداول بين الجميع، فدخل في اكتئاب حاد بعد تلك الحادثة ولم يعد إلى عمله.
كانت وحدة العناية المركزة مكتظة بالمرضى الجرحى، معظمهم من الأطفال، يعانون من مضاعفات ما بعد العمليات. بعضهم كان يصارع التهابات مستعصية، وآخرون يعانون من حروق شديدة، ولقد جعل الجيش الإسرائيلي وحدة الحروق الوحيدة في غزة، في مستشفى الشفاء، غير صالحة للعمل. ورغم توفر المضادات الحيوية واسعة المجال، فإن غياب اختبارات المزارع والحساسية، التي تحدد نوع البكتيريا المسببة للعدوى وتساعد في اختيار العلاج الأنسب؛ جعلنا نعمل في الظلام، غير قادرين على تحديد مسببات العدوى أو تخصيص العلاج.
النتيجة؟ عودة ظهور البكتيريا المقاومة للأدوية المتعددة، ما حكم على المرضى بالإصابة بتسمم الدم وفشل أعضاء متعددة. وتُعد عودة ظهور البكتيريا المقاومة للأدوية المتعددة من أخطر المشكلات الصحية العالمية بحسب منظمة الصحة العالمية.
كان كل مريض يعاني من الهزال وسوء التغذية الحاد نتيجة انعدام التغذية المعوية، ما أضعف جهازهم المناعي وجعلهم بلا دفاع أمام العدوى. لم تكن النجاة من القنابل ضمانًا للبقاء، حتى من نجا من العمليات الجراحية كان غالبًا ما يموت بسبب العدوى وسوء التغذية. لقد بقي عدد قليل من المرضى على قائمة انتظار تضم 6,000 شخص، بانتظار الإجلاء. وظل أطباء ناصر الشباب – ذوي المهارات العالية والتفاني اللافت – يركزون على مرضاهم رغم الضغوط الهائلة والنقص الحاد في الموارد. ولم أشعر أن خبرتي كانت ضرورية في الوحدة، سوى لمنح الأطباء المنهكين بعض الوقت لالتقاط أنفاسهم.
عندما غادرت المستشفى في اليوم الثاني، سمعت صرخات عالية من مدخل غرفة الطوارئ. هرعت إلى هناك فوجدت فوضى كاملة، أشخاص يحملون أطفالًا وبالغين مغطّين بالدماء، وسيارات إسعاف تصل بلا توقف، وعائلات تبكي بيأس. وصل 38 جريحًا، سبعة منهم كانوا قد فارقوا الحياة عند الوصول. وقيل لي إن قذيفة إسرائيلية أصابت مركزًا لتوزيع المساعدات القريب.
بقيت لأساعد، بينما كانت أرضية غرفة الإصابات مغطاة بالمرضى والدماء. وتجمع أطباء شباب حول أحد المصابين، يستخدمون جهاز موجات فوق صوتية محمولًا للكشف عن نزيف داخلي، وهي تقنية درّبناهم عليها قبل سنوات. بالقرب منهم، كان طبيب يُجري عملية لتركيب الأنبوب داخل القصب الهوائية لخليل، وهو طفل فاقد للوعي يبلغ من العمر 12 عامًا، يعاني من إصابة في الرأس وشظايا في البطن، مستلقٍ على الأرض. وبعد فحص سريع بالموجات فوق الصوتية أكد وجود نزيف حول الكبد، وتم نقله إلى الجراحة.
وبدون تخدير فقد نفد تمامًا،. أدخلت أنابيب صدر لطفلين، كانا في غيبوبة. مثل هذه الظروف لا يمكن تصورها في الولايات المتحدة، لكنها في غزة أثناء الحرب، أصبحت القاعدة.
في مستشفاي في شيكاغو، مركز علاج الصدمات من المستوى الأول يتمتع بموارد وفيرة، تؤدي حالات الإصابات الجماعية إلى استجابة منسقة بدقة، حيث تتحول غرفة الطوارئ إلى مسرح فرز، ويتحرك كل جراح صدمات وطبيب مقيم وممرض على الفور. يتم تثبيت حالة المرضى خلال دقائق: وتُستخدم الموجات فوق الصوتية بجانب السرير لتشخيص النزيف الداخلي، وتنقلهم المصاعد إلى غرف العمليات، ويضمن التخدير إجراءات بلا ألم. ولا يوجد طفل يلهث على الأرض، أو صراخ أثناء إدخال أنابيب صدر بلا تخدير. هناك، لا تتغلب الفوضى على الرعاية، ولا تُفلت الأرواح من بين الأيدي.
في صباح اليوم التالي، أسرعت إلى وحدة العناية المركزة لأطمئن على خليل؛ حيث ودكان في حالة موت دماغي، لكنه لا يزال على أجهزة الإنعاش، لأن إصابته في الرأس كانت بالغة. ومع انقطاع خدمات الاتصال، لم نتمكن من التواصل مع أسرته. ووقّع الطبيب شهادة وفاته، ونُقل جثمانه إلى المشرحة. التقطت صورة لشهادة الوفاة، واحدة من بين آلاف، كدليل للصحافة وللرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي شكك في عدد ضحايا الأطفال في غزة.
لقد عمل فريقنا في ثلاثة مستشفيات: مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، ومستشفى النجار في رفح، ومستشفى ناصر في خان يونس. وعلى عكس الاتهامات الإسرائيلية، لم نشهد أي دليل على عسكرة هذه المنشآت، فلا وجود لعناصر من حماس أو إطلاق نار من داخل المستشفيات أو أسلحة أو مناطق محظورة أو مداخل أنفاق. كانت اللافتات واضحة عند جميع المداخل، تنص صراحة: “يُمنع إدخال الأسلحة”.
سألتُ الأطباء المحليين والزائرين، وأجمعوا جميعًا على نفس الإجابة: لم تُمارس أي أنشطة عسكرية أو تابعة لحماس داخل منشآت الرعاية الصحية في غزة.
عندما صعد وفدنا الطبي إلى الطائرة عائدًا من القاهرة، حملنا معنا ليس فقط ثقل ما شهدناه، بل أيضًا الإلحاح في نقل هذه الحقائق إلى من يملكون القدرة على اتخاذ القرار. وبعد شهر من انتهاء المهمة، انضممت إلى وفد من الأطباء في واشنطن لمشاركة تجاربنا المباشرة مع صناع السياسات، حيث التقينا بمسؤولين من مختلف مؤسسات الحكومة الأمربكية، من وزارة الدفاع إلى وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي في البيت الأبيض.
وفي الكونغرس؛ التقينا بالسيناتورات بيرني ساندرز وكريس فان هولين وبيتر ويلش، إضافة إلى موظفين من مكتب زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وزعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز. تأثر ساندرز بوضوح، وكرر لاحقًا رواياتنا في خطاب له في مجلس الشيوخ.
والتقينا أيضًا بمديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، سامانثا باور، وفريقها، وكنت قد تعرفت عليهم عن كثب خلال أزمة سوريا. وكانت متعاونة للغاية، وفوجئنا بإلمامها بكل تفاصيل الوضع الإنساني في غزة، وطرحت أسئلة دقيقة، وأظهرت تعاطفًا واضحًا.
وكانت تبدو في حالة صراع داخلي؛ شعرت بأنها تبذل جهدًا كبيرًا لفرض وجهة نظرها الإنسانية داخل الإدارة، لكنها كانت محبطة من مقاومة تغيير المسار ومن غياب المساءلة تجاه إسرائيل.
بين الاجتماعات، تسابقنا إلى المقابلات الإعلامية – على سي إن إن، وإم إس إن سي بي، وصحيفة واشنطن بوست، وإذاعة إن آر آر وصحيفة الغارديان – وكانت كل منصة تبث معاناة غزة على جمهور مختلف. وفي مؤتمر صحفي لرابطة مراسلي الأمم المتحدة، وصف الصحفيون الإحاطة بأنها “الأكثر تأثيرًا منذ سنوات.”
أخبرنا الجميع أن بايدن يواجه لحظة حاسمة: هل سيصادق على امتثال إسرائيل للقانون الإنساني الدولي في استخدامها للأسلحة الأمريكية؟ لقد كانت روايات وفدنا – عن إصابات الأطفال برصاص القناصة، وعن منع دخول المساعدات المنقذة للحياة إلى غزة، وعن عمليات البتر دون تخدير – تتحدى هذا السرد. غادرنا واشنطن منهكين، لكننا كنا مصممين، فالدفاع عن الحق مسار بطيء، لكن الصمت يعد تواطؤًا.
في الثالث من أبريل/ نيسان 2024، دخلتُ الجناح الغربي للبيت الأبيض وأنا أحمل عبئًا يكاد يثقل كاهلي؛ أصوات أطباء غزة، ووجوه الأطفال الذين لم أستطع إنقاذهم، ونداءات زملائي الذين يتوسلون العالم لوقف الحرب؛ حيث كنت قد وعدتهم أن أصواتهم ستُسمع في أعلى المستويات، مهما كان الطريق صعبًا.
نصحني الكثير في مجتمعي بعدم الذهاب؛ فلقد كانوا غاضبين من السياسة الأمريكية، ولقّبوا بايدن بـ”جو الإبادة”، محمّلين إياه مسؤولية تمكين إسرائيل من شن الحرب. لكنني ذهبت على أي حال، ليس كسياسي أو ناشط، بل كشاهد عيان وكإنساني وكشخص رأى من المعاناة ما لا يمكن السكوت عنه.
ساد الصمت في الغرفة. حول الطاولة جلس بايدن ونائبته كامالا هاريس ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد، وكان زملائي من منظمة ميدغلوبال إلى جانبي.
تحدث أولًا الدكتور طاهر أحمد، طبيب طوارئ الشاب الفلسطيني الأمريكي، بصوت متقطع وهو يصف آلام العائلات الفلسطينية ومعاناته الشخصية، فغلبته المشاعر، فطلب الخروج من الغرفة، فأومأ الرئيس بصمت، كان يفهم.
ثم جاء دوري، فشكرت بايدن على اللقاء، لكنني لم أُجامل في كلماتي. عرضت عليه صورتين – الأولى لطفلة تُدعى هيام، تبلغ من العمر سبع سنوات، توفيت متأثرة بحروق من الدرجة الثالثة بعد أن دمر القصف الإسرائيلي منزلها، والثانية للطفل خليل، البالغ من العمر 12 عامًا، الذي التقيته وسط الدمار في مستشفى ناصر، ووضعت صورة شهادة وفاة خليل بين يديه.
قلت له: “خلف الرقم – 13,800 طفل قتيل – وجوه حقيقية، وحيوات حقيقية.” واستشهدت بكلمات مارتن لوثر كينغ الابن: “الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان.” ثم طرحت مطالبي بوضوح: وقف فوري لإطلاق النار، وعدم اجتياح رفح، وإدخال ألف شاحنة مساعدات يوميًا إلى غزة، وتتفيذ خطة مارشال لإعادة الإعمار.
نظرت إليه مباشرة في عينيه وقلت: “الرئيس بايدن، إرثك سيُحدد من خلال أفعالك في غزة”. قبل عقد من الزمن، وقفت في هذا الجناح الغربي خلال إفطار رمضاني ووجهت التحذير ذاته إلى الرئيس باراك أوباما بشأن تقاعسه في سوريا، وذلك بعد عودتي من حلب، حيث شهدت بنفسي الدمار الذي خلفته البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية والهجمات على المستشفيات والمدنيين السوريين. تلك الأزمة أطلقت كارثة لاجئين عالمية لا تزال تداعياتها تتردد في أنحاء العالم.
استمع بايدن، ثم تحدث عن فظائع حماس – أم وطفل أُحرِقا أحياء – لكنه أقر بأن رد إسرائيل تجاوز الحدود. وقارن ذلك برد فعل أمريكا المفرط بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، مستحضرًا ذكرى ابنه الراحل بو، الذي خدم في العراق. واعترف بأن إسرائيل لا تملك خطة لحماية المدنيين في رفح، ووعد بالضغط من أجل إدخال المزيد من المساعدات. وأيدته هاريس، مؤكدة على كرامة الفلسطينيين والحاجة إلى حل سياسي.
انتظرت الأسابيع التالية لأرى إن كان اجتماعنا قد أحدث أثرًا، لكن لم يتغير شيئًا، فقد فشل بايدن في وقف الهجوم على رفح وهو الاجتياح ذاته الذي تعهد بمنعه. وسُويت المدينة بالأرض، بما في ذلك العيادة التي كنت أعمل فيها. واستمرت القنابل في السقوط، ومات الأطفال بسبب الشظايا وسوء التغذية، وتعرضت المستشفيات للهجوم، وتفاقمت المجاعة.
لقد مرّ عامان منذ اندلاع الحرب، وعشرون شهرًا منذ مهمتي الطبية، ولا تزال حرب إسرائيل مستعرة. وأصبح الوضع الإنساني كارثيًا، أسوأ بكثير مما شهدته. لم تعد رفح في الجنوب موجودة؛ فقد دُمّرت بالكامل. أما مدن الشمال، مثل جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، فقد سُويت بالأرض تمامًا. ولم تتبقَ سوى 19 مستشفى من أصل 38 في غزة تعمل جزئيًا. ومعظم المدارس وجميع الجامعات أصبحت أنقاضًا، وأودى التدمير التدريجي للممتلكات والموارد وسبل العيش إلى ترك سكان غزة البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة بلا وسائل للبقاء، وأصبحت معظم أراضي القطاع غير صالحة للسكن.
ويتحمل العاملون في القطاع الصحي العبء الأكبر من الحرب. منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وقع نحو 700 هجوم على منشآت صحية، وقُتل 1,580 من العاملين في المجال الصحي، بينهم عدد من الأطباء والجراحين البارزين. وهؤلاء الأطباء لا يمكن تعويضهم حتى لو توقفت القنابل عن السقوط. وقد خلصت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة إلى أن “إسرائيل ارتكبت جريمة إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.”
من بين مستشفيات غزة الـ38، لا تزال 19 فقط تعمل، وهي تكافح في ظل نقص حاد في الإمدادات، وغياب الكوادر الطبية، وانعدام الأمن، وتزايد الإصابات، بينما يعمل الطاقم في ظروف شبه مستحيلة. ومن بين هذه المستشفيات، تقدم 12 منها خدمات صحية متنوعة، بينما تقتصر البقية على تقديم الرعاية الطارئة الأساسية فقط.
لقد قُتل أكثر من 67,000 شخص، بينهم أكثر من 20,000 طفل، وأُصيب 169,000 في هذه الحرب، نصفهم يعانون من إصابات متوسطة إلى شديدة، ما يعني حياة مليئة بالعدوى والمضاعفات والألم والصدمة والعجز واحتمال الوفاة. وتُعد نحو 42,000 من هذه الإصابات مغيرة للحياة، بحسب منظمة الصحة العالمية. ويُنتظر إجلاء نحو 13,000 مريض. وقد تم تهجير نحو 90 بالمائة من السكان، معظمهم نزح أكثر من مرة.
بات سكان غزة محصورين في أقل من 15 بالمائة من الأرض، يُدفعون بشكل منهجي نحو الجنوب في نمط يحمل جميع سمات التطهير العرقي. وقد صدر مؤخرًا أمر إخلاء جديد للمنطقة الوسطى. وأصبحت معظم غزة منطقة حمراء؛ أي مصنفة كمنطقة عسكرية نشطة يُمنع فيها وجود المدنيين، بما في ذلك الحي الذي تقيم فيه مديرتنا الطبية، الدكتورة سلوى الطيبي. ومع ذلك، لا تستطيع مغادرة شقتها، حيث قالت لي خلال مكالمة هاتفية في أغسطس/ آب 2025، وكان اليأس ملموسًا في صوتها: “لم أجد مكانًا صالحًا للعيش. نحن مرهقون يا دكتور. الناس ينهارون في الشوارع من الجوع والإجهاد”.
تعيش سلوى الطيبي مع 17 فردًا من أسرتها في شقة شبه مدمرة بمدينة غزة. وفقدت 40 رطلًا من وزنها، وتعاني من التهابات معوية بسبب المياه الملوثة، التي تُوزع الآن مرة واحدة كل أسبوعين. ولثلاثة أشهر متتالية، تعيش أسرتها على حساء العدس وبعض المعكرونة فقط. فالأسواق فارغة، حتى المال لم يعد يشتري الطعام. قالت: “كيلو الطماطم بـ100 شيكل (30 دولارًا)، وكيلو الطحين بـ35 دولارًا.” ومرة واحدة في الأسبوع، تعطي كل طفل قطعة واحدة من الغذاء العلاجي الجاهز، ملفوفة في خبز، وأضافت: “إنهم يتضورون جوعًا، ولا أعرف ماذا أفعل”؛ حيث لا تستطيع أن تخوض الزحام القاتل في مراكز التوزيع للحصول على كيس طحين.
يُقتل الناس يوميًا برصاص الجنود الإسرائيليين أو الحراس المسلحين خارج مراكز توزيع المساعدات، أثناء انتظارهم حصص الطعام أو محاولتهم الوصول إلى أحد مواقع التوزيع الأربعة المتبقية في هذه المناطق الحمراء القاتلة. لقد قُتل أكثر من ألف شخص من طالبي المساعدات في أماكن تحولت فعليًا إلى ساحات قتل متنكرة في هيئة مراكز توزيع.
على مدار سبعة أشهر متتالية منذ مارس/ آذار 2025، منعت إسرائيل دخول معظم المساعدات الإنسانية. ويُسمح بدخول ما معدله 29 شاحنة يوميًا، مقارنة بدخول 500 شاحنة قبل الحرب. وخلال الهدنة الأخيرة، التي انتهت في مارس/ آذار، كانت تدخل غزة نحو 600 شاحنة يوميًا.
شهدت غزة أيضًا ارتفاعًا حادًا في حالات سوء التغذية الحاد الوخيم والوفيات المرتبطة به بين الأطفال. قد يموت ما يصل إلى 50 بالمائة من الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية حاد دون تدخل عاجل بسبب ضعف المناعة، ويمكن أن تؤدي التهابات بسيطة مثل الإسهال والالتهاب الرئوي إلى الوفاة. كما يموتون بسبب انخفاض السكر في الدم، واختلال توازن الأملاح، وفشل القلب والكلى والكبد. حتى إطعام هؤلاء الأطفال يمثل تحديًا، إذ قد يموتون بسبب “متلازمة إعادة التغذية”، وهي مضاعفة طبية ناتجة عن اختلالات في الجسم عند العودة إلى التغذية الطبيعية. أما من ينجو منهم، فسيعاني من تأخر في النمو وأضرار لا رجعة فيها في الوظائف الإدراكية والصحة النفسية والجسدية.
إن مستوى المساعدات الحالي غير كافٍ على الإطلاق لمنع المزيد من الوفيات. ففي يوليو/تموز، انضمت منظمة ميدغلوبال إلى أكثر من 100 منظمة إغاثية عاملة في غزة، من بينها منظمة العفو الدولية ومنظمة كير الدولية وأطباء بلا حدود وأوكسفام ومنظمة أنقذوا الأطفال، للمطالبة برفع الحصار الإسرائيلي عن المساعدات، والذي يُعد السبب الرئيسي لأزمة المجاعة الجماعية.
لا يزال من الممكن منع المجاعة المصطنعة في غزة تمامًا، فلقد أدى الحصار المتعمد والتأخير في إدخال الغذاء والرعاية الصحية والمساعدات الإنسانية على نطاق واسع إلى إزهاق أرواح كثيرة. والحل بسيط: يجب على إسرائيل رفع الحصار، والسماح بدخول أكثر من 1,000 شاحنة مساعدات يوميًا عبر المعابر البرية. لقد أبدت الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية استعدادها لذلك، بينما تنتظر آلاف الشاحنات المحملة فتح الطريق لإيصال المساعدات المنقذة للحياة.
بعد عامين من الحرب والحصار والصمت الدولية، وصلت غزة إلى نقطة تحول كارثية. ورغم أن المنظمات الإنسانية والحقوقية أدانت بالإجماع هجمات 7 أكتوبر، إلا أن شيئًا لا يبرر الدمار الذي تلاها.
اليوم، أتساءل إن كان بالإمكان إنقاذ غزة بعد كل ما حدث، فلقد حوّلت الحملة العسكرية الإسرائيلية معظم أراضي القطاع إلى أنقاض غير صالحة للسكن. وبحزن عميق، أخشى أننا نشهد تدميرها بشكل لا رجعة فيه، رغم أنني أدعو أن تثبت صلابة الشعب الفلسطيني وغزة أن هذا الخوف في غير محله.
أرسلت لي سلوى الطيبي صورة من مركزنا الطبي، حيث ظهر جسدها الهزيل منحنٍ فوق أم تحتضن طفلها محمد البالغ من العمر عامين. كان الطفل مجرد جلد مشدود على عظم، يجسد ما فعلته 22 شهرًا من الحرب الشاملة بغزة. في وجنتيه الغائرتين وعينيه الغارقتين، رأيت القصة ذاتها تتكرر ثلاث مرات.
كل فرد في فريقنا الطبي المحلي تأثر بانعدام الأمن الغذائي، فلقد تآكل جسد الطيبي من الجوع والإرهاق المستمرين. كانت رسالتها الصوتية الأخيرة، المكونة من خمس كلمات فقط، تحمل ثقل الأزمة بأكملها: “لم أعد أحتمل أكثر.”
المصدر: نيولاينز