مطلع أكتوبر الحالي، وقبل مغادرته العاصمة الأميركية واشنطن، اجتمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع مجموعة من المؤثّرين الأميركيين على وسائل التواصل الاجتماعي، مطالبًا إيّاهم بالذود عن سمعة “إسرائيل”، واستخدام دورهم في التأثير للتواصل بعمق مع “جيل Z” وتغيير نظرته عن “إسرائيل”، واصفًا إيّاهم بالمجتمع الأكثر أهمية.
اجتماع نتنياهو توافَق مع ظهور وثائق تؤكّد أن هؤلاء المؤثّرين يتقاضَون مبالغ مالية كبيرة مقابل نشرهم محتوى لصالح الكيان، حيث تُقدَّر قيمة كل منشور على منصّات مثل تيك توك وإنستغرام بما لا يقل عن 7 آلاف دولار، وهو مبلغٌ هامشي مقابل ملايين أخرى تُضَخّ عبر النظام الحكومي وسلسلة أخرى من المؤسسات غير الحكومية وغير الإسرائيلية، المُجمعة على هدفٍ واحد؛ “غسيل إلكتروني لإسرائيل”.
تتورّط في الهدف ذاته سلسلةٌ عابرة القارات من شركات إعلامٍ وعلاقات عامة وعلاقات دولية، تقوم بإطلاق المشروع تلو المشروع، والحملة تلو الحملة، لاستهداف طبقاتٍ مختلفة من الجماهير، تبدأ من “جيل Z” وتمرّ بالأكاديميين والسياسيين، وتنتهي عند النقابات والمؤسسات غير الحكومية في البلدان المختلفة.
بعد خسارة الاحتلال المعركة على الساحة الإعلامية.. نتنياهو يجتمع مع مؤثري الولايات المتحدة ليطلب دعمهم وخاصة على منصتي “تيك توك” و”إكس” اللتين شهدتها انتشارًا غير مسبوق للمحتوى الداعم لفلسطين. pic.twitter.com/iF5hJaXPsz
— نون بوست (@NoonPost) September 27, 2025
مشروع 545
وفقًا لصحيفة يديعوت أحرونوت، ففي نهاية سبتمبر/ أيلول المنصرم، أُقِرّت ميزانية العام الجديد لـ”إسرائيل”، مشروعًا حمل عنوان “545“، الذي سيُصبح جزءًا من استراتيجيتها لتعزيز صورتها الدولية عبر وسطاء الوسائل الرقمية وبدعمٍ من الذكاء الاصطناعي.
الهدف المُعلَن للمشروع، الذي حمل اسم تخصيصه “545” مليون شيكل (حوالي 145 مليون دولار)، هو خلق خطاب مؤيّد لـ”إسرائيل”، مواجهٍ للسرديّات المضادة، وقادر على توجيه أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وGrok وGemini لتكون أكثر دعمًا لرواية “إسرائيل”. وعليه، فإنه سيستخدم مؤثّرين ينشطون في منصّات تيك توك وإنستغرام ويوتيوب والبودكاست.
كما لن يقتصر العمل فيه على المستويات الحكومية والمؤثّرين، بل ستقوده شركة أميركية تُدعى Clock Tower X، يرأسها مدير حملة دونالد ترامب الانتخابية براد بارسكال (Brad Parscale)، تقوم بتهيئة خوارزميات البحث والأدوات الرقمية لصالح السرديّة الإسرائيلية.
وفقًا لخطة المشروع، فالنسبة الكبرى من الجمهور المستهدف هم “جيل زد” بنسبة (80%)، وهي النسبة الأكثر استخدامًا للمنصّات الاجتماعية، أما مقياس الظهور، فهو ما لا يقل عن 50 مليون ظهور شهري للمحتوى الداعم للكيان.
أما في الجزء المخصّص بالمؤثّرين، أو ما يُعرف بمشروع “إستر”، فسيتم تزويدهم بمنشورات محرَّرة بتقنيات واستراتيجيات منسّقة، تشمل الذكاء الاصطناعي وتحسين محركات البحث، وسيكون التواصل معهم عبر رئيس ديوان وزير الخارجية “الإسرائيلية” عيران شايوفيتش.
ويبدأ البرنامج على مراحل؛ أولها التعاون مع 5 إلى 6 مؤثّرين يُطلَب منهم النشر ما بين 25 إلى 30 منشورًا شهريًا، قبل أن يتوسّع في المرحلة اللاحقة ليشمل عددًا أكبر من المؤثّرين، بالإضافة إلى وكالات أميركية وشبكات من صُنّاع المحتوى الإسرائيليين، حيث سيعتمد استراتيجية “دمج الرسائل المؤيّدة ضمن محتوى محايد أو برامج إذاعية يومية، دون كشف أن المحتوى مدعوم رسميًا”.
وبينما تتضارب بيانات وسائل الإعلام حول ميزانية مشروع “إستر”، فإن يديعوت أحرونوت تؤكد أن العقود المالية للمؤثّرين تصل قيمتها لـ900 ألف دولار للمؤثّر الواحد، بميزانية شهرية قدرها 250 ألف دولار، وأنّ لقاء نتنياهو معهم كان فاتحة للمشروع الذي سيعمل انطلاقًا من العام العبري الجديد، مستغلًّا من وقف الإبادة الجماعية لمحو الضرر الدبلوماسي الذي أصابها خلال عامين من الحرب.
الجبهة الثامنة
لقاء نتنياهو أتاح الفرصة له للمباهاة بجهود المؤثّرين المتضامنين مع الكيان، واصفًا إيّاهم بـ”الجبهة الثامنة“، وبأنهم يخوضون حربًا بالسلاح الأهم في أيامنا هذه، ألا وهو وسائل التواصل الاجتماعي. كما حمل اللقاء صبغةً أميركية رسمية، إذ إنّ التعاون مع المؤثّرين مسجَّل لدى وزارة العدل الأميركية وتحت أعينها، وفق قانون تسجيل الوكلاء الأجانب.
وهو ما كانت صحيفة تايمز أوف إسرائيل قد كشفته في وقتٍ سابق، مؤكّدةً أن شركة Bridges Partners قد ارتبطت بعقود سابقة مع مجموعات إعلامية أخرى حول العالم، فيما عُرف بـ”حملة المؤثّرين”، من بين هذه المجموعات Allison البريطانية، وHavas Group الفرنسية، المسؤولة عن تنفيذ حملات التأثير في فرنسا، ألمانيا، والمملكة المتحدة عبر فروعها Havas Media وHavas PR.
لا يقتصر عمل حملة المؤثّرين على النشر والترويج الإعلامي، بل يتجاوزه لتنظيم رحلات ميدانية وزيارات مصمّمة لمواقع إنسانية أو نقاط حدودية، مثل جولات Israel365 المدعومة رسميًا، والمشاركة في إنتاج حزم من الرسائل، وتعزيز الارتباط الإعلامي للمؤثّر نفسه بالكيان وسرديّته، بهدف نحت سرديّة بديلة للسرديّة الفلسطينية، وتصوير الإبادة كإجراء ضروري لا يمكن تجاوزه.
هذا العزم الإسرائيلي الكبير أتى كردّ فعلٍ على الاختراق الذي حققته السردية الفلسطينية على مواقع التواصل الاجتماعي، ما أفرز موجة ضغط على الكيان والأنظمة الداعمة له، بدءًا من المظاهرات الشعبية، فانتفاضة الجامعات، فتغيّر ميول السياسيين والأكاديميين، فحملات كسر الحصار غربية المنشأ، فخطاب إعلامي منكفئ عن معاداة السامية وفق التعريف “الإسرائيلي”، حتى تعزّز الشعور العام بأن “إسرائيل” منبوذة كيانًا وشعبًا، من جنوب شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية، ومن عمق أوروبا إلى أطراف إفريقيا.
ـ لاري إليسون، رئيس شركة “أوراكل” وأحد أغنى رجال العالم، ومالك جزئي لـ “تيك توك” في الولايات المتحدة، موصوف بأنه من أبرز الداعمين لـ “إسرائيل”.
ـ تقرير من موقع “دروب سايت نيوز” كشف أن إليسون تحقق من “ولاء” ماركو روبيو لـ “إسرائيل” قبل دعم حملته الانتخابية للرئاسة بـ3 ملايين… pic.twitter.com/zRfabnc94x
— نون بوست (@NoonPost) October 4, 2025
لكن العزم لم ينجح في تحقيق أيّ انفراج خلال عامَي الحرب، في مقابل تصدُّر للفلسطينيين ومناصريهم في منصّات التواصل، وخاصة تيك توك، ما جعل (ملامح) صفقة شراء تيك توك الأميركية مكسبًا حقيقيًا في ساحة الحرب الإعلامية لـ”إسرائيل”، خاصة بعدما وقّع ترامب في 25 سبتمبر/ أيلول على أمر تنفيذي يجعلها ممكنة، ويتيح تأسيسها وفق الأنظمة القانونية والتنظيمية الداخلية للولايات المتحدة.
اللافت أن الصفقة – إن تمّت – ستنقل المنصّة من الهيمنة الصينية إلى هيمنة أميركية لأصحاب رؤوس أموال مقرّبين وداعمين لجيش الاحتلال، ومتبرّعين رئيسيين له، كما أنها ستتيح للكيان التحكّم في خوارزمياتها، وتوجيه الرأي العام من خلالها، والتحكّم في اتجاهاته عبر المستثمرين الأميركيين أنفسهم.
وهو ما سيُقوّي الحملة الرقمية الإسرائيلية ويمنحها مجالًا أكبر لتوجيه رسائلها المؤيّدة، حيث تقول بعض التقارير إن “إسرائيل” تنظر للصفقة “كأهمّ عملية شراء في حربها الإعلامية”، وأنّ خروجها من العزلة الشعبية والإعلامية وعودتها طرفًا فاعلًا في السرد الرقمي مرتبطٌ بالاستحواذ الأميركي لـ”تيك توك”.
وما بين مشروع “545” وحملة المؤثّرين، ومؤسسة التراث “إستر”، يظهر أن الكيان يخصّص جزءًا كبيرًا من تركيزه وموارده للحفاظ على استدامة مستقبلية لتأثيره وهيمنته في الولايات المتحدة الأميركية، فجزءٌ كبير من أموال التجنيد مخصّص لمؤثّرين أميركيين.
يؤكّد على ذلك تضمين العقود الموقَّعة لبنود حول “اتصالات استراتيجية” لمكافحة معاداة السامية في الولايات المتحدة، وتوسيعٌ لجهدٍ سابق للترويج للآراء “الإسرائيلية” في الخارج، بدأ بتخصيص 150 مليون دولار للدبلوماسية العامة في الولايات المتحدة عام 2024، بزيادة أكثر من 20 مرّة عن السنوات السابقة، ما برّره وزير الخارجية جدعون ساعر بالقول: “صمود إسرائيل في الخارج يعتمد على كسب معركة الخطاب الإعلامي”.
المؤثّرون العرب: من البصل إلى العسل
هذا الهوس الإسرائيلي بحشد الرسائل والوسائل والمؤثّرين، ومواجهة السردية العفوية الفلسطينية، الخارجة من المعاناة لا من القوالب، والمؤثّرة بفعل اتصالها بالألم لا بفعل توليدها بالذكاء الاصطناعي، قوبل على مدى الإبادة بدورٍ سلبي من المؤثّرين العرب، وصل حدّ تجنّد بعضهم ما بين المشكّك في سردية الفلسطيني، أو المتجاهل، فالمعادي لها – إلا ما ندر.
تصاعد ذلك مع استمرار الإبادة، ووضوح تخاذل الأنظمة العربية، وقمعها للفعل الشعبي على الأرض أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وملاحقتها لأيّ شكل من أشكال التعاطف مع الفلسطيني أو إسناده ماديًا ومعنويًا، وهو ما حوّل معظم جهد التأثير على عاتق المؤثّرين الأجانب المتعاطفين مع فلسطين، والمؤثّرين العرب والفلسطينيين خارج الدول العربية.
وبالتشبيك مع الفلسطينيين في الميدان، استطاع هؤلاء المؤثّرون نشر اليوميات والفيديوهات المباشرة، والشهادات الشخصية، والصور المؤثّرة، التي استُخدمت لاحقًا على نطاق واسع كأدلّة على وجود جرائم حرب وإبادة جماعية، خاصةً وأن كثيرًا منهم استُهدف بقصفٍ أو اعتقال، ما حوّل شهاداتهم لوثائق قانونية تحمل صيغًا إنسانية وتأثيرًا متعدّد الأبعاد.
الوجه الآخر، كان المؤثّر اللامبالي، الذي لم ينشر عن غزّة رغم وصوليّته الكبيرة للجمهور، ووجّه سهامه مرارًا وتكرارًا للمقاومة، مقدّمًا تبريرات “إسرائيلية” لاستمرار الإبادة، واستمرّ في الترويج لماركات تجارية فاخرة، بعضها يندرج في إطار المقاطعة، وقدّم محتوى ترفيهيًا متجاهلًا ألوف الأرواح التي تُزهق تحت الدمار والنار في غزّة.
هذا السلوك أنتج موجات مختلفة من الحملات الشعبية الرافضة لهم، منها حملات مقاطعة Asad Sisters، وهي عائلة من المؤثّرين الذين يركّزون على المحتوى التسويقي والترفيهي، والذين لم يقدّموا خلال الإبادة سوى التواطؤ ودعم منتجات المقاطعة. هناك أيضًا حملات “ارفع صوتك” المُطالِبة ببعض المنشورات لدعم غزّة على الأقل.
وحملة مقاطعة المشاهير، 2024 و2025 على المستوى العربي، و#Blockout2024 على المستوى الغربي، التي اعتُبرت الأضخم على مستوى العالم لحظر المشاهير والمؤثّرين الذين رفضوا استخدام منصّاتهم لدعم غزّة وأهل فلسطين، حيث لم تقتصر على إلغاء المتابعة، بل تطوّرت لحظرٍ واسعٍ للحسابات، وتراجع ضخم في عدد المتابعين.
وهو ما اعتُبر تطوّرًا في فقه المقاطعة، التي كانت تقتصر على المنتجات والفعاليات المرتبطة بالاحتلال، والشخصيات اللصيقة به، لتغدو مرتبطة بمؤثّرين آخرين من المشاهير والمشايخ والعلماء والفاعلين والأكاديميين والإعلاميين، ممّن تجاهل الإبادة وصمت عن نصرة غزّة.
لم يطل الأمر كثيرًا حتى لمس المؤثّرون نتائج المقاطعة، ما دفع بعضهم لإصدار بيانات دعم لفلسطين والاعتذار عن صمتهم، فيما خسر الآخرون مكانتهم نتيجة تعاليهم وإصرارهم على التجاهل، خاصةً وأنّ اتجاه مقاطعتهم تجاوز نصرة غزّة حتى بوصفها قضيّة إنسانية، إلى البحث في عمق المحتوى الذي يطرحونه ودوره في الرقي بالإنسان والإضافة له.
بالمحصّلة، تخوض اليوم “إسرائيل” معركتها على جبهة وسائل التواصل الاجتماعي، محفوفةً باستثمارٍ حكومي هائل في شبكات المؤثّرين ومخرجاتهم، والاستعانة بتكتيكات لإدارة السرد وتعزيز هيمنته. على الأرض، لا يبدو ذلك أكثر من محاولة إطفاء حريق إعلامي هائل عبر رمي المزيد من الوقود عليه، وهو ما يعني نتائج لحظية لدى جمهور معيّن.
أمّا ما خلف المنشور والصورة، فهو حقائق لا تغيّرها الألاعيب، وشهادات راحلين لا تُغيّبها الأكاذيب، وأرقام وتقارير دولية ثقيلة في ميزان السرد الدولي، لا تمحو عن “إسرائيل” وصمة الإبادة الجماعية، ولا تعيد لها حزن الضحية الذي لطالما استترت خلفه في جرائمها.
الرهان، هو على استمرار الصوت المتعاطف مع فلسطين والمناصر لها، حتى لو انتهت الحرب، فالإبادة لم تبدأ يومًا في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولم تنتهِ في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2025، إنما هي محطّة من احتلال، يزداد وطأة جيلًا بعد جيل.