ترجمة وتحرير: نون بوست
قد تكون الحرب في غزة شارفت أخيرًا على نهايتها، بعد عامين من سفك الدماء والدمار، لكن من بين الأضرار التي خلّفتها ضربات قاسية لعلاقة إسرائيل بمواطني أقرب حلفائها وأكثرهم ثباتًا: الولايات المتحدة.
لقد تدهورت سمعة إسرائيل في الولايات المتحدة بشكل كبير، وليس فقط في الجامعات أو بين التقدميين. فوفقًا لاستطلاع رأي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” الشهر الماضي، فقد تبين، وللمرة الأولى منذ عام 1988، أن عدد الأمريكيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين يفوق عدد الذين يؤيدون الإسرائيليين.
أما اليهود الأمريكيون، الذين كانوا لفترة طويلة أقوى داعمي إسرائيل داخليًا، باتوا ينتقدون بشدة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية على خلفية حرب غزة. فقد أظهر استطلاع جديد أجرته صحيفة “واشنطن بوست” أن أغلبية منهم يعتقدون أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، بعد أن قتلت عشرات الآلاف من المدنيين وقيّدت وصول المساعدات الغذائية، فيما يرى أربعة من كل عشرة أنها ارتكبت إبادة جماعية، وهو الاتهام الذي تنفيه إسرائيل. هذا التحول خلق دوافع جديدة حتى لدى الديمقراطيين المعتدلين في الكونغرس لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل، بما في ذلك تقليص المساعدات العسكرية الأمريكية.
وبات الضرر يتجاوز الانقسامات الحزبية، فعلى الرغم من جهود الجمهوريين لربط حزبهم بإسرائيل واتهام الديمقراطيين بدعم أعدائها، فإن الشباب من المسيحيين الإنجيليين بدأوا ينقلبون على مواقف آبائهم، ويرون في إسرائيل دولةً قمعية لا ضحية، وهذا التباعد لا يقتصر على الإنجيليين وحدهم.
وقالت المعلّقة المحافظة ميغن كيلي عرضًا في حديثها مع تاكر كارلسون في برنامج البودكاست الخاص به الشهر الماضي: “كل من هم دون الثلاثين ضد إسرائيل”.
السؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت إسرائيل ستخسر هؤلاء الأمريكيين الشباب على المدى الطويل، وما الذي سيفعله مؤيدوها لمحاولة استعادة دعمهم.
ويرى شبلي تلحمي، الباحث والمختص في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في جامعة ماريلاند، أن الوقت قد فات.
وقال تلحمي: “لدينا الآن جيل غزة النموذجي، كما كان لدينا جيل فيتنام وجيل بيرل هاربر. هناك شعور متزايد بين الناس بأنهم يشهدون إبادة جماعية في الزمن الحقيقي، مضخّمة بوسائل الإعلام الجديدة التي لم تكن موجودة في زمن فيتنام. إنه جيل جديد يرى إسرائيل كطرف معتدٍ، ولا أعتقد أن هذا التصور سيزول قريبًا.”

وقال الكاتب الإسرائيلي الأمريكي المولد يوسي كلاين هاليفي إنه فوجئ خلال جولة له مؤخرًا في عدد من الجامعات الأمريكية، ليس بخطاب النشطاء المناهضين للصهيونية الذين التقى بهم، بل بمدى تأثيرهم على نظرائهم غير المنخرطين سياسيًا.
وأضاف هاليفي: “إنهم يعتنقون فكرة سامة مفادها أن هناك شيئًا غير مشروع في الأساس في وجود دولة يهودية. وهذا ما يقلقني؛ هذا الانطباع العام بأن لإسرائيل تنبعث منها رائحة سيئة”.
في المقابل، يرى آخرون أن انتهاء القتال، وتوقف تدفق الصور المروعة من غزة التي غمرت منصات التواصل الاجتماعي على مدى عامين، قد يتيح لمؤيدي إسرائيل في الولايات المتحدة فرصة لاستعادة توازنهم.
وقالت هايلي سويفر، الرئيسة التنفيذية للمجلس الديمقراطي اليهودي في أمريكا: “أعتقد أن هناك إمكانية لإعادة ضبط الطريقة التي يُنظَر بها إلى إسرائيل”.
وأضافت داليا شايندلين، خبيرة استطلاعات الرأي الأمريكية المولد والمقيمة في إسرائيل، والتي تعمل باحثة زائرة في جامعة بنسلفانيا: “هناك مجال للارتداد الإيجابي. يميل الناس إلى المبالغة في تقدير حجم الضرر. مجرد وقف المجازر سيسمح للبعض بالعودة إلى منطقة الراحة في دعمهم لإسرائيل”.
ويستند هذا التفاؤل إلى الاعتقاد بأن الأساس الذي تقوم عليه العلاقة الأمريكية الإسرائيلية لا يزال متينًا، لا سيما في ما يتعلق بالمصالح الوطنية المشتركة، مثل التعاون العميق والمثمر بين أجهزة الاستخبارات والجيش وقطاعات التكنولوجيا في البلدين، وهو تعاون قد يكون أكثر وضوحًا للمسؤولين الحكوميين منه لعامة الناس.
وقال أفنير غولوف، المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي والباحث في مؤسسة “مايند إسرائيل” البحثية في تل أبيب، والمتخصص في متابعة العلاقات الإسرائيلية الأمريكية: “نحن ورقة رابحة في المنافسة بين القوى الكبرى ضد الصين. نحن في صميم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط”.
وأضاف غولوف: “عندما جاء جدي إلى هنا، كان يريد فقط ملاذًا آمنًا لليهود. لم يكن يتخيل أن التكنولوجيا الإسرائيلية ستلعب دورًا مهمًا في تشكيل النظام العالمي والحفاظ على تفوق الولايات المتحدة على خصومها”.

ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كانت الدولتان – اللتان طالما تقاسمتا طموحات متشابهة، كأن تكونا أرضًا موعودة للمضطهدين، ومدينة متلألئة على التل ونموذجًا يُحتذى به – لا تزالان قادرتين على الاعتماد على تلك القيم كأساس لعلاقات وثيقة مستمرة.
وقال هاليفي، الزميل في معهد شالوم هارتمان في القدس، إن هذه الطموحات باتت محل جدل في كلا البلدين، في ظل الاستقطاب السياسي الحاد.
وأوضح هاليفي أن هناك روايتين متنافستين: الأولى هي الرواية الليبرالية الإسرائيلية عن قيام دولة يهودية بعد المحرقة، “كافحت من أجل القيم الليبرالية تحت ضغط دائم”، وهي الرواية التي قال عنها “تمثل قصتي”، وتلقى صدى لدى الديمقراطيين.
أما الرواية الثانية، فهي رواية الحكومة الإسرائيلية التي تصوّر إسرائيل على أنها “حصن أمريكا في مواجهة العالم الإسلامي”، وهي الرواية التي “تلقى صدى لدى اليمين الأمريكي”، بحسب هاليفي.
وأضاف هاليفي: “من الصعب بناء علاقة بين البلدين على قيم مشتركة، عندما لا يستطيع أي منهما الاتفاق داخليًا على قيمه الخاصة”.
ويقول الخبراء إن الانتخابات الإسرائيلية المرتقبة العام المقبل قد تغيّر الأمور، ليس فقط إذا خسر نتنياهو، بل أيضًا إذا جاءت حكومة جديدة تعكس التوجه العام الوسطي في البلاد.
وقال غولوف إن استطلاعات الرأي تشير إلى رفض التطرف السياسي، مشيرًا إلى أن الديمقراطية الإسرائيلية لا تزال جديرة بالتقدير، حتى بالمقارنة مع نظيرتها الأمريكية في الوقت الراهن، بالنظر إلى أن الاحتجاجات الشعبية في إسرائيل ضغطت على نتنياهو وشجعت ترامب على إنهاء الحرب.

وقال غولوف: “إنها قصة نجاح للجمهور الإسرائيلي الذي يرسل أبنائه إلى غزة من جهة، وينظم الاحتجاجات كل أسبوع من جهة أخرى”، وأضاف مشيرًا بوضوح: “ولم يُطلق أحد النار على أحد”.
وتابع غولوف: “إذا نجحت هذه الاحتجاجات – وأعتقد أنها ستنجح – فلن يتمكن أحد من القول إن المجتمع الإسرائيلي فقد طبيعته الليبرالية. أعتقد أنه استعادها”.
ورغم صعوبة إصلاح العلاقة وكسب تأييد الأمريكيين الذين انقلبوا على إسرائيل بسبب الحرب، يتفق الخبراء على أن إسرائيل لن تملك خيارًا آخر سوى المحاولة، بالنظر إلى مدى العزلة الدولية التي تسبب فيها نتنياهو.
وقال تيد ساسون، أستاذ في كلية ميدلبري وزميل في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي: “إسرائيل لا تملك إستراتيجية بديلة. إنها بحاجة ماسة إلى الولايات المتحدة، ولا يوجد لديها مكان آخر تلجأ إليه. إنها ملتزمة تمامًا بهذا التحالف، وسيتعين عليها أن تبذل جهدًا أكبر لإقناع الكونغرس والرئيس الأمريكي المقبل بتقديم الدعم الذي قدمه بايدن وترامب”.
وقال تيد دويتش، رئيس اللجنة اليهودية الأمريكية، إن انتهاء الحرب يجب أن يعني نهاية التركيز العالمي على سلوك إسرائيل خلالها، مضيفًا أنه يتطلع إلى لحظة “تتحسن فيها الأوضاع الإنسانية، ويتم إطلاق سراح الرهائن، وتبدأ الدول العربية في الاستثمار بمستقبل غزة”، وعندها، كما قال، “يمكن أن يتحول الحديث إلى ما هو قادم، إلى شكل المنطقة، وشكل غزة في المستقبل”.

قال ويليام داروف، الرئيس التنفيذي لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الكبرى، وهو تكتل ضغط سياسي: “أنا أكثر تفاؤلًا اليوم مما كنت عليه منذ مئات الأيام”.
لكن آخرين لا يشاركونه هذا التفاؤل؛ إذ أعرب مورت كلاين، رئيس منظمة “الصهيونية الأمريكية” اليمينية، عن خشيته من أن تكون الحرب قد سمّمت المواقف تجاه إسرائيل إلى حد يكاد لا يُمكن إصلاحه، وقال: “لقد تحوّل الأمر إلى كراهية لليهود. ولا أعلم كيف يمكن حل ذلك”.
ما يبدو غير قابل للجدل هو أن المخاطر بالنسبة لإسرائيل، وكذلك لأنصارها في الولايات المتحدة، مرتفعة للغاية.
وقال شبلي تلحمي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة ماريلاند، إن اعتماد إسرائيل على الدعم الأمريكي أصبح صارخًا خلال مجريات الحرب – سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا – إلى درجة تدفعها إلى اعتبار الهزيمة المحتملة في ساحة الرأي العام الأمريكي “تهديدًا وجوديًا”.
وأضاف تلحمي: “اللعبة الآن هي الحفاظ على الدعم لإسرائيل، وهذه هي الأولوية القصوى”، موضحًا أن “المعركة من أجل إسرائيل داخل أمريكا تُنظر إليها على أنها جزء من المعركة من أجل إسرائيل نفسها”.
المصدر: نيويورك تايمز