تتحقّق اليوم محطةٌ طال انتظارها مع إنجاز صفقة “طوفان الأحرار”، الصفقة التي راكمت عليها المقاومة الفلسطينية آمال مئات العائلات، وسعت “إسرائيل” إلى تفريغها من مضمونها عبر محاولات استثناء العدد الأكبر من ذوي أحكام المؤبّدات من الحرية. إلا أن الصفقة، ورغم كل القيود، كسرت جدار السجون، لتُعيد إلى الضوء ثلّةً من القادة الذين خاضوا معارك النضال في الميدان، والصمود خلف القضبان.
من بين هؤلاء يخرج كميل أبو حنيش، المناضل والقيادي في الجبهة الشعبية، والأكاديمي والأديب الذي تحوّل إلى أحد رموز أدب السجون الفلسطيني، صاحب المؤبّدات التسعة، وأحد أبرز منظّري التجربة التنظيمية داخل المعتقلات، يخطو اليوم نحو حريته بصفقة أنجزتها المقاومة، ليغادر الزنزانة نحو أفقٍ أوسع، يحمل فيه قلمه وفكره وإرادته، ليُكمل المسيرة ذاتها التي بدأها منذ صباه. مسيرة النضال الذي لا توقفه الجدران، ولا تكسره السلاسل، ولا يحدّه الإبعاد.
البدايات: من بيت دجن إلى درب النضال والوعي
وُلد كميل سعيد أبو حنيش في السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1975، في قرية بيت دجن شرقي نابلس، ونشأ في كنف أسرة فلسطينية متوسّطة الحال، تعتمد على الزراعة كمصدر أساسي للرزق.
تلقّى تعليمه الأساسي في مدرسة القرية، قبل أن ينتقل إلى مدينة نابلس ليُكمل تعليمه الثانوي في مدرسة قدري طوقان ما بين عامي 1992 و1994، ثم التحق بجامعة النجاح الوطنية، حيث درس الاقتصاد وتخرّج منها عام 1999، ليتابع لاحقًا دراساته العليا في العلاقات الدولية بجامعة بيرزيت عام 2000.
مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، كان أبو حنيش فتىً في الثانية عشرة من عمره، فشكّلت تلك السنوات باكورة وعيه الوطني والسياسي، وانخرط مبكرًا في صفوف طلائع الشهيد غسان كنفاني عام 1988، ثم التحق رسميًا بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1992، وبدأ نشاطه ضمن اتحاد لجان الطلبة الثانويين، مشاركًا في الفعاليات الوطنية والمظاهرات الطلابية، ومواجهة جنود الاحتلال بالحجارة.
خلال دراسته الجامعية، لمع اسمه في جبهة العمل الطلابي التقدّمية التابعة للجبهة الشعبية، وانتُخب سكرتيرًا لها عام 1997، كما أشرف على تحرير نشرة نصف شهرية حملت اسم حنظلة، وساهم في تأسيس المكتب الطلابي المركزي لجبهة العمل واتحاد الطلبة الثانويين في جامعات ومعاهد ومدارس الضفة الغربية، وتولّى سكرتاريته بين عامي 1998 و2000.
إلى جانب ذلك، أصدر صحيفة طلابية بعنوان الهدف الطلابي، وشارك في تأسيس اللجنة الشعبية لمقاومة التطبيع إلى جانب عدد من المثقّفين وأساتذة الجامعات.
في حديثٍ سابق له عن تلك المرحلة، وصفها أبو حنيش بأنها كانت “عاصفةً بالأحداث السياسية بعد توقيع اتفاق أوسلو، وما رافقه من انقسام حاد في الشارع الفلسطيني حول مخرجات الاتفاق وسلوك السلطة الفلسطينية الوليدة”. وأوضح أن العمل الطلابي آنذاك كان ساحةً مفتوحة للنقاش السياسي والنضال على ثلاثة محاور متوازية: النقابي لتحسين البيئة الجامعية، والديمقراطي لمساءلة السلطة وممارساتها الأمنية، والوطني في مواجهة الاحتلال وممارساته.
لم يَسلم أبو حنيش من الاعتقال، إذ جرى توقيفه أواخر عام 1994 أثناء دراسته الجامعية، وتعرّض للتعذيب في سجن الفارعة لأكثر من أربعين يومًا، قبل أن يُفرَج عنه لعدم ثبوت أيّ تهمة بحقّه. غير أن هذه التجربة تركت أثرها العميق في شخصيّته، ورسّخت قناعته بأن مسار النضال لا ينفصل عن مسار الوعي والمعرفة، وهو ما سيبقى سمةً بارزة في مسيرته اللاحقة كمناضل وأديب ومثقّف مقاوم.
الطليعة الكفاحية: من ساحات الجامعة إلى ميدان المقاومة
لم يعرف كميل أبو حنيش يومًا انقطاعًا عن العمل التنظيمي منذ التحاقه بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1988، وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود، تنقّل بين مراحل النضال الطلابي والسياسي والكفاحي، محافظًا على التزامه الحزبي والفكري رغم التحوّلات الكبرى التي عصفت بالمشهد الفلسطيني منذ الانتفاضة الأولى وحتى الانتفاضة الثانية.
بدأت ملامح انخراطه في النضال مبكرًا، حين التحق وهو فتىً في الثالثة عشرة بطلائع الشهيد غسان كنفاني، إلى جانب عدد من رفاقه الذين سيغدون لاحقًا رموزًا في الحركة الوطنية، مثل الشهيد فادي حنيني والأسير منذر مفلح.
رغم انحسار الانتفاضة الأولى وتراجع الفعل الشعبي بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، ظلّ أبو حنيش وفيًّا للنضال الوطني وانتمائه الحزبي، منخرطًا في النشاطات الطلابية داخل الجامعات وخارجها، مشاركًا في المؤتمرات والفعاليات، وتولّى مهام قيادية في العمل الطلابي.
غير أن البعد الكفاحي ظلّ حاضرًا بقوة في رؤيته، إذ كان يؤمن بأنّ العمل المسلّح هو الطريق الأكثر نجاعةً لمواجهة المشروع الصهيوني. إذ شكّل، خلال سنوات دراسته في جامعة النجاح، مع عدد من الرفاق نواة العمل الكفاحي في محافظة نابلس، متنبّهين إلى هشاشة مسار التسوية، وإلى أن الانتفاضة القادمة ستكون بالسلاح لا بالحجارة.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كان أبو حنيش في طليعة المبادرين لتأسيس قوات المقاومة الشعبية، الجناح العسكري للجبهة الشعبية، الذي أصبح لاحقًا كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، وتولّى قيادته في محافظة نابلس، ثم في شمال الضفة الغربية.
اتّهمه الاحتلال بالمسؤولية عن عدد من العمليات النوعية، أبرزها عملية مستوطنة إيتمار في حزيران/ يونيو 2002، والتي أدّت إلى مقتل خمسة مستوطنين وإصابة عشرة آخرين، إضافة إلى مشاركته في التصدّي لاجتياح مدينة نابلس خلال عملية السور الواقي.
منذ نهاية عام 2000، أصبح أبو حنيش مُطارَدًا من قبل قوات الاحتلال، التي اقتحمت منزله مرارًا في بيت دجن، وهدمت بيته، واعتقلت عددًا من أفراد أسرته. واستمرت مطاردته قرابة عامين ونصف، عاش خلالها تجربة قاسية ومليئة بالدروس، كما وصفها لاحقًا: “كانت تجربة الملاحقة مدرسة كاملة في الأمن والعمل السري، عشنا فيها ليالي البرد والجوع، لكنها كانت غنيّة بالرفاق والمواقف التي لا تُنسى”.
تعرّض أبو حنيش خلال تلك السنوات لعدة محاولات اغتيال، من بينها استهدافه بسيارة مفخخة في 25 أيار/ مايو 2001، أُصيب فيها بجروح بالغة.
انتهت هذه المرحلة الدامية باعتقاله في منتصف نيسان/ أبريل 2003، بعد حصار استمرّ ساعات لإحدى العمارات السكنية في قلب نابلس.
ملاحقة خلف القضبان: مقاومة لا تنكسر
منذ لحظة اعتقاله، وجد كميل أبو حنيش نفسه في مواجهةٍ جديدة من نوعٍ آخر؛ مواجهةٍ لا تقلّ قسوة عن زمن الملاحقة في الجبال والمخابئ، إذ خضع لتحقيقٍ عنيفٍ في زنازين مركز بيتح تكفا استمر قرابة شهرين، وواجه خلاله مئات التهم التي حوّلها الاحتلال لاحقًا إلى لائحة اتهام ضخمة.
بعد عامين من الاعتقال، أصدرت محاكم الاحتلال حكمًا قاسيًا بحقّه بالسجن تسعة مؤبّدات متراكمة، إضافة إلى غرامة مالية بلغت 60 مليون شيكل، في واحدة من أثقل الأحكام التي فرضها الاحتلال على أحد قادة الجبهة الشعبية في الضفة الغربية.
على مدار ما يقارب عقدين من الزمن، تنقّل أبو حنيش بين عشرات السجون الإسرائيلية، لكنه حوّل سنوات الأسر إلى ساحة نضال موازية، حيث شارك بفعالية في النشاطات التنظيمية والثقافية والأكاديمية داخل السجون، وأسهم في رفع مستوى الوعي الوطني للأسرى من خلال حلقات التثقيف والنقاش والكتابة.
كان يرى في السجن “مساحةً لتعزيز الصمود وتغذية الفكر المقاوم”، كما يصفها، واعتبر أن الحفاظ على الروح التنظيمية والثقافية خلف القضبان هو امتدادٌ طبيعي لمسيرة الكفاح في الميدان.
لم تمرّ سنوات الأسر دون عقوبات، فقد تنقّل مرارًا بين الزنازين الانفرادية في مختلف السجون، وكان يُعاقَب في كل مرة بسبب نشاطه وتحريضه ضد إدارة السجون، وأمضى في كل عزلة ما معدّله أسبوعًا واحدًا، يترافق مع غرامات مالية وحرمانٍ من الزيارة أو الشراء من “الكانتينا” لأشهر طويلة.
وفي عام 2017، عاش تجربة العزل الانفرادي في سجن ريمون لمدة شهر كامل، بعد اتّهامه بالتخطيط لإضراب الأسرى الشهير في نيسان/ أبريل، ولم يُنهِ الاحتلال عزله إلا تحت ضغط رفاقه وتهديدهم بخوض الإضراب تضامنًا معه.
أما على صعيد الحياة الإنسانية، فكانت معاناته الأشدّ في الحرمان من الزيارة العائلية، فمنذ اعتقاله عام 2003 وحتى بدايات 2005، فُرض عليه المنع الكامل من الزيارة، ثم سُمح لوالدته فقط بلقائه، بينما لم يُمنح باقي أفراد عائلته التصاريح إلا نادرًا. ولم تخلُ تلك السنوات من فترات منعٍ إضافية بسبب نشاطه التنظيمي والثقافي داخل السجون.
قيادة خلف الأسوار: بناء التنظيم في قلب الأسر
يصف كميل أبو حنيش، في كتاباته ومقابلاته، تجربته التنظيمية في الأسر بأنها الأكثر عمقًا ونضجًا في مسيرته النضالية، إذ انتقلت فيها الممارسة الحزبية من الطابع الجماهيري والميداني إلى نمطٍ مؤسسي منضبط، يقوم على الاجتماعات الدورية، واللوائح الناظمة، والمحاسبة، والمتابعة الدقيقة لكل تفاصيل الحياة التنظيمية خلف القضبان.
داخل السجون، كما يقول، “تتحوّل الجبهة إلى كيانٍ متكامل من الهيئات والمؤسسات، تعقد مؤتمراتها في مواعيدها، وتُجري انتخاباتها، وتتابع تقاريرها، وتحرص على بقاء نبضها حيًّا رغم القيود الحديدية”.
منذ اليوم الأول لاعتقاله، انخرط أبو حنيش في الأنشطة التنظيمية للحزب، وتولّى مسؤوليات متعددة في معظم السجون التي تنقّل بينها، جامعًا بين المهام الثقافية والتنظيمية والمالية والاعتقالية.
ومع دخول الأمين العام للجبهة الشعبية، أحمد سعدات، إلى السجن عام 2006، شهد العمل التنظيمي داخل الأسر نقلة نوعية بتأسيس منظمة فرع السجون، لتُصبح السجون رسميًا فرعًا حزبيًا متكاملًا للجبهة الشعبية، إلى جانب فروعها في الوطن والشتات.
يُدرك أبو حنيش الترابط الوثيق بين مختلف ميادين الحياة في الأسر – التنظيمية، الثقافية، الوطنية، والاجتماعية – إذ يرى أن “الأسير لا يعيش فقط بين الجدران، بل يعيش في شبكةٍ من العلاقات اليومية التي تُعيد إنتاج الوعي والكرامة”.
شارك في صياغة وثيقة توحيد الحركة الأسيرة ووثيقة الإضراب العام عام 2017، وأسهم في كتابة لوائح تنظيمية لتعزيز العلاقات بين الفصائل داخل السجون. كما لعب دورًا مركزيًا في قيادة وإسناد الإضرابات الجماعية عن الطعام التي خاضها الأسرى، بدءًا من إضراب آب/ أغسطس 2004، مرورًا بإضراب أيلول/ سبتمبر 2011 الذي خاضه رفاق الجبهة للمطالبة بإخراج المعزولين، وصولًا إلى إضراب نيسان/ أبريل 2012، الذي دام 28 يومًا وحقّق إنجازات هامّة، أبرزها إنهاء العزل الانفرادي والسماح بزيارات أسرى غزّة، فضلًا عن مشاركته في إضراب 2016 تضامنًا مع الرفيق بلال كايد، وعدّة إضرابات متقطّعة أخرى.
الباحث والأديب: من زنزانة إلى جامعة أدبية خلف الأسوار
لم يكن الاعتقال بالنسبة إلى كميل أبو حنيش قيدًا للفكر، بل تحوّل إلى فضاءٍ واسع للمعرفة والإبداع، فبعد أن أنهى درجة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة النجاح الوطنية عام 1999، التحق ببرنامج الماجستير في العلاقات الدولية في جامعة بيرزيت عام 2000، إلا أن الاعتقالات المتكررة – أولًا لدى جهاز الأمن الوقائي ثم لدى قوات الاحتلال – حالت دون استكماله للدراسة. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية، وجد نفسه مجددًا في قلب العمل المقاوم حتى اعتقاله عام 2003، لتبدأ مرحلة جديدة في مسيرةٍ غنية بالبحث والتأمل والإنتاج الفكري.
في السجن، استثمر أبو حنيش سنوات أسره في الدراسة والتعليم الذاتي، إذ تعلّم اللغة العبرية، والتحق بالجامعة العبرية المفتوحة عام 2007 في برنامج الماجستير لدراسة الديمقراطية، غير أن نشاطه التنظيمي والاعتقالي تسبب في تأخره عن التخرّج، بل وتعرّض للعقاب من إدارة السجون بحرمانه من الدراسة لثلاث سنوات.
ومع صدور ما عُرف بـ “قانون شاليط “عام 2011، الذي حظر التعليم الجامعي للأسرى، كان من أوائل المبادرين إلى إعادة إحياء التجربة التعليمية داخل السجون عبر الجامعات الفلسطينية المفتوحة، وشارك في تأسيس لجان أكاديمية في السجون، تولّت تنظيم التعليم، وإدخال الكتب، وإلقاء المحاضرات، فغدت الزنزانة قاعة دراسية، والسجن جامعة مصغّرة.
في عام 2016، التحق ببرنامج الماجستير في الدراسات الإسرائيلية في سجن هداريم، تحت إشراف المناضل مروان البرغوثي، حيث كانت المحاضرات تُعقد في ساحات السجن لساعات طويلة تحت ظروف قاسية. وبعد نقله بين السجون ثم إعادته إلى هداريم، أنهى متطلبات الماجستير عام 2019، ليصبح واحدًا من الذين نالوا شهاداتهم العليا من داخل الأسر، مستمرًا حتى اليوم في إلقاء المحاضرات والدروس الأكاديمية للأسرى الجدد في مختلف السجون.
أما في ميدان الأدب، فقد رسّخ أبو حنيش مكانته كأحد روّاد أدب السجون الفلسطيني، حيث أنجز أكثر من خمسة عشر كتابًا تنوّعت بين الرواية، الشعر، القصة، النقد، والبحث السياسي، نُشر منها ثمانية كتب حتى الآن، أبرزها روايات: خبر عاجل، بشائر، الكبسولة، وجع بلا قرار، مريم مريام، الجهة السابعة، وتعويذة الجليلة.
كما أصدر كتابًا نقديًا بعنوان جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي، وكتابًا مشتركًا مع الأسير وائل الجاغوب بعنوان التجربة التنظيمية والاعتقالية لمنظمة فرع السجون، إلى جانب كتاب مشترك مع الدكتور عقل صلاح بعنوان إسرائيل: دولة بلا هوية.
لم تتوقف مسيرته عند التأليف الأدبي، بل اتسعت لتشمل المقالة السياسية والدراسة الفكرية، فكتب مئات المقالات وعشرات الدراسات في الفكر والسياسة والنقد الأدبي، تناولت قضايا المقاومة والتحرر والثقافة والهوية. وقد تحوّل قلمه إلى جسرٍ يصل ما بين جدران الأسر والعالم الخارجي، مجسّدًا معادلة الفعل الثقافي المقاوم الذي لا تعيقه القضبان.
في كتاباته، كما في مواقفه، يختصر كميل أبو حنيش معادلة الوعي الفلسطيني الحديث، في أن المقاومة ليست بندقية فحسب، بل فكرٌ يُصاغ في الزنزانة، وكلمةٌ تُكتب بمداد الصبر والإيمان بعدالة القضية.
إرادة لا تُسلب
يغادر كميل سعيد أبو حنيش الزنزانة بعد أن كسرت المقاومة قيده وأثبتت أن معادلة الشجاعة لن تُحسم داخل غرفة محكمة أو بقلم محاكم احتلالية. ورغم أن سلطات الاحتلال أصرّت على أن تُنغّص فرحة الإفراج، وفرضت عليه قرارًا بالإبعاد ومنعه من العودة إلى مسقط رأسه في بيت دجن، فإن خروجه هذه المرة ليس نهاية سردية بل فصلٌ جديد.
كميل، الحامل بعضوية المكتب السياسي للجبهة الشعبية، الذي صنعت كتبه ورواياته جسورًا بين الزنزانة والعالم، يخرج محمّلًا بسجل نضالي وأدبيٍّ امتدّ لعقود؛ مؤلفات قرأها الوطن ومن خارجه، ومحاضراتٍ وأبحاثٌ أكاديمية، ونشاطٌ تنظيمي أعاد تشكيل تجربة الأسر إلى مشروع ثقافي وسياسي. وتجربة الاعتقال والاغتيال والمحاولات المتكررة للملاحقة لم تقوَ على تكسير حيويته، بل صقلت قدرته على اشتقاق مجاري جديدة للنضال.
المنفى القسري لا يمحو الجذور؛ هو محاولة لإسكات الصوت عبر تغيير المكان، لكن صوت كميل باقٍ. كما أن تجربته التي امتدت بين السجون والجامعات ولغات الثقافة ستبقى رصيدًا يُوظّف في بناء حضور دائم للمقاومة، حضورًا فكريًا وسياسيًا وثقافيًا. فالحياة التي كتبها قلمه داخل الزنزانة، والحضور الذي صاغته مواقفه التنظيمية، سيبقيانه فاعلًا في المشهد الفلسطيني، قادرًا على تحويل المنفى إلى منبرٍ جديد، وعلى جعل كل منع وآلية قمع دافعًا لإنتاج أدوات نضالٍ أخرى.