“إنني رافض زماني وعصري، ومن الرفض تولد الأشياء”.
لا شيء يعجب الطيب أردوغان، رئيس تركيا؛ لا الزمان ولا المكان. ساخط على السياسة وعلى النظام العالمي كله، من مجلس الأمن إلى سايكس-بيكو؛ فالأعضاء الدائمون في المجلس أربعة يمثلون دولًا مسيحية، يملكون وحدهم حق النقض ويتحكمون بالعالم، بينما لا يوجد للمسلمين صوت دائم.
يستقبح زعيم تركيا وجه العالم اليوم، ويحلم بتغييره قبل أن يتقاعد من الرئاسة في موعد مفترض بانتخابات عام 2028، ما لم تحدث مفاجأة. يريد أن يخيط المنطقة التي مزقتها بريطانيا وفرنسا وقطّعت شعوبها إلى دول لا تحترم تاريخها ولا ثقافتها ومجتمعاتها، لكن الخيوط لا يجب أن تتشابك عنده فقط، بل يجب على شعوب المنطقة كلها أن تحيك معًا، وهو يعني بذلك الأتراك والكرد والعرب.
يرى أردوغان أنه يسير بخطى سديدة. قبل أشهر، شاهدت تركيا بقدرها وقدرها حلمها وحلم رئيسها يتحقق: حزب العمال الكردستاني (PKK) يسلم سلاحه. لا معارك بعد اليوم، ولا مختطفين، ولا تجنيد إجباري، ولا هجمات على الجيش التركي. بعد أكثر من أربعين سنة دامية، يختار أوجلان ورجالاته التحالف لا التصادم.
في تلك اللحظة التاريخية للشعبين، والأنظار شاخصة تظن أنها تشاهد نهاية الحكاية، يقول أردوغان للجميع إنه لم ينته بعد. الموسم القادم سيكون لبناء تحالف تركي كردي عربي يعيد للشعوب الثلاثة مكانتها التاريخية ويخلصها من سطوة الغرب.
أردوغان خطيب مفوه، يعرف كيف يستحضر التاريخ ومتى يروي القصص، فمن خلالها يقول بإيجاز لا يدينه ما يجول في خاطره. قال أمام الجميع إن القدس تحررت بعمل عربي كردي تركي. صفق له الجمع، ووصلت الرسالة؛ فالعالم كله يعرف أن أردوغان يرى القدس محتلة، ويرى كذلك محتلها يقصف المنطقة كيفما ومتى شاء، ولا يقدر أحد على لجم هيجانه.
إذن، في أدبيات السياسة التركية الجديدة، وعلى لسان قائدها، الوحدة ليست أساطير الأولين، بل مشروع ضروري تفرضه التطورات الإقليمية على شعوب المنطقة إذا أرادت الفوز في المواجهة القادمة مع “إسرائيل” أو لتفادي حرب أخرى معها، وللخروج من سطوة الغرب لتحكم العالم مجددًا.
أيّ عرب وأيّ كرد؟
أولًا، دعونا نفهم كيف فُهمت الدعوة وأسبابها لدى مختلف شرائح المجتمع التركي، وفي حديث حول الحلف المنشود، سألتُ الكاتب المختص في الشأن التركي سمير العركي كيف يفهم الدعوة وتوقيتها، فيرى العركي أن دعوة أردوغان امتدادٌ لسياسات الرجل، وليست الأولى من نوعها، وهي لبنةٌ جديدة في مشروع “تركيا خالية من الإرهاب”، وهذه الدعوة للتحالف موجَّهة للداخل التركي وللخارج الإقليمي.
ويُفصّل: “داخليًا، تهيئ الدعوة لحلفٍ تركيٍّ كرديٍّ عربيٍّ المجتمعَ لدورٍ أوسع ستلعبه السياسة الخارجية التركية، ويعزز الخطوات التي أنجزتها مؤخرًا في الوحدة التركية الكردية. أمّا خارجيًا، فالدعوة موجهةٌ إلى دول الجوار التركي أولًا، أي سوريا والعراق؛ فأردوغان يؤمن أن ما يجري في تركيا يؤثر بالضرورة على الدولتين، نظرًا لتعدد الإثنيات في تركيا وسوريا والعراق رغم التفاوت في النِّسب، والعكس بالعكس. ويريد لروح الوحدة التي وُلِدت حديثًا وتكبر في تركيا أن تتعزّز في الدولتين الجارتين لتجاوز المشاريع الانفصالية وشرورها”.
المعارضة في تركيا تؤمن بدورها أن نداء أردوغان موجَّهٌ إلى دول الجوار أولًا، لكنها تفسّره بطريقة مختلفة تمامًا، فعين السخط تُبدي المَعايب؛ فهي لا تقبل بمفردة “عرب” و”كُرد” على إطلاقها هكذا على العموم. مسؤول العلاقات الخارجية في حزب الشعب الجمهوري تساءل بسخط: “ماذا يعني بالعرب؟ أالسُّنة في سوريا بقيادة أحمد الشرع؟ أم الشيعة في العراق؟”، ونظرًا لواقع الحال بين الطرفين، فإن السؤال ليس استفساريًا فحسب، بل يحمل في طيّاته نقدًا للدعوة بأكملها، فكيف تبني تحالفًا مع متنافرين في الوقت ذاته؟.
كما أن حلم أردوغان هو كابوس إيران، فهل يشمل بدعوته أكراد إيران أم سيكتفي بأكراد سوريا والعراق؟ لأنه، ومن وجهة نظر كثيرين، فإن استحضار تحالفٍ في المنطقة لا يشمل إيران يدخل ضمن صراع النفوذ البارد بين الدولتين، خصوصًا في سوريا والعراق.
ويرى جزء من المعارضين للخطاب والمحايدين أمامه أنه سيُقلق إيران قطعًا، لأنها تضم عددًا كبيرًا من الأكراد والعرب أيضًا، والأهم أن توقيت الدعوة التركية ستقرأه إيران على أن منافستها التاريخية تتحرك مهدِّدةً طموحها التوسعي الإقليمي، لملء الفراغ الذي تركته في سوريا، وتتوسع منه لتغلق باب المنطقة أمام إيران تمامًا.
لذلك فإن هذه الدعوة ظاهرها خير وباطنها شر، فإن كان أردوغان يطمح لتحقيق مكاسب، فإن الصداع الذي سيأتيه من هذا الطريق أكبر من فوائده، يقول الكاتب روشان تشكار أن أردوغان استحضر جزءَ الانتصارات والوحدة التاريخية، لكنه تغافل أو غفل عن عقود طويلة من العداوات والحروب، فللعرب مظالم ضد الأتراك حاضرة في الثقافة المتداولة عن الدولة العثمانية، وللأكراد مظالم ضد العرب في سوريا والعراق وضد الأتراك في تركيا، وللأتراك مظلمة أمام العرب والكرد وهكذا تدور الدائرة، فهل هو قادر على مداوة جروح عقود طويلة بتحالف فوق بحور من الصراعات؟.
حتى الرابطة الإسلامية لن تكون قادرة على تجاوز هذه الخلافات، لما في المنطقة من أقلياتٍ دينية كالدروز والعلويين والمسيحيين. لكن الأهم أن جزءًا ضخمًا من الأتراك والعرب والأكراد الذين يدعوهم أردوغان إلى التحالف، لا يؤمنون بالإسلام كمشروع سياسي، ويفضلون الأيديولوجيا العلمانية لإدارة الحياة السياسية، والدول القومية على التحالفات الإسلامية.
يساجل منظّرو السياسة التركية المعارضون أيضًا أن جيران تركيا في حالةٍ يُرثى لها اقتصاديًا، وإذ هي تدعو للوحدة وترسم ملامحها وأهدافها، فهي تنشد قيادتها، ومع القيادة تأتي المسؤولية. فهل تستطيع تركيا المنهكة اقتصاديًا أن تموّل مشروع تحالفٍ بهذه الضخامة؟.
هنا يحضر الصوت الذي يرى الدعوة أوسع من الجيران، بل تشمل السعودية بدرجةٍ أولى، ثم قطر، ويتجه آخرون لإدراج الأردن ولبنان مع تركيا وسوريا والعراق في تحالفٍ يقطع ذرائع المجتمع الدولي للتدخل في المنطقة بحجة محاربة داعش أو الإرهاب، وبناء حلفٍ يلوذ بالمنطقة ويمنع تشكّل بؤرٍ داخلية تهزها وتجعلها تهديدًا للعالم.
كما أن نداء التحالف هذا سيفكّك بالضرورة التحالفات الموجودة على الساحتين السورية والعراقية، ويشكّل عائقًا — من وجهة نظر أنقرة — أمام تحقيق الاستقرار والتنمية، بسبب مشاريعها المعادية لمركزٍ قويٍّ موحّد.
لكن المعارضة لا ترى نفسها المعترض الأول أو الحقيقي على مشروع أردوغان، بل تؤمن أن الطرف الثالث المدعو إلى التحالف، أي العرب، لن يصطفّ بانتظار قطار تحالفه، بل سيرونه شكلًا آخر من الحلم العثماني الغابر، والعواقب لن تكون حميدة. لذلك، فالخطوة ستكون مكلفة، والأضمن الآن هو التركيز على الوحدة التركية الكردية الوليدة حديثًا.
في الحقيقة، يصحو أردوغان وينام منذ سنين، وبعض معارضيه يتهمونه باستدعاء أمجاد العثمانيين واستحضار الماضي الإسلامي السحيق. ولذلك فإن هذه التهمة لا بد أن تكون في قائمة الأدلة التي يسوقونها في نقد المشروع، فالتحالف المرجو أساسه الدين — كما يرون — وهو خطر حقيقي على الدولة القومية؛ فالربط بين الشعوب باستخدام الإسلام يقوّض فكرتها. ويذهب آخرون أبعد من ذلك، فيقولون إن ربط الشعوب بالدين فكرة وهمية لا علاقة لها بالدولة العثمانية، فالأخيرة لم تكن تجمعًا إسلاميًا فحسب، وإنما حكمًا لمختلف الديانات والقوميات على امتداد الجغرافيا.
لن نناقش هنا تهمة “العثمانية” كثيرًا، وإنما نورِدها لتفكيك المشهد وفهمه؛ فالمعارضة حين تشتمّ رائحة الدين والعثمانية في أي خطاب، تعتبره باليًا عفا عليه الزمن ويجلب المشاكل، ولا ترى فيه نقاط قوة أو فائدة لتركيا كدولةٍ علمانية، مهما ساقت الدولة أسبابها ومبرّراتها.
كابوس انتهى.. وآخر لم ينتهِ
على مدار سنين، اعتمد أردوغان لغةً تتبنّاها الدولة التركية، فلا يذكر حزبَ العمال بصفته كُرديًّا، بل بوصفه حركةً إرهابيةً، وليس صوتًا للأكراد. ويتبع النهج ذاته مع «قسد»، فهي في نظره حركةٌ تستغل قضايا عادلة لأجنداتٍ خارجية، وأداةٌ ضاربة تُستخدم من خارج الجغرافيا للتأثير فيها.
في شرح هذه الرؤية التركية، أعود إلى حديثٍ مع الباحث سمير العركي، فهو يرى أن تركيا عاشت حربًا طاحنةً في الثمانينيات بين الأكراد والأتراك، وعلى مرّ عقود أحدثت شرخًا واسعًا بينهما. وفي خضمّ الثورة السورية استغلت القوى الغربية وجود داعش، واختارت الوحدات الكردية لمحاربتها، وغذّت الصراع بين القوى الكردية والعربية بتقديم داعش كتنظيمٍ عربي، وقد انتهك الطرفان دماءً وحرماتٍ كثيرة، حظيت بتغطيةٍ واسعةٍ كأنها ترويجٌ لها، فأحدثت شرخًا بين سكان المنطقة من العرب والكرد، وهكذا تتفرّق شعوب المنطقة وتقع في صراعٍ دائمٍ يجعلها غافلةً وعاجزةً أمام التحديات الجيوسياسية الخارجية.
أضف إلى ذلك أن حركات الانفصال المسلّحة هي الأداة التي ضرب بها الغربُ تركيا على مدار خمسة عقود. فكيف ستغلق باب هذه الآفة في أراضيها لتقبل أن يُفتح في دولةٍ مجاورة؟.
وقد قارعت تركيا كابوسًا أمنيًّا على حدودها منذ تأسيس قوات «قسد» عام 2015، لذلك ترى اليوم، بوجود حليفٍ قويٍّ في دمشق، وفي الوقت ذاته الذي أنهت فيه صراعها مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، فرصةً تاريخيةً لإنهاء كابوس «قسد» والتفرّغ لردم الشرخ بين الشعوب الثلاثة وبناء التحالف المنشود.
يستحضر العركي موقفَ تركيا عند محاولة إقليم شمال العراق عام 2017 إجراءَ استفتاءٍ للانفصال عن بغداد، لتبيان حساسية أنقرة وصلابتها في مواجهة مشاريع الانفصال؛ فقد رفضت الخطوة رفضًا قاطعًا، ودعمت بغداد بكل ما استطاعت للحفاظ على وحدة العراق، حتى أُلغيت نتائجه. فحين تقول تركيا إنها لا يمكن أن تقبل بنجاح الانفصال على حدودها لأنه تهديدٌ لأمنها مباشرةً، فهي تعني ما تقول.
من يأكل العنب ومن يُضرِس؟
قد يبدو المشهد وكأن تركيا هي المستفيد الأول من هذا التحالف، لكن واقع سوريا اليوم يشير إلى أن طريق الاستقرار المنشود للتعافي وقطع الأيادي الخارجية عن البلاد لن يُعبَّد قبل إنهاء ملف «قسد» في الجزيرة السورية. وتدرك دمشق أن ملف الأكراد وحقوقهم السياسية والثقافية من الأوراق التي تستخدمها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي للضغط على سوريا، كما أن الاعتراف بحق ميليشياتٍ مسلّحةٍ تتحدث باسم مكوّنٍ من الشعب يقرع أبوابًا أخرى لا يرغب أحدٌ بفتحها.
كما أن سوريا بأكملها سمعت قائد قوات «قسد» وهو يُجيب على سؤالٍ صحفيٍّ في لقائه مع «بي بي سي» إن كان يقبل دعمًا إسرائيليًا، بأنه يقبل دعمًا من أي أحدٍ كان، حتى “إسرائيل”. كما انتشرت تصريحاتُ المسؤولة في الإدارة الذاتية، إلهام أحمد، وهي تقول إن “إسرائيل” هي جزءٌ من الحل في سوريا، وإن أيَّ حلٍّ ديمقراطيٍّ للمنطقة يتطلّب دورًا إسرائيليًا.
هذه التصريحات تُقرأ على أن «قسد» قابلةٌ لتكون بوابةَ تدخّلٍ إسرائيليٍّ يضرب محاولات الاستقرار ويُبقي سوريا ممزقةً ضعيفةً تُتعب جيرانها، بدءًا من تركيا. ورغبةُ “إسرائيل” في تفتيت المنطقة لا تخفى على أحد، وهي تدرك أن تحالفًا تركيًّا كرديًّا عربيًّا سيكون بمثابة كماشةٍ تُطبِق عليها.
وفي تحديد التهديدات الخارجية التي يريد أردوغان بناءَ الحلف لمواجهتها، فإن التهديد الإسرائيلي للمنطقة، ورؤيتها لما يُعرف بالشرق الأوسط الجديد، يحتلان صدارة هذه التحديات.
“إسرائيل” اليوم هي العائق الأكبر أمام سوريا مستقرةٍ وشرقٍ موحَّد، والسياسة الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر تُقدِّم رغبتها بالتوسع على أسسٍ دينية، و«إسرائيل الكبرى» كما يراها المخيالُ الإسرائيليُّ الديني، أقرب من أي وقتٍ مضى إلى مشاريع السياسة والأهداف الاستراتيجية. فالحلف المنشود ليس مصلحةً تركيةً فحسب، بل سوريةً وعربيةً كذلك؛ فلا أحد في المنطقة يريد الاشتباك مع “إسرائيل” منفردًا، وتحقيق تحالفٍ للمواجهة صعبٌ لكنه ليس مستحيلًا إذا رُسِم له الطريق بحكمةٍ وحزمٍ.
هل هناك أملٌ لهذا الحلف؟
ترى أنقرة أن التغيّر الاستراتيجي الذي شهدته سوريا يُؤذن بانتهاء المشاريع الانفصالية سِلمًا أم حربًا، وإذا ما انتهت الأمور إلى حلٍّ عسكري، فإن تركيا، وتشاركها سوريا، حريصتان قبل ذلك على تقديم سرديةٍ إنسانية تُذكّر العربَ والأكرادَ والأتراكَ بأنهم كانوا وحدةً واحدة، وأن التمزّق بفعل فاعل، وأن الثقل الذي يُشكّلونه معًا قوّةٌ للشعوب الثلاثة لا لشعبٍ على حساب آخر، وأن حقوق الأكراد مضمونة في دمشق وأنقرة لا في مكانٍ آخر.
العائق الأساسي لأي تحالف تركي كردي عربي هو وضع الأكراد في سوريا، وهذه رؤية يتشاركها بعض المعارضن مع الحكومة وحل هذا الوضع سيكون حاسما في الطريق إلى هذا التحالف، كما أن استكمال عملية تسليم السلاح وحل حزب العمال في تركيا سيتأثر بالطريقة التي سيحل بها ملف «قسد» في سوريا وعلى وضع الأكراد فيها بشكل عام.
صحيحٌ أن تركيا ترى في وجود حكومةٍ حليفةٍ في دمشق فرصةً تاريخيةً لبناء حلفٍ سياسي، وأن دمج «قسد» كأفرادٍ وتوحيد القوى في المركز هو الخطوة التالية في الطريق إلى التحالف المنشود، إلا أن الطرفين لا يتفقان تمامًا على آلية تحقيق ذلك.
تركيا تريد إنهاء ملف «قسد» بأسرع وقتٍ ممكن، حتى لو بطرقٍ عسكرية، لكن الرئيس أحمد الشرع يُراهن على حلٍّ سِلميٍّ يحقن الدماء ويُجنّب المنطقة مزيدًا من الثارات. وقد قبلت أنقرة حتى اليوم طرائق النصر التي مشى فيها أحمد الشرع إلى دمشق، فتحٌ لا ثأرَ فيه ولا دماء، لكنها تؤكّد دائمًا أن للصبر حدودًا.
وفي الوقت ذاته، تُدرك أنقرة أن طريقًا عسكريًا ربما يُفضي إلى حسمٍ سريعٍ وإنهاء الملف، لكنه سيجعل الطريق نحو تحالفٍ تركيٍّ عربيٍّ كُرديٍّ مُعبَّدًا بالشوك والجراح، وسيكون شرخًا جديدًا يقف العربُ والأتراكُ على طرفٍ منه، والكُردُ على طرفه الآخر، وقد تُضرّ تبعاته بمشروع “تركيا خالية من الإرهاب” الذي ما زال غضًّا لم يشتدّ عوده بعد.
في المقابل، تُقدّر دمشق حساسية أنقرة، ويُشخَص للعيان أن مماطلة «قسد» في تنفيذ اتفاق آذار/مارس تزيد من قوتها، ومن الثارات الداخلية في منطقة الجزيرة جرّاء سياساتها الاستبدادية هناك، وأن تكلفة الحسم العسكري ترتفع يوميًا، لكن التمسّك بحلٍّ سِلميٍّ وإن طال ما زال الخيار الراجح حتى اليوم في دمشق.
فهل تنجح أنقرة ودمشق في تحقيق توازنٍ خلال إنهاء ملف «قسد» يضمن السِّلم الأهلي لسوريا، ويُقفل الباب أمام دعوات الانفصال، دون اللجوء إلى حلٍّ عسكريٍّ يُكلّف المنطقة دماءً وأموالًا هي بأمسّ الحاجة إلى توفيرها؟.
المعارضة في تركيا ترى هذا الواقع إشارةً إلى أن ملف «قسد» لن يُحلّ قريبًا، وسيبقى كابوسَ دمشق وشاغلها لسنواتٍ، لذلك فإن الحلف الذي يريده أردوغان صعبُ المنال، وعلى أقلّ تقديرٍ أبعد من الانتخابات الرئاسية المقبلة التي تعوّل المعارضة عليها لإخراج حزب العدالة والتنمية من سدّة الحكم. فهل تُعاجل «قسد» حلم التحالف التركي الكُردي العربي بضربةٍ مميتةٍ قبل أن يُولَد، أم ينتصر صوتُ السياسة والوحدة فيها على صوت الانفصال والقومية، وتُعطي المنطقة أملًا يؤكد أن عصر الاقتتال الداخلي قد انتهى، وأن المنطقة تتجه نحو تحالفاتٍ لا صراعات؟.