ما إن صدح صوت الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، فجر الخميس، 9 أكتوبر 2025، معلنًا موافقة “إسرائيل” و”حماس” على المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، حتى انطلقت قلوب الغزيين في مصر من حناجرها، كانت أبصارهم زائغة، تتجه غريزيًا نحو القبلة الأبدية التي لا تتغير اتجاهاتها، الوطن، فبالنسبة لهم، لم يكن هذا مجرد إعلان سياسي، بل هو إشارة للسماح للروح بالبدء في العودة.
ومع ختام قمة السلام التي استضافتها مدينة شرم الشيخ، مساء الاثنين 13 أكتوبر الجاري، وإعلان ترامب الصريح بأن الحرب قد انتهت رسميًا، بدأت مشاعر الفلسطينيين في مصر تشتد تعقيدًا، فبعد أشهر من الاحتواء والضيافة على أرض مصر، اختلطت الأحاسيس بين الحنين الجارف للقطاع المدمر وبين الشعور بأمان المكان الحالي.
إن العودة المرتقبة تحمل على عاتقها ثقلاً مزدوجاً يكاد يطغى على الفرحة، فرحة اللقاء بالوطن واسترداد جزء من الروح المفقودة، وخوف قاتل من أن تكون هذه الفرحة سريعة الزوال، وأن يُجبروا على النزوح مرة أخرى من بيوت لم يكد يعود إليها الدفء.
إنهم ينتظرون بفارغ الصبر أن يتحول هذا الأمل الهش إلى سلام دائم وحقيقي يضمن لهم حقهم في البقاء على أرضهم دون خوف من جولة قتل ودمار قادمة، العودة ليست نهاية الرحلة، بل هي بداية تحدٍّ جديد لترميم الحياة وسط الركام.
قلب نور بالنصيرات وجسدها بالقاهرة
تتحدث نور زقوت، التي اضطرت لمغادرة غزة لتلقي العلاج في القاهرة في يوليو 2024، بلهجة تكسرها لوعة الحنين إلى موطنها. بالنسبة لنور، غزة ليست مجرد مكان، بل هي مسقط رأس الروح والذاكرة.
تقول نور في حديثها لـ “نون بوست” “لهفتي لغزة لا توصف، وإلى بيتنا في مخيم النصيرات”، ذلك المكان الذي “تنفست فيه أول نسائم الحياة، وبين جدرانه ترعرت”، الحنين إليه قوي وغريب، وكأن عبق التاريخ المتجذر في المخيم هو ما يبقيها “على قيد الحياة” في غربتها. قلبها معلق بـ “كل بارقة أمل في وقف الحرب”، عسى أن تعيدها إلى تلك الجذور.
رغم المعاملة الطيبة التي لقيتها في القاهرة، والتي وصفتها بأنها كمعاملة “الابنة” من المصريين، إلا أن نور ترى في مصر مجرد “محطة انتظار” مؤقتة، فهي على يقين أن مصر محطة انتظار لئلا تتحسن الأوضاع وتعود إلى الوطن.
أما أشد ما يمزق روحها فهو ترك والدتها وحيدة في النصيرات “روحي تغادر جسدي كل يوم عشرات المرات مع كل استهداف للمخيم”، ورغم محاولاتها المتكررة للعودة، إلا أن إصرار أمها على بقائها في أمان حال دون ذلك، هنا يكمن الصراع العميق، جسد نور باقٍ في مصر، لكن قلبها وروحها معلقان بغزة لا يبرحانها.
تختتم نور حديثها بتأكيد قرارها المصيري، واصفة العودة بأنها “مغامرة”، وأن كثيرًا من أصدقائها وجيرانها من الغزيين في مصر يرفضون هذا القرار، ويطالبونها بالتريث قليلا لئلا تنكشف الأمور وتتضح الرؤية بصورة كاملة.
لكنها لا تستطيع الابتعاد أكثر من ذلك، وتُقسم الشابة الفلسطينية أنها ومع أول فرصة لفتح معبر رفح، ستعود إلى القطاع مهما كلفها الأمر، حتى لو كان الثمن أن تكون في نظر أمها بنتًا عاقة”، إنه ثمن مؤلم تضعه نور مقابل استرداد روحها ووطنها.
حسام والعودة المستحيلة حاليًا
في شهادة تلامس عمق الكارثة الإنسانية، يلخص الشاب الفلسطيني حسام داوود (35 عامًا) وضع الحياة في غزة اليوم، حيث لم يعد التدمير ماديًا فحسب، بل شمل نسيج المجتمع ذاته.
يقول حسام الذي نزح إلى القاهرة قبل عام تقريبًا: “بيتي في غزة تم تدميره، لا مكان لي هناك أقيم فيه اليوم، فأين ستكون إقامتي لو فكرت في العودة؟”، ويتجاوز الأمر فقدان السقف ليطال مفهوم الانتماء والأمان الاجتماعي، فالمحيط لم يعد موجودًا: “جيراني كلهم رحلوا، ومن بقي منهم يفكر اليوم في الرحيل، حتى أن أحدهم بدأ يبحث في أصوله الأرجنتينية للحصول على جنسيتها من أجل مغادرة القطاع والسفر”، أصبحت الهجرة القسرية خيارًا وجوديًا للناجين، بعد أن تآكلت روابط الجوار والوطن.
يؤكد حسام في حديثه لـ “نون بوست” أن الحديث عن العودة إلى غزة اليوم هو ضرب من الخيال المؤلم “من الصعب العودة في الوقت الراهن، فالأوضاع هناك صعبة وليست هناك مقومات للحياة على الإطلاق”، فالبنى التحتية لا تعاني من أضرار جزئية، بل أصابها الشلل التام.
ونقلًا عن عاملين في بلدية غزة، فإنهم يحتاجون إلى ما يقرب من ثلاثة إلى أربعة أشهر فقط لتمهيد طرق للمرور وإزالة الركام الذي يغلق كافة الطرقات، من أجل تمكين الناس من السير، وهي مدة تُظهر حجم الدمار الذي يحول دون أدنى مقومات الحركة والحياة.
في ظل هذا الفراغ الوجودي، أصبح البقاء داخل غزة امتيازًا لا يقدر عليه معظم السكان، يصف حسام الوضع قائلاً: “أكثر من 70% من عائلتي باتوا في الشوارع اليوم ولا مكان لهم، وما تبقى من بيوت صالحة ارتفع سعرها بصورة خيالية للدرجة التي لا يمكن أن يتحملها معظم أبناء غزة، مما يحول دون إمكانية إعادة تشكيل مجتمعهم الممزق”.
“حتى لو اتخذت السلطات المصرية قرارًا بإنهاء تواجدنا في مصر فمن الصعب العودة لغزة، سنبحث عن مكان آخر في ماليزيا مثلا أو جنوب أفريقيا”، هكذا يقول الشاب الفلسطيني بصوت مكلوم.
شهادة حسام ليست مجرد رصد للخسائر، بل هي صرخة حول تآكل القدرة على الحياة، والحاجة إلى وقت طويل لـ”تقييم الوضع وما إذا كان قابلاً للحياة أم لا”
المدهون يخشى المجهول
رغم الإعلان عن وقف إطلاق النار، لا يزال القلق الإنساني العميق يسيطر على نفوس النازحين، يجسد خالد المدهون هذا الخوف، معتبراً أن الاطمئنان للهدوء الحالي ليس سوى وهم خطير.
يقول خالد: “الأمور لم تستقر بعد… النوايا الإسرائيلية لا يمكن توقعها أو استشراف ما سيقوم به نتنياهو وحكومته، فهم لا عهد ولا أمان لهم”، بالنسبة له، العودة إلى غزة في هذه الأجواء الملتبسة هي “مغامرة قد تكلف الإنسان حياته”.
تتضاعف مخاوف خالد بسبب الواقع المادي المدمّر الذي ينتظره، فـ “البناية التي كنت أقيم فيها في خان يونس دُمرت بالكامل”، ويضيف بوصفٍ يمزق القلب: “الشوارع هناك ما عاد يمكن التعرف عليها من كثرة الركام الذي غطى الطرقات فحولها إلى لوحة سريالية ممزقة”.
كيف يمكنه أن يعود ومعه عائلة ضعيفة؟ هكذا يتساءل بمرارة “معي ابنتان مريضتان وولد لا يزال صغيرًا، عمره لم يتجاوز 11 عامًا، كيف أعود بهم في تلك الأجواء؟”، إنها ليست مجرد عودة إلى منزل، بل إلى بيئة غابت منها وعنها أبسط مقومات الحياة: “لا ماء نظيف ولا مرافق ولا مدارس ولا أكل كافٍ ولا مشافٍ للعلاج ولا حتى مكان لائق إنسانيًا نعيش فيه”.
قلب الشاب الفلسطيني “معلق بغزة”، كما يصرح لـ “نون بوست”، ولكنه يرى أن العودة اليوم “انتحار في ظل تلك الأجواء الضبابية”، قراره إنساني برغماتي بحت: “سأنتظر قليلاً حتى تتضح الرؤية وينجلي الغبار وبعدها أقرر العودة من عدمها”، خالد يفضل الانتظار من أجل تأمين حياة أطفاله على المخاطرة بحياتهم في المجهول..
في نهاية المطاف، لا يمكن للسلام أن يُقاس بتوقيع اتفاق أو بصمت المدافع، كما يحلو لترامب والمشاركين في قمة شرم الشيخ أن يدندنوا، بل بقدرة الإنسان على استعادة بيته وذاكرته وكرامته، فالفلسطيني الذي حمل وطنه في قلبه إلى أرض المنفى، لا يبحث عن الرفاه، بل عن حق بسيط في أن يعيش دون خوف، وأن يحلم دون أن يُحاسَب على حلمه.
وبين الحنين إلى الديار، حتى وإن صارت رُكامًا، والخوف من المجهول، وإن غُلف بسلام فارغ من مضمونه، يقف الغزيون اليوم على عتبة أمل هشّ، يتلمسون فيه بداية حياة جديدة فوق أرض أنهكها الدمار، لكنها لا تزال تنبض بالحياة.
ربما تكون العودة هذه المرة، ليست إلى البيوت وحدها، بل إلى الذات الممزقة التي لم تعرف يومًا طعم الأمان، في عيون نور، حسام، وخالد، تختصر الحكاية كلها، وبأصواتهم يرددون أجمل سيمفونية، تلك التي تقول إن شعبٌا ما زال يؤمن أن الوطن، مهما تهدّم، لا يموت.