ترجمة وتحرير: نون بوست
في الساعة 9:30 صباحًا اليوم، حلّقت طائرة “إير فورس وان” على ارتفاع منخفض فوق تل أبيب في طريقها إلى مطار بن غوريون. ولم يكن هذا التحليق مجرد حدث جوي عادي، بل بدا أشبه بظاهرة فلكية تنذر بتحوّل كبير، كأنها مذنّب في العصور الوسطى، بكل ما قد يرافقه من تقلبات في المزاج العام بين الناس. فقد ظل الإسرائيليون مستيقظون لعدة أيام على أمل الإفراج عن الرهائن، ورؤية طائرة البوينغ 747 كانت تعني أن الأمر يحدث فعلًا. وفي غضون ساعات، كان قد حدث بالفعل، حيث سلّمت حماس آخر 20 رهينة حية إلى إسرائيل، وبدأت عملية إعادة رفات العشرات من آخرين. وكان قد أُفرج سابقًا عن 140 رهينة، وأُطلق سراح 8 في عمليات إسرائيلية، ويُفترض أن نحو 75 آخرين قد لقوا حتفهم. أما إسرائيل، وبعد أن سحبت قواتها من معظم مناطق غزة يوم الجمعة، فقد أفرجت عن 1,968 أسيرًا فلسطينيًا.
الإسرائيليون الذين سمحوا لأنفسهم بأن ينساقوا خلف فرحة مترقبة خلال الأيام الماضية، لم يندموا هذه المرة على تفاؤلهم. أما الغزيون، الذين اعتادوا طوال عامين على مقتل العشرات من جيرانهم يوميًا في المتوسط على يد إسرائيل، فقد بدأوا يتمتعون فجأة باحتمالية تنفيذ هدنة مؤقتة. ويبدو أن الحرب – التي بدأت بمجزرة راح ضحيتها أكثر من ألف إسرائيلي على يد حماس، واستمرت لتحصد أرواح عدد من سكان غزة يفوق القدرة على الإحصاء الدقيق – قد انتهت. وفي وقت لاحق من هذا اليوم، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو النصر في خطاب ألقاه في الكنيست، ثم تحدّث دونالد ترامب قائلًا إن “الشمس أشرقت اليوم على أرض مقدسة تنعم أخيرًا بالسلام”، بعد أن حققت إسرائيل “كل ما يمكن أن يُنتزع بقوة السلاح”. ويرجع أي أمل في المنطقة حاليًا إلى حقيقة أن ترامب سيبدو أحمق إذا انهار الاتفاق، وهو مستعد لفعل أي شيء لتجنّب أن يظهر بهذا المظهر، بل وتدمير من يحاول أن يصوّره كذلك.
قضيت بعض لحظات الابتهاج هذه في القدس الشرقية، في منزل الفيلسوف الفلسطيني سري نسيبة. شغل نسيبة، البالغ من العمر 76 عامًا، منصب رئيس جامعة القدس بين عامي 1995 و2014، وكان ممثل السلطة الفلسطينية في القدس من 2001 إلى 2002. خلال تلك الفترة، عمل بلا كلل من أجل حل الدولتين، رؤية السلام التي باتت خلال العامين الماضيين لا تبدو بعيدة المنال فحسب، بل أقرب إلى الخيال السياسي. وقد ابتعد نسيبة عن العمل السياسي منذ عقود، وأخبرني أنه حافظ على سلامه النفسي خلال العامين الماضيين بتجنّب متابعة أخبار غزة قدر الإمكان، مفضّلًا مشاهدة المسلسلات الكورية الجنوبية.
تطالب إسرائيل حماس بنزع سلاحها واختفائها، ولا تزال حماس ترفض. قلت لنسيبة إنني أخشى ألا تدوم هذه الهدنة، وأن حماس قد تخرج من تحت الأنقاض لتفجّر مركبة عسكرية إسرائيلية، فتُستأنف الحرب من جديد. وبّخني على تشاؤمي: فحماس، برأيه، لا تملك ما تكسبه من تقويض السلام في هذه المرحلة، والإسرائيليون لن يكونوا سُذّجًا إلى درجة تعريض أنفسهم لهجمات من هذا النوع. وكان مسؤول أمريكي في إسرائيل قد أخبرني أن منع إسرائيل من الرد على استفزاز كهذا يُعدّ مهمة ذات أولوية قصوى أُسندت إلى وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ماركو روبيو. وتنصّ خطة ترامب على تشكيل قوة من “شركاء عرب ودوليين” لحفظ السلام تحت إشراف الجيش الأمريكي، ولجنة فلسطينية “تكنوقراطية وغير سياسية” لتولي إدارة غزة.
قال لي نسيبة إنه يشعر بـ”تفاؤل متناقض” بعد كارثة غزة، ويعتقد أن لدى الحكومة المؤقتة الجديدة “فرصة جيدة” لتجنّب العودة إلى الحرب قريبًا. وأضاف: “لقد دفعنا ثمنًا باهظًا، والإسرائيليون كذلك. لكن هذا يعني أن الناس سيكونون مستعدين للنظر إلى الأمور بطريقة مختلفة”. ثم وبخ نفسه على أفكاره السابقة، حيث قال: “في السابق، كان الجميع – بمن فيهم أنا – يعتقدون أننا قادرون على تحقيق حل الدولتين بين ليلة وضحاها”. أما الآن، فلا أحد يستطيع أن يخدع نفسه بالاعتقاد أن السلام يمكن الحفاظ عليه بسهولة، أو أن الدولة يمكن أن تولد فجأة. وقال إن الإطار الأمني الذي بدأ يتبلور الآن قد ينجح. وإن نجح، فقد يفتح آفاقًا جديدة، بما في ذلك في الضفة الغربية. وأقرّ بغرابة المسار الذي أفضى إلى هذه اللحظة، والذي جاء بفضل “هذا الرجل الغريب في البيت الأبيض” الذي ظهر من العدم، “مثل سوبرمان”، يتخيّل ما يمكن أن يكون، من دون أن يثقل كاهله بما كان، وأضاف أن الرؤساء السابقين لم يفعلوا الكثير.
لست معتادًا على أن يطلب مني الفلسطينيون أن أكون متفائلًا، لكن نسيبة عبّر أيضًا عن مخاوفه، لا سيما من أن تؤدي حالة الهدوء الجديدة في غزة إلى فصل دائم بينها وبين الضفة الغربية. ومع ذلك، فإن تأمله في إمكانيات اللحظة الراهنة لم يكن ضربًا من التمنّي.
أما ترامب، فقد أعلن بنفسه أنه “لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية”. وهذا التعهّد، الذي صدر الشهر الماضي من المكتب البيضاوي، كان حتى وقت قريب محلّ شك، خاصة بعد تعيينه لحاكم أركنساس السابق مايك هاكابي، المعروف بدعمه الإنجيلي لإسرائيل، سفيرًا له في القدس. وكان هاكابي قد صرّح لشبكة “سي إن إن” عام 2017 قائلًا: “أعتقد أن لإسرائيل سند ملكية يهودا والسامرة”، مفضلًا عمدًا التسمية التي يستخدمها دعاة التوسّع الإسرائيلي للضفة الغربية.
منذ وصوله إلى القدس في أبريل/ نيسان، يبدو أن هاكابي إما فقد إيمانه بهذه المسألة أو وجده من جديد. ففي يوليو/ تموز، زار قرية الطيبة في الضفة الغربية، حيث أُحرقت كنيسة فلسطينية على يد مستوطنين إسرائيليين، وصرّح بأن الحريق كان “عملًا إرهابيًا”. وكانت أعمال عنف المستوطنين قد تصاعدت بعد هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول، كما ذكرتُ في حينه. أما موسم قطف الزيتون، الذي كان في السابق مناسبة لهجمات من هذا النوع، فقد بدأ للتو، والأوضاع أكثر هدوءًا الآن؛ وقد يكون هناك أمل.
ذكّرتني صور الدمار في غزة، وربما أيضًا صحبة الفيلسوف، بفيلسوف آخر هو جوناثان لير، الذي توفي الشهر الماضي. ففي كتابه الصادر عام 2006 بعنوان الأمل الجذري، تناول لير ما يتبقّى للناجين من حضارة مدمرة. بعد أن حُصر شعب الكرو، من سكان السهول الكبرى في أمريكا، في محميات، أعلن زعيمهم الأخير، بلنتي كوبس، بشكل غامض: “بعد هذا، لم يحدث شيء”. كانت تلك العبارة بمثابة نعي لطريقة حياة كاملة. واقترح لير أن إعلان موت الكرو بشكل ما كان شرطًا لإفساح المجال أمام “ولادة جديدة” للكرو بشكل آخر. فالأمل الجذري، كما يراه، هو الاعتراف بزوال نمط حياة معين، دون القدرة على معرفة الشكل الذي ستتخذه الحياة الجديدة التي ستولد في الفراغ الذي خلّفه زوال النمط السابق.
لم يتعرّض سكان غزة لمحو حضاري شامل كما حدث للكرو. (بحسب وزارة الصحة التابعة لحماس، فإن نحو 3 بالمئة من سكان غزة لقوا حتفهم في الحرب، ويشمل هذا الرقم المقاتلين. أما شعب الكرو، فقد توفي نحو ثلثهم بسبب الجدري خلال سنوات قليلة فقط). ومع ذلك، قد تكون هناك لحظة مشابهة تلوح في الأفق، حيث انتهت حقبة سياسية، وبدأت أخرى، لا تزال تفاصيلها مجهولة، تحاول أن تولد. وهناك قابلة غريبة بلون برتقالي تحضر الولادة.
المصدر: ذا أتلانتيك