بين ركام البيوت، وأصوات الصمت المخنوق، يقف الناجون في غزة على أطلال ما تبقّى من حيواتهم، ليسوا فقط ضحايا حربٍ انتهت، بل شهودًا على دمارٍ لم يغادرهم بعد.
في أحياء كالجلاء، والشيخ رضوان، وشرق المدينة، لا يحتاج المرء كثيرًا من الوقت ليدرك أن الحياة هنا لا تُقاس بعدد الضحايا فقط، بل بعدد الأحلام التي سُحقت تحت الأنقاض.
البقاء رغم الدمار
في قلب منطقة الجلاء بمدينة غزة، حيث تختلط رائحة الغبار برائحة الذكريات، عاد المواطن عبد الله حرز (42 عامًا) إلى بيته المُدمَّر جزئيًا، بعد أن قضى أسابيع نازحًا في دير البلح وسط القطاع، غير أن العودة لم تكن كما حلم.
يقول عبد الله لـ”نون بوست”: “لم أكن أتخيّل أن أعود إلى البيت وحيدًا، كنت أحلم بالعودة مع زوجتي وأطفالي الثلاثة، لكنهم رحلوا. البيت لم يعُد بيتًا، والحي لم يعُد حيًا”.
منزله الذي كان يؤويه مع عائلته، بات مجرد جدران مائلة، بلا أبواب أو نوافذ، بلا مياه أو كهرباء أو أدنى مقوّمات الحياة، رغم ذلك، قرر عبد الله البقاء فيه.
ويُضيف: “لم أستطع البقاء في دير البلح أكثر، الناس هناك لم يُقصّروا، لكني تعبت. أردت أن أكون قريبًا منهم، من ذكراهم، حتى ولو تحت الركام”.
يصف عبد الله حال منطقة الجلاء: “الحياة هنا معدومة؛ لا مياه، لا صرف صحي، لا بنية تحتية. الشارع الرئيسي كله ركام، لا سيارات تمر، ولا أحد يمر أصلًا”.
في كل زاوية من زوايا منزله المُدمَّر، يلمح صورًا وأصواتًا من الماضي، قائلًا: “هذه الزاوية كانت غرفة الأولاد، وهنا كانت تجلس أمهم تحضّر لنا الشاي، والآن؟ صمت فقط”.
يتنهّد ويُكمل: “في الليل لا ضوء، ولا أمان، لكني أرفض أن أترك البيت. هذا مكاني، وهذا بيتي، وإن كان بلا سقف”.
رغم صعوبة الظروف، لا يُخفي عبد الله خوفه من نسيان العالم لمعاناة سكان غزة بعد الحرب: “الناس مشغولة بإعمار الحجر، لكن مَن يُعيد لنا البشر؟ مَن يُعيد لي أطفالي وزوجتي؟”.
وختم حديثه برسالة موجعة: “أعرف أن الحياة لن تعود كما كانت، لكني أرجو فقط أن يكون هناك مستقبل، ألا يضطر أحد آخر أن يمر بما مررتُ به”.
وتُعتبر منطقة الجلاء من المناطق التي تعرّضت لدمار هائل خلال الحرب الأخيرة، وتشير بيانات أممية إلى أن نحو 83 بالمئة من مباني مدينة غزة تضررت، فيما أكّد مكتب الإعلام الحكومي في غزة أن أكثر من 90 بالمئة من البنية التحتية المدنية قد دُمِّرت.
مواجهة الحياة من لا شيء
في حيّ الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، حيث تكاد الحياة تتنفس بصعوبة تحت الأنقاض، تجلس سهيلة العطاونة (67 عامًا) على أطلال منزلها الذي دُمّر بالكامل جرّاء القصف الإسرائيلي الأخير، وهي تحاول لملمة ما تبقّى من الذاكرة والحياة، بينما تعيل أبناء نجلها الشهداء، بعد أن فقدوا والدهم تحت ركام هذا البيت.
تروي سهيلة لـ”نون بوست”: “هذا البيت ورثته عن والدي، عشتُ فيه عمري كله، وربّيتُ فيه أولادي، والآن أعيش فيه مع أحفادي الأيتام، لكن لم يبقَ منه شيء، فقط الحجارة والرماد”.
بيت العائلة، الذي كان ملاذًا آمنًا، بات كومة من الإسمنت المهشَّم، لا جدران تحمي، ولا سقف يُظلّل. تعيش سهيلة وأحفادها حرفيًا فوق الركام، بلا ماء، ولا كهرباء، ولا خدمات صحية، في ظروف وصفتها بأنها “أسوأ من الحرب نفسها”.
وتُضيف بحرقة: “لم نغادر لأن لا مكان نذهب إليه، ما معنا ثمن إيجار، ولا عندنا خيمة. ننام على البطانيات القديمة، نطبخ على النار إن وجدنا شيئًا نطبخه، ونشرب من الماء بعد مشي لساعات للحصول عليه”.
رغم الألم، لم تتوقف سهيلة عن العناية بالأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين عامين وتسعة أعوام، قائلةً: “أنا اليوم أمّ وجدة، وكل شيء لهم. فقدوا أباهم، ولا يعرفون أين أمهم. لا أستطيع أن أتركهم، هم أمانة”.
وتساءلت بحسرة: “إلى متى سنبقى هكذا؟ العالم كله يرى، ولا أحد يمد يده. هل المطلوب أن نموت جميعًا ليتحرّك أحد؟”.
منزل سهيلة كان قديمًا، مبنيًا بالحجر والإرث العائلي، لا يحمل فقط ذكريات، بل رمزية للهوية والانتماء.
“عدتُ لأرى بيتي، فلم أجد الحيّ كله”
عاد أحمد منصور (49 عامًا) إلى حيّه شرق مدينة غزة، مُثقلًا بالأمل والخوف معًا، لكنه لم يتوقّع أن الأمل سينهار أمام عينيه كما انهار منزله. لم يجد بيته فقط مُدمَّرًا، بل لم يجد الحيّ بأكمله.
يقول أحمد بصوت خافت، وهو يتأمّل الركام: “كنت أحلم أن أرجع وأرى بيتي واقفًا، حتى لو متضرر شوي، لكن لما وصلت، ما لقيت لا بيت ولا حي، كل شيء راح”.
أحمد، وهو أب لخمسة أبناء، كان قد قضى سنوات طويلة في بناء منزله حجرًا بعد حجر، واصفًا كل طوبة فيه بأنها من عرق جبينه.
يسرد لـ”نون بوست”: “كل قرش جمعته من شغلي بره، من تعبي، حطيته في هذا البيت. سنين وأنا أبنيه، قطعة قطعة، بدون ديون، بدون مساعدة. كنت أقول لأولادي: هذا بيتكم، أمانكم”.
الآن، لا مكان يأوي عائلته، ولا خطة واضحة لما هو قادم. يتساءل بحيرة: “وين نروح؟ كيف نبدأ من أول؟ مش بس البيت راح، الحياة كلها وقفت من اللحظة اللي شفت فيها الحيّ مُدمَّر”.
بيت أحمد لم يكن مجرد بناء، بل كان حياة، وذكريات، وسنوات من الكفاح، وتفاصيل يومية لا تُقدَّر بثمن، وهو لا يُخفي قلقه من المستقبل، خصوصًا مع استمرار أزمة السكن، وانعدام الموارد، وتعقيد مشروعات الإعمار.
ورغم كل الألم، لا يزال يتمسّك ببصيص أمل، وإن كان باهتًا، قائلًا: “إن شاء الله نرجع نبني، حتى لو من الصفر، بس بدنا أحد يشوفنا، يساعدنا، يوقف معنا”.