ترجمة وتحرير: نون بوست
نُشر هذا التقرير للمرة الأولى يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول، عقب التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ويوم الإثنين 13 أكتوبر/ تشرين الأول، أفرجت حماس عن جميع الرهائن الإسرائيليين الأحياء البالغ عددهم 20 شخصًا، فيما أفرجت إسرائيل عن نحو 1,700 أسير فلسطيني ضمن بنود الاتفاق.
أخيرًا، توصلت إسرائيل وحماس إلى اتفاق، ولو بشكل مبدئي. مساء الأربعاء الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الطرفين المتحاربين في غزة وافقا على تنفيذ “المرحلة الأولى” من خطة السلام التي قدمها في سبتمبر/ أيلول. ورغم أن ذلك لا يعني انتهاء الحرب بشكل كامل، إلا أنها تبدو محاولة جادة من إسرائيل وحماس لإنهاء عامين من الصراع الدموي والدمار واليأس.
على مدار عامين من الحرب التي اندلعت بعد أن توغلت حماس في إسرائيل وقتلت نحو 1,200 شخص، معظمهم من المدنيين، واقتادت حوالي 250 آخرين كرهائن إلى غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، قامت إسرائيل بتدمير قطاع غزة بالكامل.
قتلت إسرائيل أكثر من 67,000 فلسطيني، وتسببت بتجويع وتهجير معظم سكان القطاع الذين يبلغ عددهم نحو مليوني نسمة، وحوّلت غالبية مبانيه وبنيته التحتية إلى أنقاض.
كما أن مصير الرهائن أثّر بشدة على المجتمع الإسرائيلي، ودفع الكثير من الإسرائيليين إلى المشاركة في احتجاجات حاشدة تطالب بإبرام اتفاق ينهي الحرب ويعيد المختطفين المحتجزين منذ عامين.
وعلى الصعيد العالمي، تدهورت سمعة إسرائيل بشكل غير مسبوق بسبب ممارساتها، حيث وجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لقادتها بارتكاب جرائم حرب، وأصبحت معزولة على الساحة الدولية باستثناء أقرب حلفائها، الولايات المتحدة. وقد أدّت الحرب، وما أثارته من استياء عالمي، إلى دفع حلفاء إسرائيل، مثل بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال وبلجيكا، للاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي.
الآن سنكتشف ما إذا كان السلام سيصمد، وكيف سيبدو “اليوم التالي” فعليًا إن صمد الاتفاق. ينص الاتفاق الذي أُعلن عنه يوم الأربعاء، بحسب ما أفاد الطرفان، على عودة جميع الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة، بدءًا بالأحياء منهم، والذي يُقدّر عددهم بنحو 20 شخصًا، وهو ما تم بالفعل يوم الاثنين، بالإضافة إلى عودة رفات القتلى الإسرائيليين، أي نحو 30 شخصًا، في وقت لاحق على مراحل. وفي المقابل، أفرجت إسرائيل عن نحو 2,000 أسير فلسطيني، من بينهم نحو 1,700 اعتُقلوا خلال الصراع الحالي. كما أعلنت إسرائيل عن انسحاب جيشها إلى الخط المتفق عليه داخل غزة، كخطوة أولى من عملية الانسحاب من القطاع.
لكن الأهم من ذلك أن الكثير من بنود الاتفاق بين إسرائيل وحماس مازالت مجهولة. لا يُعرف حتى الآن ما إذا كانت حماس قد وافقت على نزع سلاحها بالكامل، ولا مدى انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة أو توقيته.
لم تكن حكومة نتنياهو لتوافق على الاتفاق من تلقاء نفسها، بل تشير التقارير إلى أن الرئيس ترامب مارس ضغوطًا شديدة لإجبار نتنياهو على القبول بها.
مع ذلك، فإن هذه الاتفاقية تعد أقرب ما يكون إلى “النصر المطلق” لإسرائيل مما كان يمكن تصوّره خلال العامين الماضيين. إذا طُبّقت الاتفاقية كما أُعلن عنها في بداية هذا الشهر، ستُبقي إسرائيل على وجودها العسكري في غزة، مع احتفاظها بالقدرة على شن ضربات دورية ضد المسلحين. ولن تكون حماس هي السلطة المسيطرة على غزة، ولا السلطة الفلسطينية، على الأقل في المستقبل القريب. من المرجّح أن تتولى جهات خارجية، وليس من بينها إسرائيل، مسؤولية تمويل إعادة إعمار القطاع. أما المعضلات التي بدت مستعصية أمام حكومة نتنياهو، فقد تبيّن في النهاية أنها لم تكن معضلات على الإطلاق.
ستُستخلص دروس من هذا الحدث، سواء في إسرائيل أو في بقية أنحاء العالم. حجم العملية وشمولها، وما يبدو أنه نجاح في تحقيق معظم أهداف الحرب، قد يدفع إسرائيل ودولا أخرى، إلى استخلاص بعض الاستنتاجات القاتمة للغاية بشأن أفضل السبل لمواجهة التهديدات التي تمثلها الحركات المسلحة مثل حماس في المستقبل.
ضربة كبيرة لمفهوم “مكافحة التمرّد”
كان واضحًا منذ البداية أنه بالنظر إلى فظائع 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فإن هذه الحرب ستكون مختلفة عن الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل في غزة أعوام 2006 و2008 و2014، والتي كانت مكلفة للمدنيين في القطاع، لكنها محدودة من حيث النطاق والمدة. لقد انتهى عهد “جزّ العشب”، أي تقويض قدرات حماس دون الانخراط في صراع طويل ومكلف يهدف إلى القضاء على الحركة بالكامل.
إذا كانت إسرائيل تحاول بالفعل القضاء على حماس، فقد قدّم مراقبون دوليون بعض الاقتراحات. كتب ديفيد بتريوس، القائد السابق للقوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، في عام 2024 أن إسرائيل تكرر أخطاء الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، من خلال خوض حرب في غزة دون خطة واضحة لإدارة القطاع بعد الحرب، وأشار إلى أنه يجب على إسرائيل أن تستفيد من النجاح النسبي الذي حققته الولايات المتحدة في تكتيكات مكافحة التمرّد في العراق بعد عام 2007.
وكتب بتريوس في مجلة فورين أفيرز: “قتل واعتقال الإرهابيين والمتمردين لا يكفي. مفتاح ترسيخ المكاسب الأمنية والحد من تجنيد خصوم جدد هو السيطرة على الأرض وحماية المدنيين وتوفير الحوكمة والخدمات”.
لكن إسرائيل لم تتبع هذا النهج. أضعف القادة العسكريون الإجراءات التي تهدف إلى حماية المدنيين. ووفقًا لبعض التقارير، فإن أكثر من 80 بالمئة من القتلى في غزة من المدنيين، وهي نسبة تفوق بكثير مثيلاتها في النزاعات الأخيرة. كما تم تسوية أكثر من 70 بالمئة من مباني غزة بالأرض، وتم في بعض الأحيان حظر المساعدات الغذائية بشكل كامل.
تعرّضت إسرائيل لانتقادات مستمرة طوال فترة الحرب، لا سيما من إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، بسبب غياب خطة واضحة لإدارة غزة بعد انتهاء العمليات العسكرية. لكن إسرائيل واصلت الحرب إلى أن ظهرت خطة من أطراف خارجية، خصوصًا الولايات المتحدة، وجدتها أكثر قبولًا من الخطط السابقة.
يبدو أن حرب غزة ستوجّه ضربة كبيرة لمفهوم “مكافحة التمرّد” الذي يقوم على فكرة أن أفضل وسيلة لمواجهة التمرّد هي كسب تأييد السكان المحليين، أي عبر “التطهير والسيطرة والبناء” كطريق نحو النصر. قد يشير الإسرائيليون إلى أن خسارتهم لـ466 جنديًا في المعارك يُعد رقمًا مرتفعًا مقارنة بالحروب الإسرائيلية السابقة، لكنه يساوي تقريبًا نصف خسائر الولايات المتحدة في السنة الأولى من حملة بتريوس في العراق.
خاضت إسرائيل حربًا بالغة الوحشية، إلى درجة أن لجنة تابعة للأمم المتحدة وعدد من أبرز الباحثين الدوليين اعتبروا أنها ارتكبت إبادة جماعية، كما أن رئيس وزرائها يواجه لائحة اتهام أمام المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، أنهت إسرائيل الحرب إلى حد كبير وفق شروطها، في صفقة وصفها رئيس الولايات المتحدة بأنها “يوم عظيم”، وحظيت بتأييد كامل من الحكومات العربية.
باختصار، حققت استراتيجية القوة الساحقة التي انتهجتها إسرائيل – وهي مناقضة تماما لفلسفة بتريوس – نجاحًا ملموسًا من حيث تحقيق الأهداف العسكرية، لكن هناك بالتأكيد الكثير من المحاذير. عمّقت إسرائيل من عزلتها السياسية، ورغم أن الوضع قد يتغير بمجرد انتهاء الحرب، لكن جزءًا من العزلة سيستمر خلال الفترة القادمة.
كتب ياروسلاف تروفيموف في وول ستريت جورنال: “التضامن مع القضية الفلسطينية والعداء للصهيونية أصبحا بشكل متزايد من السمات السياسية لجيل جديد”.
قد لا تتضح النتائج الكاملة لهذه الحرب بالنسبة لإسرائيل إلا بعد سنوات. كما أن علاقتها بالولايات المتحدة تُعد استثناءً: بعبارة واضحة، لا توجد دول كثيرة يمكنها أن تخوض حربًا بهذه الطريقة وتستمر في تلقي مليارات الدولارات سنويًا كمساعدات عسكرية.
وبغض النظر عن مصير حماس، يصعب تخيّل أن يحمل سكان غزة مشاعر إيجابية تجاه إسرائيل في نهاية هذه الحرب أفضل مما كان في بدايتها. من السهل تخيّل نشوء حركة مقاومة مسلّحة جديدة قد تنفّذ هجمات مستقبلية ضد إسرائيل.
مع ذلك، من المرجّح أن تستخلص دول أخرى درسًا مفاده أن سحق العدو يستحق ما يرافقه من استنكار دولي بسبب الخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين. وكما عبّر عدد من المحللين عند مناقشة الضربات الأمريكية والإسرائيلية ضد إيران، فإن قاعدة “بوتري بارن” التي صاغها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول – والتي تقول إنه في حال استخدام القوة العسكرية “إذا كسرت شيئًا، فأنت تملكه” – لم تعد صالحة للتطبيق. في مواجهة التمرّد، لم يعد من الضروري “التطهير والسيطرة والبناء”، يمكنك ببساطة أن تسحق خصمك دون أي اعتبارات أخرى.
يبدو ذلك كأنه مؤشر إضافي على أننا تجاوزنا أعراف حقبة “الحرب على الإرهاب” التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، لكن ليس نحو حروب أكثر احتراما للإنسانية أو القوانين. يمكن اعتبار غزة قد أول حرب تمرّد في عصر ما بعد “النظام الدولي الليبرالي“، وهو العصر الذي تراجعت فيه قوة مؤسسات المجتمع الدولي، وبدأت فيه المعايير المتعلقة بقوانين الحرب والديمقراطية وحقوق الإنسان في التآكل.
ستكشف الأيام المقبلة ما إذا كان الاتفاق الحالي مجرد تبادل للرهائن وتمهيد لمرحلة جديدة من الصراع، أم بداية لسلام دائم. وإذا تحقق السلام، سيكون ذلك بارقة أمل للفلسطينيين، وفرصة لإدخال مساعدات هم في أمسّ الحاجة إليها، وبدء إعادة الإعمار. أما إسرائيل، فإنها ستضطر إلى مواجهة الإخفاقات العسكرية والسياسية التي أدّت إلى هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وهي تتجه نحو انتخابات تلوح محتدمة العام المقبل.
لكن الإرث الحقيقي لهذا الصراع سيظهر على الأرجح عندما تندلع الحروب القادمة. وعند مساءلة الحكومات عن الطريقة التي خاضت بها تلك الحروب، من المرجّح أن تشير إلى النموذج الإسرائيلي
المصدر: فوكس