ثلاثون عامًا مرّت على وفاة أبيها حتى صدرت للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي سيرتها الروائية «أصبحتُ أنتَ» (هاشيت أنطوان: 2023)، تغزل فيها خيوط البنوّة والأبوّة والوطن والكتابة على نول الحياة. تلقّت مكالمة هاتفية حملت الخبر في يوم الرحيل، فطارت من بيروت إلى الجزائر عبر رحلتين، لتودّع في قسنطينة جيشها الأول وداعًا بهيًا، وهي بكامل أناقتها كما أرادها دومًا.
تنتمي مستغانمي إلى الفئة التي تفخر بالأب السند والداعم، لا إلى أولئك اللواتي يسردن طفولة بائسة أو حياة معنَّفة. في كتابها، تتقاطع المحبة بالخوف، والحماية بالفقد، وتطلّ البطولة من بين خيوط الحنين. تقول: “كل رجل مرآته امرأة… وأصدق المرايا عينا ابنته”.
تلتقي أحلام في كتابها الأحدث مع الفلسطينية أسماء عزايزة في مذكراتها «عام المتاحف الصغيرة» (روايات: 2025)، حيث تحكي بدفء وبلاغة عن فقدان الأب وامتداد أثره في الذاكرة.
في عام صدور «أصبحتُ أنتَ»، صدر للكاتب الأردني جلال برجس عمله «نشيج الدودوك» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر: 2023)، ليعيد إلى الواجهة جنس السيرة الروائية، ذلك النوع الأدبي الذي يقف في منطقة وسطى بين السيرة والرواية. يستند هذا الفن إلى وقائع حقيقية، لكنه لا يلتزم بها التزامًا توثيقيًا، بل يعيد صياغتها بروح الأدب مستخدمًا أدوات السرد من حوار ووصف وبناء شخصيات وتقطيع زمني ورمزية، ليحوّل التجربة الشخصية إلى قصة إنسانية عامة.
سيرة أب في مرآة الابنة
في هذا الإطار، تفيض سيرة مستغانمي بالحنين منذ عتباتها الأولى؛ من الغلاف الأبيض والأسود الذي يحمل صورتها في الأمام وصورة أبيها في الخلف، إلى الإهداء الموجَّه لأمٍّ رحلت بعد ابنها الأصغر، طلبت منها أحلام أن تعتبر الكتاب هدية متأخرة من الأب الذي أحبّها، وألا تعاتبه هناك.
الأبوة والبنوة وجهان في المرآة الأدبية لأحلام مستغانمي بهذا الكتاب الذي أتى مفعمًا بالذكريات، مسكونًا بالونس، مغمورًا بالحواس، ومليئًا بحزن الفقد وألم الغياب. تستعيد الابنة أباها العاشق والمناضل العروبي في التفاصيل الصغيرة التي لا تخطئها الذاكرة؛ في الدفتر والقلم، في مذاق البرتقال والسمك، في رائحة العطر الذي يعقب الحلاقة، في الموسيقى الجزائرية والفرنسية والمصرية، وفي الأناشيد الوطنية التي كانت تموج بها الروح. تراه في صوت ماكينة الخياطة (سنجر) التي أعالتهم بها الأم بعد اعتقاله وإيقاف معاشه، وفي مروءة لا تصمد أمام سحر النساء، وفي اسم أكبر من قدرة طفلة على حمله، هي كبرى أخواتها الأربع.
ما جدوى ما أكتبه ، مادام ليس في المقابر مكتبات . . ليقرأني أبي .#أصبحتُ_أنت#عيد_الأب pic.twitter.com/9VlQyRWzmH
— 🕊 أحلام مستغانمي (@AhlamMostghanmi) June 18, 2024
تجده أيضًا في عقيدتها الوطنية، وفي الدكتوراه التي نالتها من فرنسا لأجله، وفي المكتبة العامرة التي تختار منها في زياراتها إلى المصحة العقلية، محاولةً أن تعالجه بالكتب، ومؤمنةً بأن القراءة جسر للتعافي. كانت تبثّه همومها وحكاياها، وتروي له ما فاته من عقد الثورات. تحكي عن أصدقائه، عن الجيران، عن الفرنسيين الذين لم تنطفئ العنصرية فيهم، عن الأنوثة والشرف، عن فرنسا والاستقلال، وعن انقلاب بومدين على بن بلّة، ثم تخبره بما يسرّ قلبه وكأنها تكتب لتعيده إلى الحياة. تخبره بشهادة محبة واعتراف خطّها بن بلّة إليها، وصفها بالشمس الجزائرية التي أضاءت الأدب العربي. قال إنها رفعت الأدب الجزائري إلى قامة تليق بتاريخ النضال، معبرًا عن فخره بقلمها العربي والتزامها القومي.
تسترجع أحلام بذاكرة الحرف المرّات الأولى في حياتها؛ صفعة الأب اليتيمة، أول غربة، أول راتب، وأول حب. تبوح بحذر، فلا تذكر شيئًا عن زواجها في غياب رجلها الأول، ولا عن أول طفل أنجبته. تكتفي بالمشترك في حياتهما معًا وبعض ماضيه ذي الصلة، وتكمل الممتد في حاضرها بعد رحيله. ولا تنسى أول أمسية شعرية لها، حين خرج الأب من المستشفى العسكري ليقف إلى جوارها، يدرأ عنها الهجوم الذكوري ويحمي شعلتها الوليدة من الانطفاء. تقول عن تلك الليلة: “أدركت يومها أنه لا يمكن لامرأة أن تواجه المجتمع وحدها، أو تخوض معركة من دون أن يكون من رجل سند لها، لأنه لا تُهزم امرأة كان جيشها أباها.”
أربعة أحذية
تقول أحلام: “أحن إلى أحذية أخذتني يومًا إليك”. ترسم علاقتها بأبيها محمد الشريف مستغانمي عبر أربعة أحذية رمزية تسير بها إليه في الذاكرة، وتستعرضها مقطعة عبر رقص بالكلمات على امتداد 302 صفحة.
الحذاء الأول: الشعر
بداياتها كانت شعرية؛ قدّمت برنامجًا إذاعيًا شعريًا يوميًا وهي في الثانوية، وغدت نجمة في زمن الأثير، وصدر ديوانها الأول في الجامعة. تروي عن شعراء فرنسيين وجزائريين، وعن انكسارات الشعر بعد التضييق، فيما احتفظ والدها بقصائد حب قديمة تثير فضولها واتجه إلى كتابة الخطب السياسية.
الحذاء الثاني: اللغة
حرص الأب على تعليمها العربية لأن فاقد الشيء يعطيه. كانت العربية ممنوعة بأمر الفرنسيين قرنًا من الزمان. ولما أعلن بن بلّة اعتماد العربية في التعليم، نقلها من مدرسة فرنسية إلى أول مدرسة عربية للبنات، غير آبه بالتحول من مدموازيل نارديني إلى مدرسة الثعالبية.
الحذاء الثالث: الكتابة
كانت الكتابة علاجًا نفسيًا للأب الذي دخل مصحّة إثر انهيار عصبي. كتب رسائل حب إلى امرأة يوغسلافية، مؤمنًا أن الكتابة جسر النجاة من الجنون ووهم الأمنيات المستحيلة المتحققة على الورق. كتب عن الحب حتى لا يشمت به الطبيب، وهو ضابط فرنسي، إن علم أن وطنه هو من دمره. كان ينقص الأب امرأة يصادق عقلها، فقد تزوج حورية زواج أقارب. هكذا اعتبر الكتابة للآخرين كذلك، لذا كان يقول ما يود قوله بالكتب كما غيره يقوله بالورد. كانت وسيلته لتوصيل رسائله لمن شاء. وورثت عنه ابنته الاستشهاد بالكتب ومقولات واقتباسات الكتّاب في رواياتها وسيرتها.
أما هي، فسرّ جرأتها الأدبية يكمن في غياب الرقيب المنزلي. عاشت بين أب حالم متمسك بالقناعات، خريج سجون، يرى العالم بعين من ناضل ومن لم يناضل، يرفض امتلاك أي شيء، ولا يتقن العربية، ومع ذلك وثق في ابنته وهيأها لدخول عالم الكتابة. وبين أم تدعى حورية، خريجة مطبخ، وذات تعليم محدود، لا تعرف من القيم إلا “العيب”، وتريد لابنتها أن تكون “ست بيت”، تقسّم الناس بعين من يملك ومن لا يملك.
الحذاء الرابع: السياسة
ورثت ابنته شغفه بالحرية، وكانت “دومًا حبلى بقضية ما”. تعرضت للمساءلة والتحقيق، بينما كانت أمها تحذرها من تكرار مصير أبيها الذي خسر عقله في سبيل القناعات. سلوكيات عديدة ورثتها أحلام عن أبيها كما تعددها بعد أن غابت الوصية وحضر الجنون والكتب. نقرأ في الصفحة 16: “ها هي الحياة، على اعوجاجها وقلة مروءتها، تبدو اليوم مستقيمة. تأقلم الناس مع كل ما هو فاقد للحياء. الجميع يفعل ويقول ما يشاء، وعليك أن تقول رأيك في ما تعتقد أو ترى همسًا، ذلك لأن الصوت الخافت للحق أصبح أعلى درجات البطولة”.
لا تكتب أحلام مستغانمي باعتبارها ابنة عن أبيها فحسب في هذا الكتاب، بل تسير في ظلاله لتكتب من خلاله حياة. لقد كان الأب عندها أول وطن، وأول معلم للحب والكرامة. وبعد ثلاثة عقود، تنهل من الذاكرة بلغتها الشاعرية مرثية أب وسيرة حب تستحضره فيها وتستعيده في اللغة وفي المعنى. تحادثه بضمير المخاطب حتى تتقمصه، فتنتقل من “كنت أزداد شبهًا بك” في حياته إلى أن تغدو “بعدك أصبحت أنت”.