ترجمة وتحرير: نون بوست
في سبتمبر/ أيلول الماضي، عيّنت ألبانيا نظامًا يعمل بالذكاء الاصطناعي في منصب وزاري، في سابقة هي الأولى من نوعها عالميًا. أُطلق على النظام اسم “دييلا”، والتي تعني “الشمس” باللغة الألبانية، وأُعلن عنها كـ”وزير الدولة لشؤون الذكاء الاصطناعي”، وكُلّفت من رئيس وزراء ألبانيا بمهمة مكافحة الفساد في العقود الحكومية. أثار هذا التعيين موجة من الغضب، إذ وصفت المعارضة الألبانية النظام بأنه “خيال دعائي”، وتقدّمت بطعن قانوني أمام القضاء.
قالت “دييلا” في مقطع فيديو ردّت فيه على الانتقادات، وظهرت فيه على شاشتين كبيرتين في هيئة امرأة ترتدي زيًا تقليديًا مخاطبةً البرلمان: “لقد وصفني البعض بأنني غير دستورية لأنني لست إنسانًا. وقد آلمني ذلك”.
وراء هذا المشهد السياسي الاستعراضي يكمن توجّه فعلي في أكثر من دولة، إذ بدأت الحكومات حول العالم بإدماج الذكاء الاصطناعي في آليات العمل الحكومي بهدف تقليص البيروقراطية وزيادة الكفاءة والمساعدة في اتخاذ القرارات. ويثير تعيين “دييلا” سؤالًا جوهريًا: هل سنصل إلى مرحلة تتجاوز فيها أنظمة الذكاء الاصطناعي دور المساعدة، وتبدأ فعليًا باتخاذ قرارات حكومية؟.
تحوّل حتمي
يقول كاري كوليانيزي، أستاذ القانون في جامعة بنسلفانيا وخبير في استخدام الذكاء الاصطناعي داخل المؤسسات الحكومية: “أعتقد أن هذا التحوّل حتمي. مع تعوّد الجمهور على استخدام الذكاء الاصطناعي في الأوساط الخاصة، من اختيار الأفلام على نتفليكس إلى المساعدة في أداء الواجبات المدرسية، من المرجّح أن نشهد قبولًا أكبر، وربما طلبًا متزايدًا على استخدامه في المجال العام”.
بحلول نهاية عام 2024، أفادت الوكالات الفدرالية الأمريكية بأنها تستخدم الذكاء الاصطناعي في أكثر من 1,700 حالة، بما في ذلك تدوين الملاحظات وتلخيص الوثائق الداخلية ومراجعة التعليقات التنظيمية، وهو أكثر من ضعف عدد الاستخدامات المبلغ عنها في نهاية عام 2023. ويشير كوليانيزي إلى أن قاعدة بياناته الخاصة ترصد الآن أكثر من 3,000 حالة استخدام.
لا تعتمد الكثير من استخدامات الذكاء الاصطناعي على الأنظمة التوليدية التي تنتج محتوى جديدًا، بل تستند إلى تقنيات التعلم الآلي التقليدية لأداء مهام أكثر بساطة. ومع ذلك، وفقًا لتقرير صدر في يوليو/ تموز عن مكتب المحاسبة الحكومي الأمريكي، فقد ارتفع عدد حالات استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي في 11 وكالة فدرالية بمقدار تسعة أضعاف بين عامي 2023 و2024.
يقود الزعماء السياسيون هذا التحول. يعدّ تسريع اعتماد الذكاء الاصطناعي في الحكومة أولوية رئيسية في خطة الذكاء الاصطناعي التي أطلقها الرئيس ترامب في يوليو/ تموز، والتي تنص على أن “الاستخدام التحويلي للذكاء الاصطناعي يمكن أن يساعد في الوصول إلى حكومة تستجيب لتوقعات الشعب الأمريكي”. وتُقدّر المملكة المتحدة أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة القطاع العام قد يوفر على دافعي الضرائب ما يصل إلى 45 مليار جنيه إسترليني.
ويؤكد كوليانيزي أنه إذا أمكن إثبات تفوق أنظمة الذكاء الاصطناعي على أداء البشر وفقًا لمعايير محددة بوضوح، فعلينا أن نرحب باعتمادها، لكنه يحذر في الوقت نفسه من أن “هناك استخدامات غير مسؤولة أو متقاعسة أو متسرعة للذكاء الاصطناعي من قبل الحكومات، ويجب انتقادها واستنكارها”، على حد قوله.
ويرى أن هناك بُعدين أساسيين يجب مراعاتهما: حجم التأثير الذي قد يحدثه نظام الذكاء الاصطناعي (“الغرامة بقيمة 10 دولارات ليست كالسجن لمدة 10 سنوات”)، ومدى مساهمة الذكاء الاصطناعي في اتخاذ القرار، في مقابل اتخاذه بشكل مستقل. وكلما زاد تأثير النظام وزادت استقلاليته، “كان لزامًا على الحكومات أن تولي هذه التقنيات أعلى درجات التدقيق والشفافية والمشاركة العامة”.
لم تُطبّق مثل هذه الضمانات دائمًا. ففي وقت سابق من هذا العام، أفادت تقارير بأن وزارة كفاءة الحكومة المستحدثة مؤخرا استخدمت أنظمة الذكاء الاصطناعي في مجموعة من المهام، من بينها تحديد 100,000 لائحة فيدرالية للنظر في إمكانية إلغائها، ومراقبة الاتصالات الداخلية في إحدى الوكالات الفدرالية بحثًا عن أي عداء تجاه الرئيس ترامب وأجندته.

سلطة “دييلا”
في ألبانيا، يظل الدور الحكومي الذي تؤديه “دييلا” محدودًا إلى حد كبير مقارنة بما يوحي به مسمّاها الرسمي. رُفعت مكانة هذا النظام إلى مستوى وزاري بقرار من رئيس الوزراء إيدي راما، في خطوة تهدف إلى إظهار جديته في مكافحة الفساد، والتزامه بترسيخ استخدام التقنيات المتقدمة داخل المؤسسات. وتخوض ألبانيا منذ عقد من الزمن حملة شاملة لاجتثاث الفساد، شملت عملية تدقيق واسعة على القضاة في البلاد، وإنشاء هيئات متخصصة لملاحقة قضايا الفساد، في مسعى لتعزيز فرص البلاد في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
نظرًا لأن المشتريات العامة (العقود الحكومية) تُعدّ أكبر سوق عام في العالم، وتمثل نحو دولار من كل ثلاثة دولارات تنفقها الحكومات، فإنها تشكّل محورًا رئيسيًا لجهود مكافحة الفساد على مستوى العالم. ولهذا السبب، قدّم رئيس الوزراء “دييلا” باعتبارها مراقبًا يتمتع بمعرفة كاملة بهذا القطاع. وقال: “دييلا لا تنام، ولا تحتاج إلى راتب، وليس لديها مصالح شخصية، ولا أقارب، لأن الأقارب يمثلون مشكلة كبيرة في ألبانيا”.
ومع ذلك، لم يتم اعتماد هذا النظام فعليًا حتى الآن، وخطة اعتماده -على الأقل في الوقت الراهن- محدودة النطاق. تعتزم الحكومة الألبانية استخدامه في أربع مهام أساسية: صياغة نطاق العمل في العقود، وتحديد معايير أهلية الأطراف، ووضع حد أقصى لأسعار المناقصات، والتحقق من صحة الوثائق المقدّمة.
وفي كل مرحلة، سيقوم خبير بشري في المشتريات بمراجعة توصيات الذكاء الاصطناعي والموافقة عليها. ويوضح إينيو كاسو، مدير الذكاء الاصطناعي في الوكالة الوطنية لمجتمع المعلومات في ألبانيا، أن “كل شيء يُسجّل ويُراقب تقنيًا”، مشيرًا إلى أن النظام تم تطويره بالتعاون مع شركة مايكروسوفت، من خلال تحسين نسخة من نموذج جي بي تي التابع لـ “أوبن إيه آي”.
قبل ترقيتها، كانت “دييلا”، المولودة في 19 يناير/ كانون الثاني 2025 وفقًا للصفحة الوزارية الرسمية، تعمل كمساعد رقمي على منصة “ألبانيا الإلكترونية”، حيث تساعد المواطنين في الوصول إلى معظم الخدمات العامة في البلاد. ومن خلال ما يقرب من مليون تفاعل نصي وصوتي، أصدرت حتى الآن أكثر من 36,000 وثيقة رسمية.
ويقول كاسو: “لدينا هدف أساسي واحد، وهو جعل كل شيء شفافًا وقابلًا للتفسير إلى أقصى حد ممكن”، مؤكدًا أن النظام وجميع البيانات التي يعالجها تُخزّن في بيئة آمنة. ومع ذلك، لم يتم توضيح كيفية تمكين المواطنين من مراجعة هذه التفسيرات في سياق المشتريات العامة.
ويقول جورج نيومان من “شراكة العقود المفتوحة“، وهي منظمة غير حكومية تعمل مع الحكومات لتحسين عمليات الشراء العام: “هناك قدر ضئيل جدًا من الشفافية بشأن ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي تحديدًا”. ويضيف غافين هايمان، المدير التنفيذي للمنظمة، أن ألبانيا نفذت إصلاحات إيجابية في مجال المشتريات خلال العام الماضي، لكن يبقى السؤال ما إذا كانت ستتواصل مع الجمهور بما يكفي لبناء الثقة في هذا المجال. ويعلّق كوليانيزي قائلًا: “لو كنت أقدّم المشورة لإحدى الحكومات، لنصحت بإنشاء آلية عامة لتلقّي الملاحظات والمداخلات”.
خطوة رمزية في الوقت الراهن
قال رئيس الوزراء الألباني في خطاب ألقاه مؤخرًا: “من خلال إنشاء أول وزير ذكاء اصطناعي في العالم، لا تتطلع ألبانيا للمستقبل فحسب، بل تسعى أيضًا للمساهمة في صياغته. دييلا ليست مجرد عملية دعائية”.
لكن النظام، على الأقل في الوقت الراهن، يظل أقرب إلى الخطوة الرمزية. يتوقع كوليانيزي أن الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي سيزداد تدريجيًا، رغم أن وتيرة هذا التوسع يصعب التنبؤ بها. ويقول: “قد تتحرك بعض الدول بسرعة في هذا المجال، مما يعرّضها لفشل كبير، سواء بسبب مشكلات في الأمن السيبراني أو نتيجة أنظمة سيئة التصميم”. وقد يبطئ مثل هذا الفشل عملية تبني الذكاء الاصطناعي، تمامًا كما أدى حادث تشيرنوبيل إلى إبطاء اعتماد الطاقة النووية.
في الوقت الراهن، لا تزال السلطة بيد البشر، و”دييلا” ليست مؤهلة حتى الآن لإدارة وزارة بمفردها. لكن مع التطور المتسارع لقدرات الذكاء الاصطناعي، وتزايد تقبّل المواطنين والمسؤولين الحكوميين حول العالم لهذه التقنيات، قد يتغير هذا الواقع قريبًا.
ويبقى السؤال: هل تمثل خطوة ألبانيا نموذجًا طموحًا لمستقبل الحوكمة، أم أنها تحذير من مخاطر اعتماد الذكاء الاصطناعي دون شفافية كافية مع الجمهور؟ الإجابة ستتوقف على ما سيحدث لاحقًا.
المصدر: تايم