في أول زيارة له إلى موسكو بعد الإطاحة بحليف الكرملين السابق بشار الأسد، وصل الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الروسية أمس، 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، على رأس وفد رفيع المستوى، في زيارة تعكس توجّهًا لبناء علاقة أوثق مع دولة طالما كانت علاقتها بالشعب السوري معقدة ومحمّلة بالتناقضات. يُشكّل اللقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين محطة تفاوضية ثقيلة، الهدف منها تفكيك إرث عقدٍ كامل من الحرب والسياسة، وإعادة تعريف موقع روسيا في الملف السوري.
على الطاولة، قضيتان محوريتان: مستقبل الوجود العسكري الروسي في قاعدتَي طرطوس وحميميم، والمطالبة بتسليم مجرم الحرب بشار الأسد إلى العدالة. وفيما تسعى موسكو للحفاظ على مكاسبها الجيوسياسية، يحضر في الذاكرة السورية سجلٌّ دمويٌّ ثقيل؛ قصفٌ منهجي لمناطق مدنية، واستخدام ذخائر عنقودية، وجرائم موثّقة من قبل منظمات دولية، خلّفت جراحًا لم تندمل، وفتحت أسئلة أخلاقية لا تزال بلا إجابة.
إرثٌ أسود يستدعي مراجعة صريحة لأسس علاقة شابها خللٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ عميق. فروسيا التي دعمت الأسد حتى النهاية، تبقى في نظر كثير من السوريين شريكًا مباشرًا في الكارثة. فبين الحسابات الواقعية والوفاء لدماء الضحايا، تفرض زيارة الشرع إلى موسكو سؤالًا لا يملك أحد ترف تجاهله: ماذا نريد فعلاً من روسيا؟
ما جرى خلال اللقاء؟
في مستهلّ اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، جاءت الرسائل العلنية حذرة ومدروسة. الشرع شدّد على أن “دمشق تعمل على تطوير العلاقات الاستراتيجية مع روسيا على أسس الاحترام والسيادة”، بينما استعاد بوتين ذاكرة التعاون الممتدة لأكثر من ثمانين عامًا بين البلدين، مذكّرًا بالعلاقات السوفييتية–السورية بوصفها ركيزة لما سمّاه “صداقة متجذرة وعميقة”.
هذا التوازن في الخطاب بين السيادة السورية والروابط التاريخية الروسية يعكس محاولة الطرفين تأطير علاقة جديدة. علاقة تحفظ مصالح موسكو الاستراتيجية، دون أن تتجاهل حاجة دمشق المعلنة لاستعادة قرارها الوطني، والتخلص من تركة التبعية التي ورثتها عن عهد الأسد.
تركيبة الوفد السوري المرافق للشرع كانت لافتة: وزيرا الخارجية والدفاع، ورئيس الاستخبارات العامة، والأمين العام للرئاسة. هذا الحضور لا يشي بلقاء بروتوكولي، بل بإرادة واضحة لدى دمشق لإعادة ترسيم التفاهمات مع موسكو عبر قنوات القرار المباشرة، وبملفات تتراوح بين السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي، في لحظة إقليمية لا تسمح بالهامش أو التردد.
تقارير إعلامية عربية موثوقة أكدت أن الوفد السوري أثار خلال الاجتماع ملف الرئيس السابق بشار الأسد، في إطار مطلب قضائي–سياسي داخلي، يتمثل في تسليمه أو على الأقل رفع الغطاء الروسي عنه. فيما نقل موقع “لينتا” الإخباري الروسي عن النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الدوما الروسي ديمتري نوفيكوف، قوله إن المطالبة بتسليم الأسد “تبدو غريبة”، مذكّرًا أنه “كان في الماضي قائدًا منتخبًا وفقًا للتشريعات السورية”، مشيرًا إلى أنه “قد يتعرض للتصفية في حال إعادته إلى سوريا”.
بوتين، من جهته، سعى لتأكيد أن العلاقة بين بلاده وسوريا “كانت دائمًا ودّية وخالصة”، وأن “مصالح الشعب السوري كانت الأساس في سياسات موسكو، لا اعتبارات النفوذ أو الظرف السياسي”. لكن هذا الخطاب الذي بدا تصالحيًا، لا يُلغي حقيقة أن موسكو كانت، ولأعوام، طرفًا مباشرًا في حرب دمّرت سوريا، وأن هذه العلاقة بحاجة لإعادة تعريف فعلية، لا مجرد إعادة توصيف.
على هامش الزيارة، التقى الشرع بمجموعة من أبناء الجالية السورية في روسيا، في لقاء بدا موجّهًا أكثر للداخل منه للخارج. تحدّث الرئيس عن أهمية دور السوريين في المهجر في إعادة إعمار البلاد، وأكد على أن المرحلة المقبلة ستشهد انفتاحًا حقيقيًا يشمل ليس فقط العلاقات الحكومية، بل كذلك القطاع الخاص والجاليات في الخارج.
بين البراغماتية والذاكرة
لم تمرّ زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو دون إثارة انقسام واضح في الرأي العام السوري. فبينما ركّزت التغطية الرسمية على أجواء اللقاء الإيجابية وحفاوة الاستقبال، نظر كثيرون إلى تلك الصور بعين الاشتباه والخذلان. ظهوره مبتسمًا إلى جانب فلاديمير بوتين، وتبادل العبارات “الودّية”، أثار استياء شريحة واسعة من السوريين رأوا في المشهد نوعًا من التجاهل لثقل الذاكرة السورية الجماعية، المحمّلة بما لا يُمحى من القصف، والتهجير، والإهانات المتكررة للسيادة الوطنية.
بالنسبة لهؤلاء، لا يمكن القفز على سجلّ روسيا في الحرب السورية، ولا القبول بتبييض دورها تحت ذريعة الواقعية. يرون في الخطاب الدبلوماسي المليء بكلمات “التعاون” و”الشراكة” تسطيحًا لمأساة معقدة، ومحاولة لإعادة تأهيل شريك دمويٍّ دون محاسبة. ويرى بعضهم أن هذه الزيارة تُشكّل مكافأة سياسية لروسيا، لا محاسبة تاريخية.
لا يمكن تجاهل أو استبعاد حضور روسيا من المشهد السوري كما نرغب أو نتمنى، روسيا لم تغادر منه أصلا لتعود. والأزمة في الجنوب السوري وعلاقاتها مع قسد ووجودها في الحسكة والقواعد في الساحل تجعل منها واقع حتمي. لكن ومع ذلك، الأهم هو التعامل مع هذا الواقع حول ما حدود وطبيعة هذه العلاقة،…
— Siba Madwar صِبا ياسر مدور (@madwar_siba) October 15, 2025
في المقابل، يرتفع صوت آخر يدعو إلى قراءة المشهد من زاوية مختلفة. يتساءل أصحاب هذا الطرح: هل تملك دمشق اليوم ترف القطيعة مع روسيا؟ الجيش السوري يعتمد على عتاد روسيٍّ متهالك، والبلاد تفتقر إلى منظومات دفاع فعّالة، فيما الجنوب السوري بحاجة إلى ضابط إيقاع بحجم موسكو لدرء أي انفلات ميداني. لا ودّ هنا، ولا إعجاب، فقط حاجة لتقليل الخسائر وتثبيت ما يمكن من الاستقرار في بلد يعاني من الهشاشة على كل الجبهات.
وقد اعتُبر تصريح الشرع خلال المؤتمر الصحفي بأن “سوريا ستلتزم بكل الاتفاقيات الموقعة مع روسيا” مؤشّرًا إضافيًا على رغبة دمشق في طمأنة موسكو، وتفادي أي اهتزاز في العلاقة، حتى في ظل الغضب الشعبي من مآلات تلك الاتفاقات. هذا الموقف يعكس فهماً سياسيًا براغماتيًا لتوازن القوى، لا رغبة في التصعيد أو القطيعة.
لانفرح ولا نهلل والزيارة خاصة بسياسة الدولة لما تراه في مصلحتها ويجب على الشعوب أن تبقي دوماً على الذاكرة والوعي حياً احتراماً لعشرات آلاف الضحايا والجرحى على يد الطيران الروسي المجرم ولعشرات المدن والبلدات التي دمرها لاتهلل ولا تفرح
وروسيا عدو إلى يوم القيامة https://t.co/0ahLczCz4P
— Omar Alhariri (@omar_alharir) October 15, 2025
بالنسبة لهؤلاء، فإن إعادة تعريف العلاقة مع روسيا لا تعني بالضرورة الغفران، بل الاعتراف بتوازنات جديدة، ومحاولة لتوظيف النفوذ الروسي بما يخدم مصالح الدولة السورية الجديدة. هم لا يطالبون بالنسيان، لكنهم يشككون في جدوى الخطاب الأخلاقي ما لم يكن مدعومًا بأدوات واقعية قادرة على حماية البلاد من الانهيار أو التبعية البديلة.
ومع كل هذا التباين، يبقى السؤال الكبير معلقًا في خلفية المشهد: إذا كانت العلاقة مع روسيا قدرًا لا مفرّ منه، فماذا نريد منها بالضبط؟
ماذا نريد من روسيا؟
في المشهد السياسي الجديد الذي تحاول دمشق رسم ملامحه، تبدو البراغماتية أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. ولعلّ التعامل الهادئ للحكومة السورية الجديدة مع الوجود العسكري الروسي – مقارنةً بما جرى مع الميليشيات الإيرانية – يكشف عن رغبة واضحة في إدارة الخلاف، لا تفجيره، وتحييد الخطر لا تصعيده.
سلوك موسكو نفسه بعد عملية “ردع العدوان” التي أسقطت بشار الأسد نهاية عام 2024، يشير إلى تغيّر في المقاربة الروسية. فلم تتدخل لإيقاف العملية، ولم تستخدم مقاتلاتها لحماية النظام كما كانت تفعل في السابق. وهذا الموقف غير المألوف يُقرأ لدى بعض المراقبين كمؤشّر على تفاهمٍ غير مُعلَن بين الطرفين، أو على الأقل قبول روسي بإعادة تشكيل العلاقة بما يتماشى مع الواقع الجديد في دمشق، وربما أيضًا مع تفاهمات أوسع تضمّ دولًا أخرى مثل تركيا.
ضمن هذه المقاربة، لا تطالب دمشق الجديدة باعتذار روسي – لأنها تعلم أنه لن يأتي – ولا تتوقّع تسليم بشار الأسد، رغم إدراج الملف ضمن محادثات العدالة الانتقالية، فروسيا لم تُسلّم سابقًا أيًّا من حلفائها المخلوعين، لا شيفرنادزه في جورجيا، ولا أكاييف في قيرغيزستان، ولا يانوكوفيتش في أوكرانيا. وبالتالي، فإن طرح هذا المطلب يبدو أقرب إلى تثبيت مبدأ العدالة، منه إلى انتظار نتيجة فعلية.
على الأرض، تتنوع الملفات على طاولة التفاوض، وتشمل اتفاق فصل القوات لعام 1974 مع “إسرائيل” قد يُعاد تفعيله أو تطويره بصيغة جديدة، تسمح لسوريا بتثبيت موطئ قدم سياسي دون الولوج في تطبيع شامل، خاصة بعد التصعيد الإسرائيلي الأخير في دمشق. وتُطرح فكرة نشر شرطة روسية على خطوط التماس، كوسيلة لردع أي تصعيد غير محسوب.
كذلك في الملف الأمني، تتقاطع المصالح في ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والوجود الروسي في مطار القامشلي، إضافة إلى تحديث منظومات الجيش السوري ومراجعة مستقبل القواعد الروسية في الساحل، خصوصًا تلك المرتبطة باتفاقات عسكرية وقّعتها موسكو مع النظام المخلوع.
في الملفات الاقتصادية، هناك عشرات الاتفاقات التي وقّعتها دمشق مع موسكو خلال سنوات الحرب، وبقيت نافذة حتى اليوم. أبرزها اتفاق استغلال مناجم فوسفات تدمر، الذي يمتد لخمسين عامًا، وتُمنح فيه شركة روسية خاصة نسبة 70% من الأرباح. يُضاف إليه عقد طويل الأمد لإدارة مجمّع الأسمدة في حمص، واتفاقات في الموانئ، والغاز، وحتى طباعة العملة الجديدة. المحادثات تشمل أيضًا التنسيق في مكافحة الإرهاب، خاصة في البادية السورية، حيث لا تزال خلايا تنظيم الدولة (داعش) نشطة.
من زاوية الاعتبارات الأخلاقية، لا يبدو أن سوريا الجديدة تطلب من روسيا أن تكون حليفًا أخلاقيًا، بل شريكًا سياسيًا يمكن التفاوض معه على أسس واضحة. وشراكة تُبنى على المصالح المتبادلة، لا على منطق الحماية أو الرعاية. لا ولاء مجاني، ولا عداء أعمى.
في نهاية المطاف، لا تبدو زيارة أحمد الشرع إلى موسكو تعبيرًا عن ثقة متجددة بروسيا، بقدر ما هي محاولة لإعادة ضبط العلاقة معها على أسس مصلحية صارمة. فالعلاقة التي صنعتها الحرب والدمار لا تُنسى بتوقيع أو مصافحة، لكنها قد تُروَّض بتوازن دقيق بين الحاجة والمحاسبة. وعليه؛ فالعلاقة مفهومة بضرورات المشهد، والزيارة محاولة لترويض علاقة قديمة ملغومة. علاقة تُدار بحساب بارد، ومصلحة عامة تُفهم في ظرفها، من دون أن تُغلق ملفات الجرائم، أو تُسحب موسكو من خانة المُدان إلى خانة الصديق.