منذ ما يقارب ثمانية عقود، شكّلت العلاقات السورية السوفيتية ثم السورية الروسية واحدة من أعقد نماذج التفاعل الجيوسياسي في الشرق الأوسط، علاقة تتجاوز إطار التحالفات التقليدية إلى شبكة كثيفة من المصالح العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية الممتدة عبر التاريخ. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، حين فتحت دمشق أبوابها للنفوذ السوفيتي في مواجهة المعسكر الغربي، إلى لحظة التدخل العسكري الروسي المباشر عام 2015، ظلّت موسكو لاعبًا حاضرًا في المعادلة السورية، لكن حضورها أخذ طابعًا متحوّلًا: من دعم سياسي وعسكري متدرّج إلى شراكة أمنية عميقة، ثم إلى وصاية قاسية فرضتها الحرب وموازين القوى الدولية.
ورغم أن موسكو قدّمت لنظام الأسد شريان الحياة الذي أنقذه من الانهيار العسكري أمام المعارضة المسلحة، فإن ثمن هذا التدخل كان باهظًا في ميزان السيادة السورية؛ إذ تحوّل الوجود الروسي إلى ما يشبه الهيمنة الممنهجة على القرار السيادي من خلال الاتفاقيات العسكرية الدائمة، والسيطرة على موارد حيوية كالفوسفات وميناء طرطوس، إضافة إلى النفوذ واسع التأثير في بنية الجيش والأمن والاقتصاد. ومع ذلك، لم تستطع روسيا –رغم قوتها– تقديم نموذج استقرار قابل للحياة داخل سوريا، بل تحوّلت إلى طرفٍ رئيسي في معادلة الحرب، محمّلة بملفات الإدانة الحقوقية وتراجع الثقة الشعبية السورية بها نتيجة آلاف الضحايا المدنيين الذين سقطوا بصواريخها وغاراتها الجوية.
وسط هذا الإرث الثقيل من الذاكرة الدموية والتحالف القسري، جاءت مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد لتفتح صفحة سياسية جديدة، حملت معها سؤالًا جوهريًا: كيف ستعيد سوريا صياغة علاقتها مع موسكو؟ هل ستواصل الانخراط تحت مظلة النفوذ الروسي أم ستفاوض لإعادة ضبط قواعد الشراكة على أساس الندية والسيادة الوطنية؟
من وصاية الماضي إلى شراكة المستقبل
منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، دخلت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة تجاوزت الشراكة التقليدية نحو وصاية سياسية وعسكرية واقتصادية عميقة. فقد ساهمت موسكو حينها في قلب موازين القوى لصالح نظام الأسد، لكنها في المقابل رسّخت نفوذها داخل مفاصل القرار السوري.
بمرور السنوات، تصاعدت الانتقادات لدور روسيا في سوريا، خصوصًا مع تزايد أعداد الضحايا المدنيين وتباطؤ مشاريع الإعمار التي وعدت بها حكومة نظام الأسد، وإجرامها بحق السوريين.
ومع وصول الرئيس أحمد الشرع، برزت رغبة سورية واضحة في إعادة صياغة العلاقة مع موسكو على أساس متوازن يحفظ السيادة ويخدم المصلحة الوطنية. وجاءت زيارة الشرع إلى موسكو يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 لتجسّد هذا التوجه الجديد.
أحدثت الزيارة انقسامًا في الشارع السوري وبين النخب السياسية. فبينما رأى البعض أنها تنازل مؤلم أمام دولة شاركت في مأساة السوريين، اعتبرها آخرون خطوة واقعية وضرورية لإعادة الانخراط في المنظومة الدولية وتحقيق الاستقرار الداخلي، ويرى المحلل السياسي السوري الروسي ديمتري بريجع أن “الزيارة تشكّل حجر الأساس لمرحلة جديدة من العلاقات الروسية السورية”، موضحًا أنها “تستهدف وضع رؤية استراتيجية للتعاون في مجالات الدفاع والاقتصاد وإعادة الإعمار”.
ويشير بريجع في حديثه لـ “نون بوست” إلى أن “زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى العاصمة الروسية موسكو تأتي في توقيت بالغ الحساسية، وتشكل حجر الأساس في مرحلة جديدة من العلاقات الروسية السورية”. موضحًا أن “هذه الزيارة تحمل بعدًا استراتيجيًا عميقًا، إذ تهدف إلى وضع رؤية واضحة للتعاون بين البلدين في مجالات الدفاع، الاقتصاد، وإعادة الإعمار”.
بريجع يقيّم أهمية الزيارة بالنسبة للجمهورية العربية السورية بأنها “تكمن في الحصول على دعم روسي فعّال لتدريب الجيش وإعادة تأهيل قدراته الدفاعية بما يضمن أمن البلاد واستقرارها بعد سنوات من الحرب”.
إضافة إلى الجانب العسكري، تأتي مسألة إعادة إعمار سوريا كأولوية وطنية كبرى، فـ “الأرض السورية اليوم هي أرض المعمار والبناء، وتحتاج إلى جهود مكثفة من روسيا، ومن دول الجوار، وكذلك من الدول الصديقة التي يمكن أن تسهم في دعم هذه العملية التاريخية” وفقًا لبريجع. لذلك، من الضروري أن تبدأ دمشق وموسكو صفحة جديدة تقوم على التعاون العملي والتخطيط الواقعي، بعيدًا عن الشعارات والمصالح المؤقتة.
هذه الزيارة تفتح الباب أمام صياغة سياسة واضحة واستراتيجية طويلة الأمد، تركز على التنمية والأمن والاستقلال الوطني. إن بناء استراتيجيات مدروسة والعمل المنظّم على تنفيذها من قبل الجمهورية العربية السورية سيضمن أن تكون هذه المرحلة بداية حقيقية لنهضة جديدة، عنوانها السيادة، التعاون، وإعادة بناء الدولة السورية الحديثة بدعم من شريك استراتيجي موثوق هو روسيا الاتحادية.
أوراق ضغط سورية
تشير المعطيات السياسية والاقتصادية الراهنة إلى أن دمشق تمتلك أوراقًا تفاوضية مهمة يمكن استثمارها في مقايضة الديون الروسية المتراكمة، بما يحقق توازنًا جديدًا في العلاقات بين البلدين، ومع وجود ثلاث اتفاقيات قائمة تُشكّل محورًا أساسيًا في النفوذ الروسي داخل سوريا، وهي: القواعد العسكرية وتأجيرها، اتفاقية الفوسفات، إضافة إلى النفوذ الروسي الممتد على المتوسط عبر اتفاقية ميناء طرطوس. هذه الاتفاقيات، وبسبب أهميتها الاستراتيجية لموسكو، يمكن أن تكون أدوات ضغط فعّالة بيد دمشق في حال تم التفاوض عليها.
في المقابل، من الممكن أن تُثمر مثل هذه المقايضات عن نتائج ملموسة، أبرزها إلغاء قسم كبير من الديون المُترتبة على سوريا لصالح روسيا، حيث دعمت روسيا نظام الأسد، مما ترتّب عليه ديون تحملتها الدولة السورية، وفتح باب التفاوض حول تسليم بعض القيادات المطلوبة من الرتب المتوسطة في سلّم نظام الأسد، فضلًا عن الحصول على ملفات حساسة تغطي مجريات الأحداث في سوريا خلال السنوات الماضية.
الرئيس بوتين: مستعدون لإنجاز المشاريع المشتركة مع سوريا pic.twitter.com/0ra2rFatfQ
— نون سوريا (@NoonPostSY) October 15, 2025
ومع تراكم المؤشرات وتبدّل أولويات موسكو في الساحة الدولية، يبدو أن مثل هذا التفاهم ليس ببعيد المنال، بل ربما يكون الخيار الواقعي الذي سيتبلور قريبًا ضمن صفقة سياسية واقتصادية تسعى فيها كل الأطراف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل كلفة ممكنة.
يرى الخبير بالشأن الروسي الدكتور محمود حمزة أن الزيارة جاءت بدعوة مباشرة من الرئيس فلاديمير بوتين، واصفًا إياها بأنها “اختراق في العلاقات الدولية” بعد مرحلة من الفتور. ويضيف أن روسيا تسعى للحفاظ على حضورها في سوريا بعد خسائرها الجيوسياسية في السنوات الأخيرة، بينما تبحث دمشق عن شراكة واقعية تساهم في إعادة الإعمار وتثبيت الاستقرار.
ويؤكد حمزة لـ “نون بوست” أن القيادة السورية الجديدة “تتعامل ببراغماتية عالية، مدركة أن العلاقات الدولية تُبنى على المصالح لا على الذاكرة المؤلمة”، مشيرًا إلى أن موسكو، “رغم مسؤوليتها التاريخية عن معاناة السوريين، تبقى قوة لا يمكن تجاهلها في مسار استقرار المنطقة”.
كواليس اللقاء الرئاسي
تم استقبال الرئيس الشرع في القاعة الخضراء بالكرملين، وهي قاعة البروتوكولات المخصصة لرؤساء الدول، في دلالة رمزية على مكانة دمشق بالنسبة لموسكو. واستمر اللقاء مع الرئيس بوتين نحو خمس ساعات، ناقش خلالها الطرفان ملفات التعاون العسكري والاقتصادي، إضافة إلى إطلاق محادثات حول إعادة الإعمار.
وفي لقائه مع الجالية السورية في روسيا، قال الشرع إن “سوريا لا تسعى لعداوات جديدة، بل تبحث عن الاستقرار لكي تتفرغ للإعمار”، مضيفًا أن العلاقة مع روسيا “تقوم على المصالح المتبادلة واحترام السيادة الوطنية”.
وتحمل الزيارة رسائل متبادلة للطرفين، لموسكو؛ تأكيد على استمرار الحضور الروسي في الشرق الأوسط ومحاولة استعادة نفوذها بعد الإخفاقات الميدانية في أوكرانيا وسوريا، ولدمشق: إعلان عن انطلاق نهج سياسي جديد يوازن بين الانفتاح على الحلفاء والتمسك بالقرار الوطني المستقل.
ويرى متابعون أن نجاح هذه الزيارة يرتبط بقدرة القيادة السورية على ضبط مسار التعاون بحيث لا يتحول إلى تبعية، وبقدرة موسكو على التعامل مع سوريا كشريك لا كملف سياسي مؤقت.
وبالتالي، تأتي زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى موسكو كاختبار مبكر لسياسة القيادة الجديدة في دمشق. فهي براغماتية بحساب المصالح، وضرورة تفرضها الجغرافيا والتاريخ. لم تعد سوريا في موقع يسمح لها بالمواجهة أو الانعزال، ولا يمكنها تجاهل روسيا التي تملك مفاتيح مهمة في الأمن والإعمار.
إنها زيارة توازن بين الذاكرة والمصلحة، بين الماضي المثقل بالحرب والمستقبل الممكن بالتعاون المدروس. وقد تكون هذه الزيارة بداية لصفحة جديدة من العلاقات السورية الروسية، عنوانها: السيادة، التنمية، والعقلانية السياسية.